تفسير سورة ق ( 1-5)
الشيخ الشعراوي
(قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ )1
سبق أنْ تحدثنا عن الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن، وهنا نكتفي بالإشارة إلى أن هذه الحروف المقطعة مثل (ق) تمثل جانبَ الغيب في القرآن، والغيب هو محكّ الإيمان كما بيَّنا.
فالفلاح الأمي مثلاً يستخدم التليفزيون ويتنقل بين قنواته دون أنْ يعرف كيف يعمل وكيف ينتقل من قناة إلى أخرى، فهو يستفيد به دون معرفة بكيفية عمله، كذلك يستخدم رافعة المياة (الطلمبة)، وهو لا يعرف (ميكانيكية) عملها.
كذلك نحن مع الحروف المقطعة هذه نؤمن بها وندع معانيها لقائلها سبحانه.
والدين ينقسم إلى عناصر ثلاثة:
عقائد تعمر القلوب، وعبادات وتكاليف هي عمل الجوارح، ثم الكلام الذي ينقل هذه الأمور كلها وهو مهمة اللسان أي التعبير.
وكل من العقائد والتكاليف والتعبير فيه غيب ومشهد، فالله غيب، لكن آثار قدرته في الكون مشهد، والصلاة من حيث ترددك على المسجد خمس مرات وما فيها من ركوع وسجود وحركات مشهد، لكن عدد ركعاتها غيب.
فكأن الحق سبحانه يعطينا الغيب في هذه الأشياء ليختبر فينا حقيقة الإيمان، فما علمته دليل على صدق ما لم تعلمه.
كذلك الحال في حروف القرآن الكريم وآياته، فآيات القرآن على وجه العموم نفهمها ونعرف معانيها، لكن الحروف المقطعة هي الغيب الذي يجب علينا أنْ نؤمن به حتى ولو لم نعرف معناه، وتبقى هذه الحروف دليلَ إعجاز القرآن.
فقوله تعالى: { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] جمعتْ بين الاثنين، الغيب في (ق) والمشهد في { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] وهما المكوِّنان للقرآن الكريم (ق) دليل الإعجاز { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] إذن: أتى بالدليل والمستدل عليه.
و(ق) تحمل معنى القسَم، وهي حرف واحد كما أقسم الله بالشيء الواحد، فقال: { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر: 1-2] وقال: { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [النجم: 1-2].
كما يقسم بالحرفين مثل (يس)، (طه)، (حم)، وكذلك يقسم بشيئين من مخلوقاته مثل: { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى: 1-2] ويقسم بثلاثة أحرف مثل (الم)، وبثلاثة أشياء مثل: { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا * فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً } [الصافات: 1-3].
ويقسم بأربعة في { الۤمۤصۤ } [الأعراف: 1] وفي { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [التين: 1-3] كما يقسم بخمسة أحرف في { كۤهيعۤصۤ } [مريم: 1] وفي قوله سبحانه { وَٱلطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ * وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ * وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } [الطور: 1-6].
إذن: جاء هذا القسم على خمسة أضرب من الواحد إلى خمسة، ولم يزد على ذلك حتى لا يكون القسمُ ثقيلاً على اللسان، ولأن أقصى ما يمكن في الكلمة المجردة خمسة أحرف، لكن في القسَم بآياته الكونية زاد على ذلك.
اقرأ: { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا * وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [الشمس: 1-7].
ولو فعل مثل ذلك في القسم بالحروف لخرج عن بنية الكلمة في اللغة.
ونلاحظ أيضاً أن القسم بالحروف المقطعة لم يأتِ إلا في أوائل السور، أما القسم بالآيات الكونية فيأتي في أولها كما رأينا، وياتي في خلالها كما في قوله تعالى: { كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ * وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } [المدثر: 32-34].
ثم إن القسم بالحروف المقطعة لا يأتي بالواو، إنما تأتي واو القسم مع الآيات الأخرى التي تفهم معناها، وهنا يقول: { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] ولم يقل و(ق) لأن الواو حرف، و(ق) حرف، فيحدث بينهما لَبْسٌ، هذه من إعجازات القرآن التي ينبغي أنْ نقف عندها وقفة تأمل.
والتصديق بهذه الغيبيات هو الذي يثبت صدق الإيمان، وإلا فما الميزة في أنْ تكون كلُّ آيات القرآن مفهومة معلومة المعنى والمراد؟ ما الميزة في أن تكونَ كل أمور الدين معلومة لنا خاضعة للقياس العقلي وعليها دليل؟
وسبق أنْ أوضحنا أن المشهد والإيمان بالمشهد أمر عادي الكل يؤمن به، المهم أنْ تؤمنَ بما غاب عنك ثقةً منك فيمَنْ أبلغك به.
هَبْ أنك ذهبتَ إلى الطبيب وبعد أنْ فحص حالتك كتب لك الدواء، بالله هل تناقشه لِم كتبتَ كذا؟ ولم كتبتَ كذا؟ إنك لا تناقشه لأنك ذهبتَ إليه مختاراً، ذهبتَ إليه وأنت تثق به ومستعد لأن تنفذ تعلمياته وتتناول الدواء الذي وصفه لك وأنت لا تعرف شيئاً عنه.
فإذا كنتَ تثق بالطبيب وهو إنسان مثلي ومثلك وعُرْضةٌ للخطأ، فما بالك بالله؟ ألاَ تثق في كلامه؟
ولأهمية الإيمان بالغيب مدح الله المؤمنين به، فقال: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ .. } [البقرة: 3] فكما نؤمن بالآيات واضحة المعنى نؤمن بالحروف غير واضحة المعنى، فهذا قرآن مشهد، وهذا قرآن غيب، وكما نؤمن بالآيات الكونية المشاهدة نؤمن بالله خالقها ومبدعها، وهو سبحانه غيب.
وقوله تعالى:{ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] القرآن اسم لما نزل من عند الله على قلب سيدنا رسول الله، ودلّ على صدقه في البلاغ عنه. وسُمِّي قرآناً ليدل على أنه مقروء، وسُمِّي الكتاب ليدل على أنه مكتوب، فهو مُسجَّل في السطور محفوظ في الصدور.
وللقرآن مزية خاصة به لم تُعْطَ لكتاب قبله، هي أن القرآن يحمل المنهج ويحمل المعجزة معاً، أما الرسالات السابقة عليه فكان المنهج في الكتاب، والمعجزة منفصلة عنه.
فسيدنا عيسى مثلاً كان كتابه الإنجيل، ومعجزته أنْ يبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله، وسيدنا موسى كان كتابه ومنهجه في التوراة، أما معجزته فكانت في العصا،
أما سيدنا رسول الله فكانت معجزته هي عين منهجه، لماذا؟
لأن رسالته دائمة باقية في الزمان كله إلى قيام الساعة وباقية في المكان كله، فلها عمومية الزمان وعمومية المكان، ونحن الآن نقول: هذا محمد رسول الله وهذه معجزته، في حين لا نستطيع أنْ نقول ذلك مع سيدنا موسى مثلاً أو سيدنا عيسى، لأن معجزاتهما انتهت بانتهاء زمانيهما.
ومعنى { ٱلْمَجِيدِ} [ق: 1] أي: العظيم صاحب الشرف والمجد والعلو، ومجيد على وزن فعيل، وهي من أوزان المبالغة مثل رحيم، وفعيل وتأتي مرة بمعنى فاعل مثل رحيم أي: راحم، وتأتي بمعنى مفعول مثل قتيل أي: مقتول.
فمعنى { ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] أي: ماجد في ذاته وممجَّد في ذاته فهي تحمل المعنيين، فهو ماجد وممجد، لأنه أعلى وأرفع كلام وأغلى الكتب وأشرفها، فهو في ذاته مجيد.
ثم لأنه جاء من مجيد أعلى هو الحق سبحانه، وبلَّغه مَلَك مجيد إلى رسول مجيد، ويبقى بعد ذلك أنه أُنزل على أمة مجيدة.
لكن إذا كانت: { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] قسم فأين جوابه؟
قالوا: قسم على أن البعث حَقّ، أي: ق والقرآن المجيد لتبعثن، والأقرب من ذلك أنْ نأخذ الجواب من الكلام بعد القسم، وهو قوله تعالى:
(بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ )٢
والعجب لا يكون إلا من شيء غير معتاد، والنفس لا تهتدي إلى سببه، ولا إلى علَّته مثل الساحر نعجب لما يفعل لأننا لا نفهمه، والحديث هنا عن الكفار المعاصرين لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أوضح القرآن هذه المسالة وشرحها في موضع آخر هو قوله تعالى: { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]. { { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [الأنعام: 8-9].
إذن: عجبهم أو اعتراضهم ليس على القرآن، إنما على محمد صلى الله عليه وسلم، كيف ينزل عليه القرآن وهو من عامة الناس، ولماذا لم ينزل على أحد عظماء القوم ثم أتوا بشبهة أخرى، لماذا لم ينزل على ملَك.
وقد ردّ القرآن عليهم وبيَّن لهم هذه الشبهة، فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول وقدوة، والقدوة لا تتم إلا إذا كان الرسولُ من جنس المرسل إليهم، وإلا كيف نقتدي بملك وله طبيعة غير طبيعتنا، وقدرة غير قدرتنا.
ولو أمرنا بعمل ما كان من حقنا أنْ نقول له: لا نستطيع أنْ نفعل مثلك، لأنك ملَك تقدر على ما لا نقدر عليه، فلا تتم الأُسْوة إذن.
فمن عظمة الرسالة أنْ يكون الرسولُ منكم، لذلك منَّ الله عليهم بذلك، فقال: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ .. } [التوبة: 128] أي: جنسكم بل من قومكم، ومن أقرب الناس لكم، وأنتم تعرفون صدقه وأمانته حتى قبل الرسالة، وشهدتم له بذلك.
وقوله تعالى: { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2].
يعني: أن الكافرين هم الذين تعجبوا من اختيار محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة، إذن: غير الكافرين لم يتعجبوا من ذلك، وإذا كان القرآن نزل على مدى ثلاث عشرة سنة، فمن الناس مَنْ آمن بمحمد وصدَّقه من أول آية نزلتْ عليه. وقال: نزل عليّ اليوم كذا وكذا.
بل إن سيدنا أبا بكر صدَّق رسول الله وآمن به بمجرد أنْ قال: إني رسول الله دون أنْ يسأله عن شيء، لماذا؟
فماضيه في قومه يُؤهله لهذه المكانة، ولم لا يصدقه وهو الصادق الذي ما جُرّب عليه كذبٌ قط، والذي لا يكذب على الخَلْق أحرى ألاَّ يكذب على الخالق.
كذلك صدّقه في خبر الإسراء والمعراج ولم يناقش مثل غيره، بل قال عن رسول الله: إنْ قال فقد صدق، لقد أخذها بالعقل، وبما لديه من مقدمات من سيرة رسول الله.
لذلك كلمة (محمد) ذاتها دليل على صدقه، فقوله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ .. } [الفتح: 29] محمد مبتدأ أخبر عنه بأنه رسول الله، ومحمد بمعنى محمود يحمده الناس ويثنون عليه.
إذن: هو من بدايته ونشأته مُعَدٌّ لهذه المهمة، لذلك ما جرَّبوا عليه كذباً أبداً، ولا شيئاً مما كان يفعله أترابه في الجاهلية، فكأنه يقول لهم: محمد هذا الذي تعرفونه، وتعرفون ماضيه وسيرته فيكم هو رسول الله، وكأن علة الإيمان بالرسول أنه محمد.
وسبق أن بيَّنا كيف عصمه الله من الزلل؟ وكيف عصمه من انكشاف عورته؟ لذلك ورد على لسانه صلى الله عليه وسلم وهو يجادل قومه: { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16].
يعني: أنتم تعرفون عني كل شيء، تعرفون أنِّي لا أكذب، ولم يسبق لي أنْ وقفت خطيباً فيكم ولا شاعراً. إذن: لماذا تُكذِّبونني؟.
وكلمة { هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2] ليستْ تكراراً للتعجب في { بَلْ عَجِبُوۤاْ .. } [ق: 2] بل عجيبٌ بالذي قيل، عجيبٌ قالها الكافرون، وقد شرحها القرآن في قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 94].
فردَّ عليهم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريده مَلَكاً، فقال لهم: إذا كان مَلَكاً فسوف يأتيكم في صورة بشر، إذن: ستظل الشبهة كما هي.
(أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ )٣-ق
هنا نقلوا المسألة من الاعتراض على بشرية الرسول إلى التشكيك في عملية البعث بعد الموت، وهكذا أصبح لدينا جوابان للقسم { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1].
الجواب الأول: إنك لمنذر والثاني: لتبعثُنَّ،
الأول: أخذناه من قوله: { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ .. } [ق: 2] والثاني: من قوله سبحانه: { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3].
ومعنى { رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3] أي: رجوع إلى الحياة بعد أنْ نموت ونصير تراباً، هذا أمر بعيد عن أذهانهم، لماذا؟ وأنتم عندكم آثار سيدنا إبراهيم وإسماعيل وبقايا الديانات السابقة، وتعرفون الله وتعترفون أنه خالقكم وخالق السماوات الأرض.
في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام حكى القرآن قوله: { قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .. } [البقرة: 260].
وقلنا: إن السؤال هنا ليس شكاً من سيدنا إبراهيم في قدرة الله على إحياء الموتى، إنما سؤال عن الكيفية فقط { كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ .. } [البقرة: 260].
فأراه الله سبحانه الكيفية ليستْ قولاً إنما فعلاً وتجربة مشاهدة، يُجربها هو بنفسه، وكأن الله تعالى يقول له ولنا: أن إحياء الموتى ليس صعباً ولا معجزاً لي، بل إذا أردتُ أُعدِّي قدرتي إلى عبد من عبادي، فيفعل ذلك بإذني. { { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260].
هذا أثر من آثار قدرة الله يمنحه لعبد من عباده.
وفي قصة سيدنا عيسى عليه السلام: { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ .. } [آل عمران: 49].
والقرآن يرد على منكري البعث، فيقول:
(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )٤-ق
يعني: لِمَ تعجبون وتنكرون البعث بعد الموت، والله علم مُكوِّناتكم وجزئيات وعناصر هذا الجسم وكمية كل عنصر منها، ويعلم ما تأخذه الأرض منكم وقادر على جمعه وإعادته كخَلْقه الأول هو هو، وإن كانت العناصر التي خرجتْ منه لا تزال خارجة، إذن: نحن نختلف باختلاف عناصر التكوين، لا باختلاف مجموع العناصر.
ومعنى { قَدْ عَلِمْنَا .. } [ق: 4] أي: أن هذه العملية تقوم على علم وعلى دراية لا مجرد كلام، ثم تستند إلى توثيق آخر: { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق: 4] فهذا العلم مُؤيّد بكتاب مسجَّل مسطور مشهود يحصى فيه كل شيء.
فإنْ قلتَ: فما فائدة الكتاب بعد العلم؟ نقول: علم الله واسع، وهو صفة من صفاته تعالى، وهو سبحانه لا ينسى، لكن يكتب في كتاب ليكون الكتابُ حجةً على مَنْ أنكر، كما في مسألة الحسنات والسيئات.
فالله تعالى يعلمها ويُحصيها، ولا يحتاج مَنْ يُذكِّره بها، لكن يكتبها للعبد لتكون حجة عليه يوم يقول له: { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14].
وكلمة { حَفِيظٌ } [ق: 4] مبالغة على وزن فعيل، وهي هنا بمعنى فاعل. أي: حافظ لكل شيء، مسجل لكل صغيرة وكبيرة، وهو أيضاً محفوظ فلا تمتد إليه يد فتختلس منه شيئاً، أو تغير فيه شيئاً.
لذلك قال: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 77-79].
وقال: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59].
والذي يحاول التشكيك في البعث أو نَقْضه هم الناس المستهترون المسرفون على أنفسهم، فهؤلاء لو صَحَّ البعثُ وصَحَّ الحساب والجزاء، فستكون العاقبة بالنسبة لهم سوداء، فحظهم إذن أن يُشككوا في البعث، وأنْ يُكذِّبوه، بل الدين كله في نظرهم كذب.
وتأمل مثلاً إفلاسهم في الحجة حين يقولون في تكذيبهم بالبعث: لو أن رجلاً مات وزُرعت فوق بقاياه شجرة تفاح مثلاً، فسوف تتحلل عناصره وتتغذّى منها هذه الشجرة، فسوف يأتي مَنْ يأكل منها.
وبذلك تصله بعض عناصر الأول، فإذا مات الثاني فكيف تُبعث هذه العناصر من الأول أم من الثاني؟
وهذه شبهة واهية، وللرد عليها نقول: لو أن رجلاً وزنه مثلاً مائة كيلو، وأصابه مرض أنقص من وزنه النصف حتى صار شبحاً، ثم مَنَّ الله عليه بالشفاء حتى استعاد صحته ووزنه الأول، فهل عادت إليه نفس عناصره الأولى؟
أبداً، لأنه يأكل عناصر أخرى غير التي فارقته لكن تبقى الشخصية وتبقى المعنويات المميزة لها، وحين تعود تعود كما كانت هي هي.
إذن: المسألة ليست مسألة نفس العناصر، إنما مسألة إعادة شخص بعينه، وما دام الحق سبحانه قال: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ .. } [ق: 4] فهو سبحانه قادر على جمعها وتكوينها من جديد، بقوله تعالى: كُنْ فيكون.
(بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ )٥ق
همنا من قولهم: { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3] أنهم مُنكرون للبعث لا يُصدِّقون أنهم سيُبعثون بعد الموت، وهذا الإنكار لا يغير من الواقع شيئاً، فالبعث حَقّ وسيحدث لكنهم يكذبون به لأنه ليس في صالحهم.
لذلك قال هنا: { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ .. } [ق: 5] والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً مهما طرأتْ عليه من أحداث، فسوف تمضي الأحداث والوقائع ويبقى الحق ثابتاً.
والحق سبحانه أعطانا مثلاً محسوساً للحق وللباطل، فقال سبحانه: { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17].
كذلك سيذهب إنكارهم وتكذيبهم وتبقى الحقيقة ويبقى الحق ثابتاً لا يتغير، وفي القرآن آيات كثيرة تحمل هذا المعنى، اقرأ: { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا .. } [التوبة: 40] فـ (كلمة) الأولى مفعول به، أما الأخرى فهي مبتدأ لإنشاء كلام جديد غير معطوف على الأول.
فالأولى مجعولة، والأخرى أمر ثابت أزلاً، جعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله عليا بداية، يعني: لم تكُنْ سُفلى فجعلها عليا، هذا يعني أن الحق شيء ثابت أزلاً وباقٍ لا يتغير.
وقوله تعالى: { فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق: 5] معنى مريج، أي: مختلط، فهم مذبذبون مترددون، مرة: تعجبوا وقالوا { هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2] ومرة أنكروا، ومرة كذَّبوا، فالأمر بالنسبة لهم مختلط من قولهم: مرج الخاتم في الإصبع إذا كان واسعاً سهل الحركة.
والدليل على أنهم في أمر مريج أنهم استقبلوا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الاتهامات، كلما خاب سعيهم في واحدة قالوا بالأخرى، لأن القرآن لهم بالمرصاد يرد كيدهم عن رسول الله.
لذلك سمعناهم يقولون: ساحر، شاعر، مجنون، كاهن.
إذن: { فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق: 5] لا يدرون ماذا يقولون، فكلما قالوا تهمة كشف القرآن كذبها، فالحق شيء واحد، لذلك نراه ثابتاً، أما الباطل فمتعدد لذلك لا يثبت.
وهذه المسألة نشاهدها في الشهادة أمام القاضي، فشاهد الحق يأتي قوله واحداً لا يتغير لأنه يصف واقعاً، أما شاهد الزور فيغير ولا يصمد أمام محاورات القاضي، وسرعان ما يقع وينكشف كذبه، لأنه لا يصف واقعاً، إنما يؤلف الأحداث من عنده.
ثم ينقل الحق سبحانه وتعالى مجالَ الحديث إلى الآيات الكونية التي تثبت قدرة الله تعالى وتمسّ مسألة العقيدة، فحين نُصحح لهؤلاء عقيدتهم ونعطفهم إلى الإيمان بالله سيفكرون في رسالة محمد، ويهتدون إلى الحق.
لذلك ترك الحديث عن تكذيبهم لرسول الله وللبعث، إلى الحديث عن الآيات الكونية في السماوات والأرض.
التفاسير العظيمه
الشيخ الشعراوي
(قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ )1
سبق أنْ تحدثنا عن الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن، وهنا نكتفي بالإشارة إلى أن هذه الحروف المقطعة مثل (ق) تمثل جانبَ الغيب في القرآن، والغيب هو محكّ الإيمان كما بيَّنا.
فالفلاح الأمي مثلاً يستخدم التليفزيون ويتنقل بين قنواته دون أنْ يعرف كيف يعمل وكيف ينتقل من قناة إلى أخرى، فهو يستفيد به دون معرفة بكيفية عمله، كذلك يستخدم رافعة المياة (الطلمبة)، وهو لا يعرف (ميكانيكية) عملها.
كذلك نحن مع الحروف المقطعة هذه نؤمن بها وندع معانيها لقائلها سبحانه.
والدين ينقسم إلى عناصر ثلاثة:
عقائد تعمر القلوب، وعبادات وتكاليف هي عمل الجوارح، ثم الكلام الذي ينقل هذه الأمور كلها وهو مهمة اللسان أي التعبير.
وكل من العقائد والتكاليف والتعبير فيه غيب ومشهد، فالله غيب، لكن آثار قدرته في الكون مشهد، والصلاة من حيث ترددك على المسجد خمس مرات وما فيها من ركوع وسجود وحركات مشهد، لكن عدد ركعاتها غيب.
فكأن الحق سبحانه يعطينا الغيب في هذه الأشياء ليختبر فينا حقيقة الإيمان، فما علمته دليل على صدق ما لم تعلمه.
كذلك الحال في حروف القرآن الكريم وآياته، فآيات القرآن على وجه العموم نفهمها ونعرف معانيها، لكن الحروف المقطعة هي الغيب الذي يجب علينا أنْ نؤمن به حتى ولو لم نعرف معناه، وتبقى هذه الحروف دليلَ إعجاز القرآن.
فقوله تعالى: { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] جمعتْ بين الاثنين، الغيب في (ق) والمشهد في { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] وهما المكوِّنان للقرآن الكريم (ق) دليل الإعجاز { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] إذن: أتى بالدليل والمستدل عليه.
و(ق) تحمل معنى القسَم، وهي حرف واحد كما أقسم الله بالشيء الواحد، فقال: { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر: 1-2] وقال: { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [النجم: 1-2].
كما يقسم بالحرفين مثل (يس)، (طه)، (حم)، وكذلك يقسم بشيئين من مخلوقاته مثل: { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى: 1-2] ويقسم بثلاثة أحرف مثل (الم)، وبثلاثة أشياء مثل: { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا * فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً } [الصافات: 1-3].
ويقسم بأربعة في { الۤمۤصۤ } [الأعراف: 1] وفي { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [التين: 1-3] كما يقسم بخمسة أحرف في { كۤهيعۤصۤ } [مريم: 1] وفي قوله سبحانه { وَٱلطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ * وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ * وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } [الطور: 1-6].
إذن: جاء هذا القسم على خمسة أضرب من الواحد إلى خمسة، ولم يزد على ذلك حتى لا يكون القسمُ ثقيلاً على اللسان، ولأن أقصى ما يمكن في الكلمة المجردة خمسة أحرف، لكن في القسَم بآياته الكونية زاد على ذلك.
اقرأ: { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا * وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [الشمس: 1-7].
ولو فعل مثل ذلك في القسم بالحروف لخرج عن بنية الكلمة في اللغة.
ونلاحظ أيضاً أن القسم بالحروف المقطعة لم يأتِ إلا في أوائل السور، أما القسم بالآيات الكونية فيأتي في أولها كما رأينا، وياتي في خلالها كما في قوله تعالى: { كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ * وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } [المدثر: 32-34].
ثم إن القسم بالحروف المقطعة لا يأتي بالواو، إنما تأتي واو القسم مع الآيات الأخرى التي تفهم معناها، وهنا يقول: { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] ولم يقل و(ق) لأن الواو حرف، و(ق) حرف، فيحدث بينهما لَبْسٌ، هذه من إعجازات القرآن التي ينبغي أنْ نقف عندها وقفة تأمل.
والتصديق بهذه الغيبيات هو الذي يثبت صدق الإيمان، وإلا فما الميزة في أنْ تكون كلُّ آيات القرآن مفهومة معلومة المعنى والمراد؟ ما الميزة في أن تكونَ كل أمور الدين معلومة لنا خاضعة للقياس العقلي وعليها دليل؟
وسبق أنْ أوضحنا أن المشهد والإيمان بالمشهد أمر عادي الكل يؤمن به، المهم أنْ تؤمنَ بما غاب عنك ثقةً منك فيمَنْ أبلغك به.
هَبْ أنك ذهبتَ إلى الطبيب وبعد أنْ فحص حالتك كتب لك الدواء، بالله هل تناقشه لِم كتبتَ كذا؟ ولم كتبتَ كذا؟ إنك لا تناقشه لأنك ذهبتَ إليه مختاراً، ذهبتَ إليه وأنت تثق به ومستعد لأن تنفذ تعلمياته وتتناول الدواء الذي وصفه لك وأنت لا تعرف شيئاً عنه.
فإذا كنتَ تثق بالطبيب وهو إنسان مثلي ومثلك وعُرْضةٌ للخطأ، فما بالك بالله؟ ألاَ تثق في كلامه؟
ولأهمية الإيمان بالغيب مدح الله المؤمنين به، فقال: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ .. } [البقرة: 3] فكما نؤمن بالآيات واضحة المعنى نؤمن بالحروف غير واضحة المعنى، فهذا قرآن مشهد، وهذا قرآن غيب، وكما نؤمن بالآيات الكونية المشاهدة نؤمن بالله خالقها ومبدعها، وهو سبحانه غيب.
وقوله تعالى:{ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] القرآن اسم لما نزل من عند الله على قلب سيدنا رسول الله، ودلّ على صدقه في البلاغ عنه. وسُمِّي قرآناً ليدل على أنه مقروء، وسُمِّي الكتاب ليدل على أنه مكتوب، فهو مُسجَّل في السطور محفوظ في الصدور.
وللقرآن مزية خاصة به لم تُعْطَ لكتاب قبله، هي أن القرآن يحمل المنهج ويحمل المعجزة معاً، أما الرسالات السابقة عليه فكان المنهج في الكتاب، والمعجزة منفصلة عنه.
فسيدنا عيسى مثلاً كان كتابه الإنجيل، ومعجزته أنْ يبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله، وسيدنا موسى كان كتابه ومنهجه في التوراة، أما معجزته فكانت في العصا،
أما سيدنا رسول الله فكانت معجزته هي عين منهجه، لماذا؟
لأن رسالته دائمة باقية في الزمان كله إلى قيام الساعة وباقية في المكان كله، فلها عمومية الزمان وعمومية المكان، ونحن الآن نقول: هذا محمد رسول الله وهذه معجزته، في حين لا نستطيع أنْ نقول ذلك مع سيدنا موسى مثلاً أو سيدنا عيسى، لأن معجزاتهما انتهت بانتهاء زمانيهما.
ومعنى { ٱلْمَجِيدِ} [ق: 1] أي: العظيم صاحب الشرف والمجد والعلو، ومجيد على وزن فعيل، وهي من أوزان المبالغة مثل رحيم، وفعيل وتأتي مرة بمعنى فاعل مثل رحيم أي: راحم، وتأتي بمعنى مفعول مثل قتيل أي: مقتول.
فمعنى { ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] أي: ماجد في ذاته وممجَّد في ذاته فهي تحمل المعنيين، فهو ماجد وممجد، لأنه أعلى وأرفع كلام وأغلى الكتب وأشرفها، فهو في ذاته مجيد.
ثم لأنه جاء من مجيد أعلى هو الحق سبحانه، وبلَّغه مَلَك مجيد إلى رسول مجيد، ويبقى بعد ذلك أنه أُنزل على أمة مجيدة.
لكن إذا كانت: { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] قسم فأين جوابه؟
قالوا: قسم على أن البعث حَقّ، أي: ق والقرآن المجيد لتبعثن، والأقرب من ذلك أنْ نأخذ الجواب من الكلام بعد القسم، وهو قوله تعالى:
(بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ )٢
والعجب لا يكون إلا من شيء غير معتاد، والنفس لا تهتدي إلى سببه، ولا إلى علَّته مثل الساحر نعجب لما يفعل لأننا لا نفهمه، والحديث هنا عن الكفار المعاصرين لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أوضح القرآن هذه المسالة وشرحها في موضع آخر هو قوله تعالى: { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]. { { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [الأنعام: 8-9].
إذن: عجبهم أو اعتراضهم ليس على القرآن، إنما على محمد صلى الله عليه وسلم، كيف ينزل عليه القرآن وهو من عامة الناس، ولماذا لم ينزل على أحد عظماء القوم ثم أتوا بشبهة أخرى، لماذا لم ينزل على ملَك.
وقد ردّ القرآن عليهم وبيَّن لهم هذه الشبهة، فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول وقدوة، والقدوة لا تتم إلا إذا كان الرسولُ من جنس المرسل إليهم، وإلا كيف نقتدي بملك وله طبيعة غير طبيعتنا، وقدرة غير قدرتنا.
ولو أمرنا بعمل ما كان من حقنا أنْ نقول له: لا نستطيع أنْ نفعل مثلك، لأنك ملَك تقدر على ما لا نقدر عليه، فلا تتم الأُسْوة إذن.
فمن عظمة الرسالة أنْ يكون الرسولُ منكم، لذلك منَّ الله عليهم بذلك، فقال: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ .. } [التوبة: 128] أي: جنسكم بل من قومكم، ومن أقرب الناس لكم، وأنتم تعرفون صدقه وأمانته حتى قبل الرسالة، وشهدتم له بذلك.
وقوله تعالى: { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2].
يعني: أن الكافرين هم الذين تعجبوا من اختيار محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة، إذن: غير الكافرين لم يتعجبوا من ذلك، وإذا كان القرآن نزل على مدى ثلاث عشرة سنة، فمن الناس مَنْ آمن بمحمد وصدَّقه من أول آية نزلتْ عليه. وقال: نزل عليّ اليوم كذا وكذا.
بل إن سيدنا أبا بكر صدَّق رسول الله وآمن به بمجرد أنْ قال: إني رسول الله دون أنْ يسأله عن شيء، لماذا؟
فماضيه في قومه يُؤهله لهذه المكانة، ولم لا يصدقه وهو الصادق الذي ما جُرّب عليه كذبٌ قط، والذي لا يكذب على الخَلْق أحرى ألاَّ يكذب على الخالق.
كذلك صدّقه في خبر الإسراء والمعراج ولم يناقش مثل غيره، بل قال عن رسول الله: إنْ قال فقد صدق، لقد أخذها بالعقل، وبما لديه من مقدمات من سيرة رسول الله.
لذلك كلمة (محمد) ذاتها دليل على صدقه، فقوله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ .. } [الفتح: 29] محمد مبتدأ أخبر عنه بأنه رسول الله، ومحمد بمعنى محمود يحمده الناس ويثنون عليه.
إذن: هو من بدايته ونشأته مُعَدٌّ لهذه المهمة، لذلك ما جرَّبوا عليه كذباً أبداً، ولا شيئاً مما كان يفعله أترابه في الجاهلية، فكأنه يقول لهم: محمد هذا الذي تعرفونه، وتعرفون ماضيه وسيرته فيكم هو رسول الله، وكأن علة الإيمان بالرسول أنه محمد.
وسبق أن بيَّنا كيف عصمه الله من الزلل؟ وكيف عصمه من انكشاف عورته؟ لذلك ورد على لسانه صلى الله عليه وسلم وهو يجادل قومه: { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16].
يعني: أنتم تعرفون عني كل شيء، تعرفون أنِّي لا أكذب، ولم يسبق لي أنْ وقفت خطيباً فيكم ولا شاعراً. إذن: لماذا تُكذِّبونني؟.
وكلمة { هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2] ليستْ تكراراً للتعجب في { بَلْ عَجِبُوۤاْ .. } [ق: 2] بل عجيبٌ بالذي قيل، عجيبٌ قالها الكافرون، وقد شرحها القرآن في قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 94].
فردَّ عليهم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريده مَلَكاً، فقال لهم: إذا كان مَلَكاً فسوف يأتيكم في صورة بشر، إذن: ستظل الشبهة كما هي.
(أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ )٣-ق
هنا نقلوا المسألة من الاعتراض على بشرية الرسول إلى التشكيك في عملية البعث بعد الموت، وهكذا أصبح لدينا جوابان للقسم { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1].
الجواب الأول: إنك لمنذر والثاني: لتبعثُنَّ،
الأول: أخذناه من قوله: { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ .. } [ق: 2] والثاني: من قوله سبحانه: { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3].
ومعنى { رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3] أي: رجوع إلى الحياة بعد أنْ نموت ونصير تراباً، هذا أمر بعيد عن أذهانهم، لماذا؟ وأنتم عندكم آثار سيدنا إبراهيم وإسماعيل وبقايا الديانات السابقة، وتعرفون الله وتعترفون أنه خالقكم وخالق السماوات الأرض.
في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام حكى القرآن قوله: { قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .. } [البقرة: 260].
وقلنا: إن السؤال هنا ليس شكاً من سيدنا إبراهيم في قدرة الله على إحياء الموتى، إنما سؤال عن الكيفية فقط { كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ .. } [البقرة: 260].
فأراه الله سبحانه الكيفية ليستْ قولاً إنما فعلاً وتجربة مشاهدة، يُجربها هو بنفسه، وكأن الله تعالى يقول له ولنا: أن إحياء الموتى ليس صعباً ولا معجزاً لي، بل إذا أردتُ أُعدِّي قدرتي إلى عبد من عبادي، فيفعل ذلك بإذني. { { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260].
هذا أثر من آثار قدرة الله يمنحه لعبد من عباده.
وفي قصة سيدنا عيسى عليه السلام: { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ .. } [آل عمران: 49].
والقرآن يرد على منكري البعث، فيقول:
(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )٤-ق
يعني: لِمَ تعجبون وتنكرون البعث بعد الموت، والله علم مُكوِّناتكم وجزئيات وعناصر هذا الجسم وكمية كل عنصر منها، ويعلم ما تأخذه الأرض منكم وقادر على جمعه وإعادته كخَلْقه الأول هو هو، وإن كانت العناصر التي خرجتْ منه لا تزال خارجة، إذن: نحن نختلف باختلاف عناصر التكوين، لا باختلاف مجموع العناصر.
ومعنى { قَدْ عَلِمْنَا .. } [ق: 4] أي: أن هذه العملية تقوم على علم وعلى دراية لا مجرد كلام، ثم تستند إلى توثيق آخر: { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق: 4] فهذا العلم مُؤيّد بكتاب مسجَّل مسطور مشهود يحصى فيه كل شيء.
فإنْ قلتَ: فما فائدة الكتاب بعد العلم؟ نقول: علم الله واسع، وهو صفة من صفاته تعالى، وهو سبحانه لا ينسى، لكن يكتب في كتاب ليكون الكتابُ حجةً على مَنْ أنكر، كما في مسألة الحسنات والسيئات.
فالله تعالى يعلمها ويُحصيها، ولا يحتاج مَنْ يُذكِّره بها، لكن يكتبها للعبد لتكون حجة عليه يوم يقول له: { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14].
وكلمة { حَفِيظٌ } [ق: 4] مبالغة على وزن فعيل، وهي هنا بمعنى فاعل. أي: حافظ لكل شيء، مسجل لكل صغيرة وكبيرة، وهو أيضاً محفوظ فلا تمتد إليه يد فتختلس منه شيئاً، أو تغير فيه شيئاً.
لذلك قال: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 77-79].
وقال: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59].
والذي يحاول التشكيك في البعث أو نَقْضه هم الناس المستهترون المسرفون على أنفسهم، فهؤلاء لو صَحَّ البعثُ وصَحَّ الحساب والجزاء، فستكون العاقبة بالنسبة لهم سوداء، فحظهم إذن أن يُشككوا في البعث، وأنْ يُكذِّبوه، بل الدين كله في نظرهم كذب.
وتأمل مثلاً إفلاسهم في الحجة حين يقولون في تكذيبهم بالبعث: لو أن رجلاً مات وزُرعت فوق بقاياه شجرة تفاح مثلاً، فسوف تتحلل عناصره وتتغذّى منها هذه الشجرة، فسوف يأتي مَنْ يأكل منها.
وبذلك تصله بعض عناصر الأول، فإذا مات الثاني فكيف تُبعث هذه العناصر من الأول أم من الثاني؟
وهذه شبهة واهية، وللرد عليها نقول: لو أن رجلاً وزنه مثلاً مائة كيلو، وأصابه مرض أنقص من وزنه النصف حتى صار شبحاً، ثم مَنَّ الله عليه بالشفاء حتى استعاد صحته ووزنه الأول، فهل عادت إليه نفس عناصره الأولى؟
أبداً، لأنه يأكل عناصر أخرى غير التي فارقته لكن تبقى الشخصية وتبقى المعنويات المميزة لها، وحين تعود تعود كما كانت هي هي.
إذن: المسألة ليست مسألة نفس العناصر، إنما مسألة إعادة شخص بعينه، وما دام الحق سبحانه قال: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ .. } [ق: 4] فهو سبحانه قادر على جمعها وتكوينها من جديد، بقوله تعالى: كُنْ فيكون.
(بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ )٥ق
همنا من قولهم: { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3] أنهم مُنكرون للبعث لا يُصدِّقون أنهم سيُبعثون بعد الموت، وهذا الإنكار لا يغير من الواقع شيئاً، فالبعث حَقّ وسيحدث لكنهم يكذبون به لأنه ليس في صالحهم.
لذلك قال هنا: { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ .. } [ق: 5] والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً مهما طرأتْ عليه من أحداث، فسوف تمضي الأحداث والوقائع ويبقى الحق ثابتاً.
والحق سبحانه أعطانا مثلاً محسوساً للحق وللباطل، فقال سبحانه: { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17].
كذلك سيذهب إنكارهم وتكذيبهم وتبقى الحقيقة ويبقى الحق ثابتاً لا يتغير، وفي القرآن آيات كثيرة تحمل هذا المعنى، اقرأ: { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا .. } [التوبة: 40] فـ (كلمة) الأولى مفعول به، أما الأخرى فهي مبتدأ لإنشاء كلام جديد غير معطوف على الأول.
فالأولى مجعولة، والأخرى أمر ثابت أزلاً، جعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله عليا بداية، يعني: لم تكُنْ سُفلى فجعلها عليا، هذا يعني أن الحق شيء ثابت أزلاً وباقٍ لا يتغير.
وقوله تعالى: { فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق: 5] معنى مريج، أي: مختلط، فهم مذبذبون مترددون، مرة: تعجبوا وقالوا { هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2] ومرة أنكروا، ومرة كذَّبوا، فالأمر بالنسبة لهم مختلط من قولهم: مرج الخاتم في الإصبع إذا كان واسعاً سهل الحركة.
والدليل على أنهم في أمر مريج أنهم استقبلوا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الاتهامات، كلما خاب سعيهم في واحدة قالوا بالأخرى، لأن القرآن لهم بالمرصاد يرد كيدهم عن رسول الله.
لذلك سمعناهم يقولون: ساحر، شاعر، مجنون، كاهن.
إذن: { فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق: 5] لا يدرون ماذا يقولون، فكلما قالوا تهمة كشف القرآن كذبها، فالحق شيء واحد، لذلك نراه ثابتاً، أما الباطل فمتعدد لذلك لا يثبت.
وهذه المسألة نشاهدها في الشهادة أمام القاضي، فشاهد الحق يأتي قوله واحداً لا يتغير لأنه يصف واقعاً، أما شاهد الزور فيغير ولا يصمد أمام محاورات القاضي، وسرعان ما يقع وينكشف كذبه، لأنه لا يصف واقعاً، إنما يؤلف الأحداث من عنده.
ثم ينقل الحق سبحانه وتعالى مجالَ الحديث إلى الآيات الكونية التي تثبت قدرة الله تعالى وتمسّ مسألة العقيدة، فحين نُصحح لهؤلاء عقيدتهم ونعطفهم إلى الإيمان بالله سيفكرون في رسالة محمد، ويهتدون إلى الحق.
لذلك ترك الحديث عن تكذيبهم لرسول الله وللبعث، إلى الحديث عن الآيات الكونية في السماوات والأرض.
التفاسير العظيمه