دعا الله عز وجل عباده إلى التدبر فيما أنزله إليهم من آيات كتابه العزيز بصور متعددة؛ فبين أن هذا التدبر هو المقصود بإنزال القرآن بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وأنكر على من أعرض عن تدبره كما في قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]،
وأوجب التدبر -كما قال الشوكاني(1)- بدلالة قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
وإذا كان ما سبق يدل على أهمية التدبر من جهة الشرع، فقد دل العقل على ذلك أيضاً، فمن لوازم استخلاف الله عز وجل بني آدم في الأرض كما في قوله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، أن يبين لمن استخلفهم منهجاً بيناً واضحاً يؤدون به حق الخلافة على الوجه الذي يرضيه،
وقد كان هذا يتم بما يوحيه إلى أنبيائه من الشرائع عبر الزمان، فلما آلت الخلافة لهذه الأمة الخاتم، وأنزل عليها هذا الكتاب العظيم الذي لا كتاب بعده، كان لا بد أن يحوي بين دفتيه منهج تحقيق الخلافة، ولكي تتعرف الأمة على تفاصيل هذا المنهج فلا بد لها من تدبر آياته؛ والمراد به كما قال العلامة السعدي رحمه الله: "التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك" (2)، أي: ولوازم ذلك من العمل والاتباع.
إن المتأمل في حال المسلمين مع كتاب الله اليوم لا تخطئ عينه ما يُرى من إقبال أعداد كبيرة منهم؛ رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، على كتاب الله عز وجل بالتلاوة والحفظ؛ فجمعيات التحفيظ منتشرة في طول البلاد وعرضها، والمساجد تمتلئ بحلق التلاوة والتحفيظ، ودورات التحفيظ تخرج كل عام العشرات والمئات من الحفاظ، حتى قيل إن هذا العصر هو العصر الذهبي لحفظ القرآن الكريم. وهذا بكل تأكيد مما يثلج الصدور،
لأنه يدل على حرص الأمة بمجموعها على كتاب ربها عز وجل، وحرصها على تحصيل الأجر العظيم الذي وعد الله به عباده التالين لكتابه والحافظين؛ إلا أن المؤسف أن هذا الإقبال على التلاوة والحفظ لا يصحبه إقبال يماثله أو يقرب منه في باب التدبر والفهم، حتى صرنا نرى من يتم حفظ كتاب الله عز وجل، ولا يعرف معنى كلمات من أوائل السور التي يحفظها صغار الطلاب.
وقد سجل أحد المسؤولين عن حلقات التحفيظ ملاحظات عديدة في هذا المجال، كان منها قوله: "ظهر لي عدم تدبر أكثر الطلاب لقراءة القرآن الكريم، من خلال عدم مراعاتهم للوقف والابتداء أثناء تسميعي لهم في الحلقات أو في الاختبارات والمسابقات، فيقف -الطالب- وقفاً عجيباً، ويبتدئ ابتداءً غريباً, يدل على عدم التدبر والتأمل" (3).
إن هذه الحال مخالفة للحال التي أمر الله عز وجل بقراءة القرآن عليها، فقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] أي بتمهل وترسل، قال ابن كثير: "فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره" (4)، فجعل الفهم والتدبر علة للأمر بقراءته مرتلاً، وقال الشوكاني: "أي: اقرأه على مهل مع تدبر" (5)، فجعل التدبر داخلاً في معنى الترتيل.
ومن جهة أخرى، فيُخشى أن تكون حال من يقرأ ويحفظ دون تدبر كحال من سبقنا من الأمم التي عاب الله عليها مثل ذلك، كما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، قال ابن عاشور رحمه الله: "قيل: الأماني القراءة، أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها لا يفقهون منها معنىً، كما هو عادة الأمم الضالة؛ إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم" (6).
وأما الاكتفاء بالتلاوة دون عمل -وهو من لوازم التدبر- فمصيبة عظيمة وكسر لا ينجبر، وقد مثَّل الله عز وجل في القرآن الكريم لمن يحمل العلم ولا ينتفع به بأسوأ وأقبح مثل، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]،
وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175،176]، فيخشى على من قرأ القرآن ولم يتدبره ويتأثر به ويعمل به أن يلحقه شيء من ذلك.
إن من تدبر القرآن الكريم حق التدبر حصَّل من المنافع والمصالح الدنيوية والأخروية، ما لا يعلمه إلا الله، ومن أعظمها ما ذكره العلامة السعدي رحمه الله بقوله: "من فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً" (7)،
ولهذا لم ينته إخواننا من الجن إذ سمعوه حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ} [الجن: 1،2]، ومنهم من سمع القرآن {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، وما هذا إلا لشدة تأثرهم النابع من التدبر والتفكر.
وقد قال ابن القيم رحمه الله كلاماً يكتب بماء الذهب، قال: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته" (8)، وصدق رحمه الله، فإن التدبر في كتاب الله مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر، قال السعدي رحمه الله: "تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير، وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته.
فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد علماً وعملاً وبصيرة" (9)، جعلنا الله والقارئين وجميع المسلمين ممن يتلون القرآن الكريم حق تلاوته، ويتبعون التلاوة بالتدبر والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
______________
(1) فتح القدير 2/180.
(2) تفسير السعدي 1/189-190.
(3) إسهام جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في بناء الأجيال، الواقع والمأمول، ص611-628.
(4) تفسير ابن كثير 8/250.
(5) فتح القدير 7/336.
(6) التحرير والتنوير 1/358.
(7) تفسير السعدي 1/189.
(8) مدارج السالكين 1/451.
(9) تفسير السعدي 1/189-190
تعليق