القواعد الذهبية لحفظ القرآن الكريم
القواعد الذهبية لحفظ القرآن الكريم
لما كان حامل القرآن الكريم يحظى بشرف عظيم، كان لزاما على من أراد أن يحظى بهذا الشرف أن يعرف القواعد الذهبية في حفظ وضبط وإتقان القرآن الكريم، وقد ذكر حملة القرآن الكريم عدة قواعد في الحفظ والضبط، أخذت من تجارب الحفاظ، ودعمت بالآيات والأحاديث. وهذه القواعد بإيجاز كما يلي:
1 - الإخلاص:
وهو لازم من لوازم أي عمل يتقرب به إلى الله. قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 11].
وإذا كان الأمر بإخلاص العبادة لله في كل شئون المسلم، فإن هذا الأمر يتأكد ويتعين على حفظة القرآن الكريم، لأنهم أمناء على رسالة الوحي الخالدة، كما أنهم لا يبتغون على حفظهم أجرا ولا جزاء من أحد، لذلك جاء الوعيد الشديد في حديث: «أول ثلاثة تسعر بهم النار» (1). فجاء أولهم قارئ القرآن الذي قرأه وعلمه ليقال عنه: إنه قارئ.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن رب العزة: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (2).
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
2 - تصحيح النطق:
ويكون ذلك بالقراءة على المشايخ، والتلقي منهم مشافهة، ولا يصلح لتلقي القرآن الكريم، وضبط قراءته، الاستماع من شريط أو من أي آلة، ولكن لا بد من العرض على
القراء وأهل الأداء.
وهذه الطريقة اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم- وهو أفصح من خلق الله- في تلقي القرآن الكريم، حيث إنه كان يتلقاه من أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما أنه كان يعرض القرآن على جبريل، يعني يقرأ ويسمع جبريل، وهذا تمام التأكد على وصول الرسالة مؤداة على الوجه الأتم الأكمل.
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن على جبريل مرة في كل سنة، فلما كان العام الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام- عرضه مرتين زيادة في الاطمئنان والضبط والإتقان.
وقد جربت هذا في التلقي عن علماء القراءات، فكنت كلما قرأت ختمة جديدة على أحدهم، ازددت ضبطا وإتقانا، فكانت ملاحظاتهم- حفظهم الله- تجدد عليّ نفعا وفائدة في كل ختمة.
وأذكر عن شيخي وأستاذي فضيلة الشيخ/ سعيد علي حماد أنه كان يسافر إلى أساتذته ليضبط حرفا أو كلمة، وذات مرة التبس عليه الأمر في قراءة الكلمة من سورة القصص «اتبعكما» في قوله تعالى: قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35].
فسافر الشيخ سعيد إلى المدينة المنورة، والتقى بفضيلة الشيخ الدكتور/ إيهاب فكري وصحح عليه قراءة هذه الكلمة.
وتلقي القرآن من أهله وعلمائه، وعرضه عليهم هي الطريقة التي علّم بها الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام، فكان يقرأ عليهم، ويقرءون عليه. وحديث عبد الله بن مسعود في السنة الصحيحة يبين ذلك، حينما طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه، فقال ابن مسعود متعجبا: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال له الأمين صلى الله عليه وسلم: «إنني أحب أن أسمعه من غيري» إنها الأمانة العظيمة، والحرص البالغ للتأكد من أن الصحابة يقرءون القرآن كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حرص الصحابة شديدا على تعليم التابعين، وحرص التابعون كذلك على تعليم من بعدهم، وهكذا، حتى وصل القرآن إلينا بهذه الطريقة- التلقي بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولله الحمد. وفي زماننا هذا، ما تزال هذه الطريقة موجودة معروفة عند أهل القرآن، وما تزال الإجازات تعطى من قبل المشايخ لطلابهم بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومهما بلغ تمكن المسلم وتفوقه في اللغة العربية، فلا بد له من تلقي القرآن بهذه الطريقة، فقد كان العرب الأوائل- وهم أفصح منا- لا شك في ذلك بل إننا لم نعد عربا بألسنتنا، لقد كانوا وهم أهل اللغة وأربابها لا يعرفون في تعلم القرآن غير هذه الطريقة (طريقة العرض والتلقي).
ورب قائل يقول: وأين المشايخ وأهل القرآن؟ وكيف أصل إليهم؟
والجواب على ذلك: إنهم موجودون، فلا تخلو بلدة، ولا قرية من كتّاب ومحفظ، ومعاهد القرآن منتشرة، وحلقات التدريس في المساجد قائمة، كما أنك لن تعدم صديقا أو زميلا يحسن ويجيد التلاوة فتقرأ وتتعلم معه، من سلك وسأل عرف، ومن عرف وصل.
3 - تحديد كمية الحفظ:
إن لكل إنسان طاقة، وكل إنسان يختلف عن غيره في الذاكرة، ومن الخطأ أن يحمل الإنسان نفسه فوق طاقتها، لأن لذلك أضرارا منها:
(أ) عدم ضبط ما يحفظ.
(ب) بذل جهد فوق طاقة الإنسان.
(ج) عدم القدرة على السير والمواصلة والاستمرار.
والله تعالى أرشدنا إلى ذلك في كتابه فقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286]. وقال سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق: 7]: ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك: «لا تعملوا من الأعمال إلا ما تطيقون».
فمن أراد حفظ القرآن الكريم فهو أعلم بطاقته، ووقته، فيرتب في ذهنه زمنا معينا لحفظ القرآن الكريم، ويضع خطة عريضة، تشمل الشهر والأسبوع واليوم، فيلتزم بها، وليعلم أن التكرار لازم للحفظ، وليحرص على الحفظ بنغمة يحبها حتى لا يمل من التكرار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» (1).
ويستحسن الترديد جهرا، فقد أثبتت الدراسات أنه كلما ازداد عدد الجوارح المشاركة في عملية التعلم، كان ذلك أدعى للحفظ والفهم.
4 - اختيار الزمان والمكان المناسبين:
وهذا من الأهمية بمكان، ففي وقت الظهيرة واشتداد الحر يصعب الحفظ، كما يشق الحفظ إذا كان الإنسان مشغول الذهن، وأفضل أوقات الحفظ والوعي
(1) متفق عليه.
وقت السحر، وبعد صلاة الصبح. «وأجود الأوقات للحفظ: الأسحار، وللبحث: الأبكار، وللكتابة: وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة: الليل» (1).
كما أن مكان الحفظ مهم جدّا، فلا يصلح مكان العمل مكانا للحفظ، ولا تصلح وسيلة المواصلات كذلك، كما أنه لا يصلح مكان يتجمع الناس فيه ليكون مكان حفظ، وأفضل
مكان هو المسجد، أو في الخلاء بين المزارع، أو في البر، ويحفظ الإنسان في بيته في غرفة خالية، بعيدا عن إزعاج أطفاله.
5 - لا تنتقل لحفظ جديد حتى تضبط القديم:
إنك إذا انتقلت لحفظ جديد، دون أن تضبط القديم كما ينبغي، تشتت ذهنك، فلن تضبط جديدا ولا قديما، وكان القرآن في ذهنك مشوشا، وذلك لأن القلوب والعقول أوعية، ولكل وعاء قدر يحفظه، فلا تتجاوزنّ قدر وعائك.
وأوصيك بتكرار ما تحفظ في صلاة النوافل، وبخاصة قيام الليل، فقد أرشدني أخي وأستاذي الدكتور محمود عبد الملك إلى هذه الطريقة فقال لي: إذا حفظت شيئا فتهجد به في يوم حفظك، وادع الله أن يعيه عقلك وقلبك، ففعلت فأفدت كثيرا، بارك الله فيه.
6 - حافظ على رسم واحد لمصحفك:
إذا بدأت الحفظ في مصحف له رسم معين، وعدد سطوره معروفة فلا تحفظ، ولا تقرأ في غيره، وذلك لأن عقل الإنسان يحفظ الجزء في مضمون كله؛ بمعنى: أن العقل يرسم الصفحة ويحدد موقع الكلمة فالعقل يحفظ الكلمة وهي الجزء في مضمون الكل وهي الصفحة.
وقد التقيت بإخوة حفظوا على طبعة معينة ذات أسطر محددة، وسافروا وتركوا مصاحفهم، ولم يجدوا في أماكن إقامتهم الجديدة مصاحف طبعتهم التي
(1) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل.
حفظوا عليها، فغيروا فتشتت الحفظ.
لذلك فإني أنصح إخواني باختيار طبعة منتشرة معروفة يسهل العثور عليها في أي مكان.
7 - حافظ على ترابط السورة:
إن سور القرآن- خاصة الطوال منها- لها أحداث متسلسلة متتابعة، فاحرص على حفظ هذا التسلسل، واربط أحداث السورة ترابطا جيدا، فاعرف أول السورة وآخرها، واربط أولها بآخرها.
ومن طرائف اختبارات القرآن الكريم، ما يحكي عن فضيلة الشيخ محمود خليل الحصري يرحمه الله، أنه أمر طالبا بقوله: أكمل بعد قول الله تعالى:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89] وهذه آخر آية في سورة الزخرف فأخذ الطالب يقلب ذهنه عن الآية بعدها.
ومن طرائف مشايخ الكتّاب أنهم يصلون آخر كل سورة بأول التي تليها وهذا غاية الضبط والإتقان.
فإن صعب عليك هذا الترابط فإن:
8 - الفهم طريق الحفظ:
والمقصود بالفهم: الفهم العام لمضمون الآيات، وترتيب هذا الفهم في الذهن بحيث لا يختلط ولا يتداخل، ومما يعين على هذا الفهم التدبر الواعي للآيات. لذلك قال الله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] فهذه الآية نص صريح يوضح أن التدبر والفهم يفتح القلوب والعقول فتحفظ.
فإذا عجزت بعد ذلك فإن:
9 - التفسير معين ومساعد:
احرص على قراءة تفسير ولو بسيط وسهل للقرآن الكريم، وهناك تفاسير
بهوامش المصاحف، ومنها: تفسير الجلالين، ومختصر تفسير الطبري ولكن احرص على أن يكون هذا المصحف هو نفس مصحفك الذي تحفظ منه، وإلا فهناك كتاب: «تفسير القرآن كلمات وبيان» لشيخ الأزهر: محمد حسنين مخلوف.
10 - العناية بالمتشابهات:
إن العناية بالمتشابهات هي غاية الضبط في الحفظ والإتقان، وما كان شيء يشق عليّ حفظه في القرآن الكريم من الآيات المتشابهة.
والقرآن متشابه في ألفاظه ومعانيه قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7].
وإذا كان عدد آيات القرآن الكريم يزيد على ست آلاف آية، فإن هناك قرابة الألفي آية فيها تشابه كبير، يصل أحيانا إلى درجة التطابق.
ولأهمية ضبط المتشابه في القرآن الكريم، نجد أن العلماء قد اعتنوا به عناية فائقة فألفوا فيه الكتب ومن أشهرها:
1 - كتاب «البرهان في توجيه متشابه القرآن» للشيخ محمود بن حمزة الكرماني.
2 - كتاب «فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن» للشيخ زكريا الأنصاري.
3 - كتاب «كشف المعاني في المتشابه من المثاني» للشيخ بدر الدين بن جماعة.
وقد ألف أخي الأستاذ الشيخ السيد محمود محمد سند كتابا في المتشابه عنوانه: «أوجز البيان في متشابه القرآن» وقد أفدت منه.
11 - التسميع والتسابق مع الحفاظ:
فليتخير حافظ القرآن رفيقا له يسمع عليه، ويا حبذا لو كان ضابطا ويكون التسميع متبادلا بينهما، على شكل مسابقة، فكل حافظ لديه علامات في رأسه، يستفيد منها رفيقه، وقد استفدت كثيرا من هذه الطريقة، فأفدت من شيخ قرأت عليه فعرفني طريقة ترتيب ما التبس في الذهن عن طريق حروف الهجاء مثل الآيتين في سورة الصافات: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 50] فقال لي الشيخ عبد العزيز ندا- وكنت أقرأ عليه قراءة الإمام أبي عمرو البصري قال- لي: «إن ترتيب هاتين الآيتين عكس حروف الهجاء فالواو بعد الفاء وقد سبقتها في الآية الأولى.
فأفدت من طريقته وأخذت أطبقها على آيات كثيرة.
وكان لي شيخ بدأت الطلب معه، هو فضيلة الشيخ سعيد حماد كثيرا ما سمّع لي وقرأت عليه، تارة عن طريق الاختبار منه، وأخرى عن طريق التسميع فأفدت منه، وأفدت من هذه الطريقة.
وأقول: إنني استفدت من عدد من الإخوة كانوا يقرءون عليّ، بل إنني استفدت من طريقة أخ كان مبتدئا في الحفظ وكنت أسمع له.
وخلاصة القول: ألّا يعتمد الحافظ على التسميع على نفسه بل لا بد من التسميع على غيره أو التسميع لغيره.
12 - معاهدة القرآن الكريم:
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهمية تعاهد القرآن الكريم.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعاهدوا هذا
القرآن فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها» (1).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت» (2).
إن القرآن الكريم ليس كأي محفوظ آخر، فهو سريع الهروب من الذهن بخلاف الشعر، والحكمة في ذلك أن يظل الحافظ للقرآن مرتبطا به لا يفارقه، فإذا فارقه نسيه، وقد حفظت متونا: شعرا ونثرا فأمسكها ذهني زمنا دون مراجعة، بخلاف القرآن الكريم الذي يحتاج إلى التعهد الدائم ليظل الحافظ مرتبطا بكتاب الله تعالى.
13 - اغتنام سنوات الحفظ:
إن مراحل عمر الإنسان تتفاوت في تحصيل وحفظ العلوم وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث الاغتنام «اغتنم خمسا قبل خمس» فذكر منها:
«شبابك قبل هرمك».
لذلك حرص الصحابة على تحفيظ أولادهم القرآن الكريم في سنيهم المبكرة، كما أننا نجد كثيرا من الأئمة الأعلام قد حفظوا القرآن كاملا دون سن العاشرة؛ فحفظ الإمام الشافعي وهو ابن سبع، وحفظ الإمام أحمد بن حنبل في تمام العاشرة.
ولما أدركت الجاحظ الشيخوخة كان ينشد هذين البيتين متحسرا متألما:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب؟
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
ويمكننا أن نقسم سنوات الحفظ ومراحل العمر حسب القدرة على الاستيعاب كما يلي:
1 - من 5 سنوات إلى 10 سنوات مرحلة ذهبية.
2 - من 10 سنوات إلى 14 سنة. مرحلة ذهبية* من حفظ في هاتين المرحلتين يصعب نسيانه.
3 - من 14 سنة إلى 23 سنة. مرحلة فضية.
4 - من 23 سنة إلى 35 سنة. مرحلة برونزية.
ولكنني أقول: إنه لا يصعب على أي مسلم في أي مرحلة من عمره أن يحفظ القرآن الكريم، إذا عزم على ذلك، وعرف الله صدقه، فكلمة المستحيل لا يعرفها عقل المسلم ولا خياله.
وقد رأيت أخا بدأ في حفظ القرآن بعد الأربعين فأتمه في سنتين ونصف وكان ضابطا متقنا.
والأعجب من ذلك أنني أعرف رجلا بدأ في حفظ القرآن بعد الخمسين ثم تلقى عن المشايخ، وسافر عدة بلدان يقرأ عليهم، وحصل على إجازات كثيرة في القراءات السبع، ثم العشر الصغرى، ثم الكبرى، وقد أصبح الآن عالما يسافر الطلاب إليه ويقصدونه، ولم يبدأ إلا بعد سن الخمسين فلا تكسلن أيها المسلم عن الحفظ والتعلم في أي عمر كنت.
كان إبراهيم بن المهدي كبيرا في السن، فدخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه فقال له المأمون: يا عم ما عندك فيما يقول هؤلاء؟ فقال:
يا أمير المؤمنين شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر. فقال المأمون: لم لا تتعلمه اليوم؟ قال: أو يحسن مثلي طلب العلم؟ قال: نعم. والله لأن تموت طالبا للعلم خير من أن تعيش قانعا بالجهل.
14 - الصلاة خلف إمام حافظ متقن:
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيحفظونها عنه.
إن الصلاة خلف إمام حافظ متقن تشجع المسلمين على الحفظ، لأن الإمام قدوة، كما أنها تجعل الحافظ الذي يصلي خلف هذا الإمام متيقظا دائما، ليرد على الإمام خطأه إذا أخطأ.
وفي هذا نداء وتوجيه إلى الأئمة- بارك الله فيهم- بأهمية حفظ القرآن الكريم والقراءة به كاملا في صلواتهم، ولتكن لهم ختمات في صلواتهم الجهرية دون إطالة.
15 - حافظ على الورد:
إذا أتم المسلم حفظ القرآن الكريم، فلا يقنع بذلك ويكسل، بل لا بدّ من ورد يومي ثابت لا يقل عن جزء، يراجعه دائما من حفظه، وبكثرة مراجعته يتعرف على نقاط ضعفه، ويتعرف على المواضع التي تلتبس عليه، فيرعاها بالاهتمام الدائم. وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه (1).
(1) استفدت في كتابة هذه القواعد من كتابين هما: القواعد الذهبية للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.
وأوجز البيان في متشابه القرآن للشيخ السيد سند. وزدت بعض القواعد من خلال تجربتي.
القواعد الذهبية لحفظ القرآن الكريم
لما كان حامل القرآن الكريم يحظى بشرف عظيم، كان لزاما على من أراد أن يحظى بهذا الشرف أن يعرف القواعد الذهبية في حفظ وضبط وإتقان القرآن الكريم، وقد ذكر حملة القرآن الكريم عدة قواعد في الحفظ والضبط، أخذت من تجارب الحفاظ، ودعمت بالآيات والأحاديث. وهذه القواعد بإيجاز كما يلي:
1 - الإخلاص:
وهو لازم من لوازم أي عمل يتقرب به إلى الله. قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 11].
وإذا كان الأمر بإخلاص العبادة لله في كل شئون المسلم، فإن هذا الأمر يتأكد ويتعين على حفظة القرآن الكريم، لأنهم أمناء على رسالة الوحي الخالدة، كما أنهم لا يبتغون على حفظهم أجرا ولا جزاء من أحد، لذلك جاء الوعيد الشديد في حديث: «أول ثلاثة تسعر بهم النار» (1). فجاء أولهم قارئ القرآن الذي قرأه وعلمه ليقال عنه: إنه قارئ.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن رب العزة: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (2).
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
2 - تصحيح النطق:
ويكون ذلك بالقراءة على المشايخ، والتلقي منهم مشافهة، ولا يصلح لتلقي القرآن الكريم، وضبط قراءته، الاستماع من شريط أو من أي آلة، ولكن لا بد من العرض على
القراء وأهل الأداء.
وهذه الطريقة اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم- وهو أفصح من خلق الله- في تلقي القرآن الكريم، حيث إنه كان يتلقاه من أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما أنه كان يعرض القرآن على جبريل، يعني يقرأ ويسمع جبريل، وهذا تمام التأكد على وصول الرسالة مؤداة على الوجه الأتم الأكمل.
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن على جبريل مرة في كل سنة، فلما كان العام الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام- عرضه مرتين زيادة في الاطمئنان والضبط والإتقان.
وقد جربت هذا في التلقي عن علماء القراءات، فكنت كلما قرأت ختمة جديدة على أحدهم، ازددت ضبطا وإتقانا، فكانت ملاحظاتهم- حفظهم الله- تجدد عليّ نفعا وفائدة في كل ختمة.
وأذكر عن شيخي وأستاذي فضيلة الشيخ/ سعيد علي حماد أنه كان يسافر إلى أساتذته ليضبط حرفا أو كلمة، وذات مرة التبس عليه الأمر في قراءة الكلمة من سورة القصص «اتبعكما» في قوله تعالى: قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35].
فسافر الشيخ سعيد إلى المدينة المنورة، والتقى بفضيلة الشيخ الدكتور/ إيهاب فكري وصحح عليه قراءة هذه الكلمة.
وتلقي القرآن من أهله وعلمائه، وعرضه عليهم هي الطريقة التي علّم بها الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام، فكان يقرأ عليهم، ويقرءون عليه. وحديث عبد الله بن مسعود في السنة الصحيحة يبين ذلك، حينما طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه، فقال ابن مسعود متعجبا: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال له الأمين صلى الله عليه وسلم: «إنني أحب أن أسمعه من غيري» إنها الأمانة العظيمة، والحرص البالغ للتأكد من أن الصحابة يقرءون القرآن كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حرص الصحابة شديدا على تعليم التابعين، وحرص التابعون كذلك على تعليم من بعدهم، وهكذا، حتى وصل القرآن إلينا بهذه الطريقة- التلقي بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولله الحمد. وفي زماننا هذا، ما تزال هذه الطريقة موجودة معروفة عند أهل القرآن، وما تزال الإجازات تعطى من قبل المشايخ لطلابهم بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومهما بلغ تمكن المسلم وتفوقه في اللغة العربية، فلا بد له من تلقي القرآن بهذه الطريقة، فقد كان العرب الأوائل- وهم أفصح منا- لا شك في ذلك بل إننا لم نعد عربا بألسنتنا، لقد كانوا وهم أهل اللغة وأربابها لا يعرفون في تعلم القرآن غير هذه الطريقة (طريقة العرض والتلقي).
ورب قائل يقول: وأين المشايخ وأهل القرآن؟ وكيف أصل إليهم؟
والجواب على ذلك: إنهم موجودون، فلا تخلو بلدة، ولا قرية من كتّاب ومحفظ، ومعاهد القرآن منتشرة، وحلقات التدريس في المساجد قائمة، كما أنك لن تعدم صديقا أو زميلا يحسن ويجيد التلاوة فتقرأ وتتعلم معه، من سلك وسأل عرف، ومن عرف وصل.
3 - تحديد كمية الحفظ:
إن لكل إنسان طاقة، وكل إنسان يختلف عن غيره في الذاكرة، ومن الخطأ أن يحمل الإنسان نفسه فوق طاقتها، لأن لذلك أضرارا منها:
(أ) عدم ضبط ما يحفظ.
(ب) بذل جهد فوق طاقة الإنسان.
(ج) عدم القدرة على السير والمواصلة والاستمرار.
والله تعالى أرشدنا إلى ذلك في كتابه فقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286]. وقال سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق: 7]: ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك: «لا تعملوا من الأعمال إلا ما تطيقون».
فمن أراد حفظ القرآن الكريم فهو أعلم بطاقته، ووقته، فيرتب في ذهنه زمنا معينا لحفظ القرآن الكريم، ويضع خطة عريضة، تشمل الشهر والأسبوع واليوم، فيلتزم بها، وليعلم أن التكرار لازم للحفظ، وليحرص على الحفظ بنغمة يحبها حتى لا يمل من التكرار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» (1).
ويستحسن الترديد جهرا، فقد أثبتت الدراسات أنه كلما ازداد عدد الجوارح المشاركة في عملية التعلم، كان ذلك أدعى للحفظ والفهم.
4 - اختيار الزمان والمكان المناسبين:
وهذا من الأهمية بمكان، ففي وقت الظهيرة واشتداد الحر يصعب الحفظ، كما يشق الحفظ إذا كان الإنسان مشغول الذهن، وأفضل أوقات الحفظ والوعي
(1) متفق عليه.
وقت السحر، وبعد صلاة الصبح. «وأجود الأوقات للحفظ: الأسحار، وللبحث: الأبكار، وللكتابة: وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة: الليل» (1).
كما أن مكان الحفظ مهم جدّا، فلا يصلح مكان العمل مكانا للحفظ، ولا تصلح وسيلة المواصلات كذلك، كما أنه لا يصلح مكان يتجمع الناس فيه ليكون مكان حفظ، وأفضل
مكان هو المسجد، أو في الخلاء بين المزارع، أو في البر، ويحفظ الإنسان في بيته في غرفة خالية، بعيدا عن إزعاج أطفاله.
5 - لا تنتقل لحفظ جديد حتى تضبط القديم:
إنك إذا انتقلت لحفظ جديد، دون أن تضبط القديم كما ينبغي، تشتت ذهنك، فلن تضبط جديدا ولا قديما، وكان القرآن في ذهنك مشوشا، وذلك لأن القلوب والعقول أوعية، ولكل وعاء قدر يحفظه، فلا تتجاوزنّ قدر وعائك.
وأوصيك بتكرار ما تحفظ في صلاة النوافل، وبخاصة قيام الليل، فقد أرشدني أخي وأستاذي الدكتور محمود عبد الملك إلى هذه الطريقة فقال لي: إذا حفظت شيئا فتهجد به في يوم حفظك، وادع الله أن يعيه عقلك وقلبك، ففعلت فأفدت كثيرا، بارك الله فيه.
6 - حافظ على رسم واحد لمصحفك:
إذا بدأت الحفظ في مصحف له رسم معين، وعدد سطوره معروفة فلا تحفظ، ولا تقرأ في غيره، وذلك لأن عقل الإنسان يحفظ الجزء في مضمون كله؛ بمعنى: أن العقل يرسم الصفحة ويحدد موقع الكلمة فالعقل يحفظ الكلمة وهي الجزء في مضمون الكل وهي الصفحة.
وقد التقيت بإخوة حفظوا على طبعة معينة ذات أسطر محددة، وسافروا وتركوا مصاحفهم، ولم يجدوا في أماكن إقامتهم الجديدة مصاحف طبعتهم التي
(1) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل.
حفظوا عليها، فغيروا فتشتت الحفظ.
لذلك فإني أنصح إخواني باختيار طبعة منتشرة معروفة يسهل العثور عليها في أي مكان.
7 - حافظ على ترابط السورة:
إن سور القرآن- خاصة الطوال منها- لها أحداث متسلسلة متتابعة، فاحرص على حفظ هذا التسلسل، واربط أحداث السورة ترابطا جيدا، فاعرف أول السورة وآخرها، واربط أولها بآخرها.
ومن طرائف اختبارات القرآن الكريم، ما يحكي عن فضيلة الشيخ محمود خليل الحصري يرحمه الله، أنه أمر طالبا بقوله: أكمل بعد قول الله تعالى:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89] وهذه آخر آية في سورة الزخرف فأخذ الطالب يقلب ذهنه عن الآية بعدها.
ومن طرائف مشايخ الكتّاب أنهم يصلون آخر كل سورة بأول التي تليها وهذا غاية الضبط والإتقان.
فإن صعب عليك هذا الترابط فإن:
8 - الفهم طريق الحفظ:
والمقصود بالفهم: الفهم العام لمضمون الآيات، وترتيب هذا الفهم في الذهن بحيث لا يختلط ولا يتداخل، ومما يعين على هذا الفهم التدبر الواعي للآيات. لذلك قال الله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] فهذه الآية نص صريح يوضح أن التدبر والفهم يفتح القلوب والعقول فتحفظ.
فإذا عجزت بعد ذلك فإن:
9 - التفسير معين ومساعد:
احرص على قراءة تفسير ولو بسيط وسهل للقرآن الكريم، وهناك تفاسير
بهوامش المصاحف، ومنها: تفسير الجلالين، ومختصر تفسير الطبري ولكن احرص على أن يكون هذا المصحف هو نفس مصحفك الذي تحفظ منه، وإلا فهناك كتاب: «تفسير القرآن كلمات وبيان» لشيخ الأزهر: محمد حسنين مخلوف.
10 - العناية بالمتشابهات:
إن العناية بالمتشابهات هي غاية الضبط في الحفظ والإتقان، وما كان شيء يشق عليّ حفظه في القرآن الكريم من الآيات المتشابهة.
والقرآن متشابه في ألفاظه ومعانيه قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7].
وإذا كان عدد آيات القرآن الكريم يزيد على ست آلاف آية، فإن هناك قرابة الألفي آية فيها تشابه كبير، يصل أحيانا إلى درجة التطابق.
ولأهمية ضبط المتشابه في القرآن الكريم، نجد أن العلماء قد اعتنوا به عناية فائقة فألفوا فيه الكتب ومن أشهرها:
1 - كتاب «البرهان في توجيه متشابه القرآن» للشيخ محمود بن حمزة الكرماني.
2 - كتاب «فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن» للشيخ زكريا الأنصاري.
3 - كتاب «كشف المعاني في المتشابه من المثاني» للشيخ بدر الدين بن جماعة.
وقد ألف أخي الأستاذ الشيخ السيد محمود محمد سند كتابا في المتشابه عنوانه: «أوجز البيان في متشابه القرآن» وقد أفدت منه.
11 - التسميع والتسابق مع الحفاظ:
فليتخير حافظ القرآن رفيقا له يسمع عليه، ويا حبذا لو كان ضابطا ويكون التسميع متبادلا بينهما، على شكل مسابقة، فكل حافظ لديه علامات في رأسه، يستفيد منها رفيقه، وقد استفدت كثيرا من هذه الطريقة، فأفدت من شيخ قرأت عليه فعرفني طريقة ترتيب ما التبس في الذهن عن طريق حروف الهجاء مثل الآيتين في سورة الصافات: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 50] فقال لي الشيخ عبد العزيز ندا- وكنت أقرأ عليه قراءة الإمام أبي عمرو البصري قال- لي: «إن ترتيب هاتين الآيتين عكس حروف الهجاء فالواو بعد الفاء وقد سبقتها في الآية الأولى.
فأفدت من طريقته وأخذت أطبقها على آيات كثيرة.
وكان لي شيخ بدأت الطلب معه، هو فضيلة الشيخ سعيد حماد كثيرا ما سمّع لي وقرأت عليه، تارة عن طريق الاختبار منه، وأخرى عن طريق التسميع فأفدت منه، وأفدت من هذه الطريقة.
وأقول: إنني استفدت من عدد من الإخوة كانوا يقرءون عليّ، بل إنني استفدت من طريقة أخ كان مبتدئا في الحفظ وكنت أسمع له.
وخلاصة القول: ألّا يعتمد الحافظ على التسميع على نفسه بل لا بد من التسميع على غيره أو التسميع لغيره.
12 - معاهدة القرآن الكريم:
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهمية تعاهد القرآن الكريم.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعاهدوا هذا
القرآن فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها» (1).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت» (2).
إن القرآن الكريم ليس كأي محفوظ آخر، فهو سريع الهروب من الذهن بخلاف الشعر، والحكمة في ذلك أن يظل الحافظ للقرآن مرتبطا به لا يفارقه، فإذا فارقه نسيه، وقد حفظت متونا: شعرا ونثرا فأمسكها ذهني زمنا دون مراجعة، بخلاف القرآن الكريم الذي يحتاج إلى التعهد الدائم ليظل الحافظ مرتبطا بكتاب الله تعالى.
13 - اغتنام سنوات الحفظ:
إن مراحل عمر الإنسان تتفاوت في تحصيل وحفظ العلوم وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث الاغتنام «اغتنم خمسا قبل خمس» فذكر منها:
«شبابك قبل هرمك».
لذلك حرص الصحابة على تحفيظ أولادهم القرآن الكريم في سنيهم المبكرة، كما أننا نجد كثيرا من الأئمة الأعلام قد حفظوا القرآن كاملا دون سن العاشرة؛ فحفظ الإمام الشافعي وهو ابن سبع، وحفظ الإمام أحمد بن حنبل في تمام العاشرة.
ولما أدركت الجاحظ الشيخوخة كان ينشد هذين البيتين متحسرا متألما:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب؟
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
ويمكننا أن نقسم سنوات الحفظ ومراحل العمر حسب القدرة على الاستيعاب كما يلي:
1 - من 5 سنوات إلى 10 سنوات مرحلة ذهبية.
2 - من 10 سنوات إلى 14 سنة. مرحلة ذهبية* من حفظ في هاتين المرحلتين يصعب نسيانه.
3 - من 14 سنة إلى 23 سنة. مرحلة فضية.
4 - من 23 سنة إلى 35 سنة. مرحلة برونزية.
ولكنني أقول: إنه لا يصعب على أي مسلم في أي مرحلة من عمره أن يحفظ القرآن الكريم، إذا عزم على ذلك، وعرف الله صدقه، فكلمة المستحيل لا يعرفها عقل المسلم ولا خياله.
وقد رأيت أخا بدأ في حفظ القرآن بعد الأربعين فأتمه في سنتين ونصف وكان ضابطا متقنا.
والأعجب من ذلك أنني أعرف رجلا بدأ في حفظ القرآن بعد الخمسين ثم تلقى عن المشايخ، وسافر عدة بلدان يقرأ عليهم، وحصل على إجازات كثيرة في القراءات السبع، ثم العشر الصغرى، ثم الكبرى، وقد أصبح الآن عالما يسافر الطلاب إليه ويقصدونه، ولم يبدأ إلا بعد سن الخمسين فلا تكسلن أيها المسلم عن الحفظ والتعلم في أي عمر كنت.
كان إبراهيم بن المهدي كبيرا في السن، فدخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه فقال له المأمون: يا عم ما عندك فيما يقول هؤلاء؟ فقال:
يا أمير المؤمنين شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر. فقال المأمون: لم لا تتعلمه اليوم؟ قال: أو يحسن مثلي طلب العلم؟ قال: نعم. والله لأن تموت طالبا للعلم خير من أن تعيش قانعا بالجهل.
14 - الصلاة خلف إمام حافظ متقن:
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيحفظونها عنه.
إن الصلاة خلف إمام حافظ متقن تشجع المسلمين على الحفظ، لأن الإمام قدوة، كما أنها تجعل الحافظ الذي يصلي خلف هذا الإمام متيقظا دائما، ليرد على الإمام خطأه إذا أخطأ.
وفي هذا نداء وتوجيه إلى الأئمة- بارك الله فيهم- بأهمية حفظ القرآن الكريم والقراءة به كاملا في صلواتهم، ولتكن لهم ختمات في صلواتهم الجهرية دون إطالة.
15 - حافظ على الورد:
إذا أتم المسلم حفظ القرآن الكريم، فلا يقنع بذلك ويكسل، بل لا بدّ من ورد يومي ثابت لا يقل عن جزء، يراجعه دائما من حفظه، وبكثرة مراجعته يتعرف على نقاط ضعفه، ويتعرف على المواضع التي تلتبس عليه، فيرعاها بالاهتمام الدائم. وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه (1).
(1) استفدت في كتابة هذه القواعد من كتابين هما: القواعد الذهبية للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.
وأوجز البيان في متشابه القرآن للشيخ السيد سند. وزدت بعض القواعد من خلال تجربتي.
تعليق