بسم الله الرحمن الرحيم
عندما ترتطم أمواج البحر الهائج وتتضايق ملمات الحياة وتزداد الخطوب المؤلمة..عندها لا يجد المرء غير ربه - سبحانه -، يبث إليه شكواه، ويناجيه في جوف الليل البهيم، بكلمات صادقة ودعاء لحوح مخلص.. أن ينجيه الله مما يكره ويقربه من كل ما يحب...
والمؤمن المتصل بربه برباط
وثيق يفزع إلى كتاب ربه القرآن فتهدأ نفسه بقراءته وتطمئن روحه بقربه وتسليته وتأمن ذاته بالإيمان بمعانيه.
والقلب الصدوق يتعلق بالقرآن الكريم فلكأن القرآن دائما قنديل يضيء ظلمته وكوكب دري يوقد من شجرة مباركة يمدها الحق واليقين.
وعندما ينتشي العبد الصالح بينما هو يقرأ القرآن نشوة الشعور بقدر النعمة ويتدبره تفيض آثار القرآن على جوارحه عامة.. فهو يرى بالقرآن ويسمع بالقرآن ويتحرك بالقرآن.. لكأنما قرآن يتلى كلما ترك بصمة إيمان وتقوى في كل مكان يحضره.. قال الله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ".الأنفال:2
عندما ترتطم أمواج البحر الهائج وتتضايق ملمات الحياة وتزداد الخطوب المؤلمة.. عندها لا يجد المرء غير ربه - سبحانه -، يبث إليه شكواه، ويناجيه في جوف الليل البهيم، بكلمات صادقة ودعاء لحوح مخلص
نظرة لمقدار النعمة:
إن العبد الصالح ليتأمل قدر تلك النعمة العظيمة التي اختص الله - سبحانه - بها تلك الأمة وهي القرآن المجيد، فأي فضيلة تكافئ ذاك الخير العميم وتلك الرحمة الربانية؟
يقول - سبحانه -: " هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ "الأعراف:203
وقال - سبحانه -: " قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ".المائدة 15: 16
وقال - سبحانه -: " وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى.. ".الرعد:31
وقال - سبحانه -: "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ".العنكبوت:51
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر، وإنما كان
الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة "ي
قول ابن مفلح ناصحا حامل القرآن بشكر تلك النعمة العظيمة " أن يعتقد جزيل ما أنعم الله عليه إذ أهله لحفظ كتابه، ويستصغر عرض الدنيا أجمع في جنب ما خوله الله تعالى ويشكره.
فاقة في القلب لا يسدها غير القرآن..
إن بالقلب لفقرا وفاقة مستشعرة من كل أحد كما يستشعر بنقص ذاتي في إيمانه كلما عصى ربه وخالف أمره، ومن ثم فهو بحاجه لسد ذاك الثلم وإبعاد تلك الفاقة بالتوبة وبالقرآن وتدبره وتعلم مقاصده سد لذاك الخلل والذوبان في آفاقه علاج لتنلك الوحشة..
قال الله - سبحانه -: " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... " الحديد:16، قال محمد بن كعب: كان الصحابة في مكة مجاهدين فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عما كانوا فيه فقست قلوبهم فوعظهم الله فأفاقوا " تفسير القرطبي، وعن ابن عباس قال، قال أبو بكر: يا رسول الله أراك قد شبت! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "شيبتني هود وأخواتها " أخرجه الترمذي.
ويقول ابن مسعود: "إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ولكن إذا وقع في القلب فرَسخ فيه نفع "
وقال جندب بن عبد الله: " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيان فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ".
إن العبد الصالح ليتأمل قدر تلك النعمة العظيمة التي اختص الله - سبحانه - بها تلك الأمة وهي القرآن المجيد
وقال النووي - رحمه الله -: " ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع فهذا هو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب ودلائله أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر " قال الله - سبحانه -: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ... " الزمر:23.
الصالحون لا يقرؤون القرآن إلا تدبرا..
قال الله - سبحانه -: "قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ".الإسراء 107: 108
قال القرطبي: " فكانت حالهم يعنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
وأصحابه الفهم عن الله والبكاء خوفا منه "
فالصالحون هكذا دائما وقافون عند تدبر الآيات يرددونها ويتفهمون معانيها،
فقد أخرج أحمد من رواية أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بآية حتى أصبح يرددها والآية "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "المائدة:118
ووقف تميم بن أوس الداري رضي الله عنه بآية يقرؤها ويرددها في جوف الليل الآخر حتى أصبح قوله تعالى1: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" الجاثية:21
وقال ابن أبي مليكة: سافرت مع ابن عباس من مكة إلى المدينة فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفا حرفا ثم يبكي حتى نسمع له نشيجا ".
ويقول إسحاق بن إبراهيم عن الفضيل بن عياض: " كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنسانا، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها ويسأل ".
وقال محمد بن كعب: لأن أقرأ " إذا زلزلت الأرض زلزالها والقارعة أرددهما وأتفكر فيهما أحب إلى من أن أهز القرآن كله هزا".
قال النووي: وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظمها يتدبرها عند القراءة "
وقال ابن القيم: " هذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصبح "
السبيل العملي التربوي لتدبر القرآن
لاشك أننا بحاجة جميعا إلى تدبر السبل العملية التي ننهجها لتدبر هذا القرآن العظيم اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه والصالحين، ونحن نقف معك أخي القارئ الكريم عند مجموعة من السبل العملية التي لا ينقصها سوى العزم على التطبيق والمداومة عليه:
1- عقد العزم واستحضار النية لتدبر القرآن، فلا يكون التدبر عابرا بل يكون عبادة كأي عبادة تلزمه النية المنعقدة المخلصة لله وحده، قال الشافعي: " حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستذكار من علمه والصبر على كل عارض دون طلبه وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصا واستنباطا والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك إلا بعونه ".
2- اعتبار الإنسان نفسه هو المخاطب بآيات القرآن التي يقرؤها، يقول ابن القيم: " أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلو من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلو فقد ورثهم من هو
مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن كتناوله لأولئك " (مدارج السالكين)، وقال محمد بن كعب: " من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله ".
3- الانفراد والوحدة والتفكر: فقد قال الله تعالى: " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ " البقرة:219 ويقول الحسن البصري: " مازال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة " ويقول ابن القيم: " التفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه.
4- محاولة التطبيق الفوري للأوامر والانتهاء الفوري عن النواهي: قال ابن مسعود في قوله تعالى: " يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ "القرة:121 قال: والذي نفسي بيده إن حق التلاوة أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرؤه كما أنزله الله ".
ــــــــــــــــــــــــ
مراجع للموضوع:
1- مدارج السالكين للإمام ابن القيم.
2- مفتاح دار السعادة للإمام ابن القيم.
3- تدبر القرآن للسنيدي.
4- التبيان في آداب حملة القرآن للنووي.
5- مختصر منهاج القاصدين للمقدسي.
تعليق