إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً )تفسير الشيخ الشعراوي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً )تفسير الشيخ الشعراوي

    (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً )١-الفتح


    الحق سبحانه وتعالى هنا يتكلم بصيغة الجمع (إنَّا) الدال على العظمة، ذلك لأن الله تعالى يزاول مُلكَه لا بصفة واحدة، إنما بصفات متعددة وكمالات شتى، في القدرة والعلم والحكمة وغيرها من صفاته سبحانه.
    لكن حينما يتكلم عن ذاته سبحانه يتكلم بصيغة المفرد الواحد، فيقول مثلاً: { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ .. } [طه: 14] ليثبت لنفسه تعالى الوحدانية، فإنْ تكلم عن فعل من أفعاله قال: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].




    ونلاحظ هنا أنه سبحانه أكد ضمير المتكلم (إنَّا) بقوله (نحن) ثم كرر الضمير في (نزلنا) وفي { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9] ذلك ليؤكد أهمية المنهج الذي جاء به القرآن، وأنه منهج سماوي من عنده سبحانه، وأنه مُعجز للخلق، وفي هذا بيان لفضل القرآن الكريم.



    ومادة (فتح) تأتي بمعانٍ متعددة،


    نقول، فتح الباب. وهذا المعنى يدل على فتح المغاليق ويكون في الأمر الحسي، كما في قوله تعالى في قصة سيدنا يوسف عليه السلام: { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ .. } [يوسف: 65].



    وهناك فتح معنوي في الأمر الذي يأتي بالخير كما في قوله تعالى في المنافقين: { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ .. } [البقرة: 76] أي: ما أعطاكم في التوراة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في التوراة. وهناك فتح بمعنى: حكم وفصل كما في قوله تعالى: { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } [الأعراف: 89].



    ومن معاني الفتح: النصر كما في الآية التي معنا، بدليل قوله تعالى بعدها: { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } [الفتح: 3] لأن الدعوة حين قامت، وعارضها كفار مكة وصَمُّوا آذانهم عنها وعاندوها استهزاءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وإيلاماً له ولمَنْ آمن بدعوته.
    كان الحال كأن الباب مغلق في وجه الدعوة، فقال الله له { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [الفتح: 1] أي: فتح ظاهر واضح، فتح لباب انتشار الدعوة وقوتها بحيث يكون لها قوة وشوكة ومنعة، فبعد أنْ كانت قريش تحاصرها لتقضي عليها فتح لها الباب فجابت الجزيرة العربية كلها، وبعد أنْ كانت قريش تضيق على الدعوة الخناق أصبح العربُ كلهم يحتضنونها ويدافعون عنها.




    وفي آية أخرى شرح لنا مسألة الفتح هذه، فقال سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ .. } [الرعد: 41] يحكم بنصرة الإسلام وانتشاره في بقاع الأرض، وإذا حكم الله وقضى فلا رادَّ لقضائه، ولا مُعقبَ لحكمه { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا .. } [فاطر: 2] وما دام أن الله فتح فلا يضرك أنْ يغلق البشر.



    الفعل (فتح) يتعدى بنفسه في الفتح الحسيِّ نقول: فتح الباب ويتعدى باللام كما في { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ .. } [الفتح: 1] أي: نصرناك ويتعدَّى بـ (على) في الأمور المعنوية، وفي الخيرات يسوقها الله إليك ويُنزلها عليك.



    لذلك مشهور في الدعاء أن نقول: فتح الله عليك، كأن الخيرات ستنزل عليك كالمطر ينزل على رأسك، ومن ذلك قوله تعالى مع الفارق بين الحالين: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ .. } [الأنعام: 44] يعني: أتيناهم بالخيرات من كل ناحية { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ .. } [الأنعام: 44] أي: فرح البطر والتعالي { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [الأعراف: 95].
    لأنه كما سبق أنْ قلنا: إذا أردتَ أنْ تُوقع برجل لا تُوقعه من على الحصيرة مثلاً، إنما ترفعه إلى أعلى ليزيد الإيلام، كذلك هؤلاء فتح الله عليهم أبواب الخيرات من كل ناحية ليؤمنوا، لكنه نسوا ما ذكِّروا به، فأخذهم أخْذ عزيز مقتدر.




    والنعمة إذا لم تُقابل بالشكر انقلبتْ إلى نقمة { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7] والأخذ حال النعمة والرفاهية أنكى وأوجع من الأخذ حال الفقر، فالأخذ مع النعمة فيه يأسٌ بعد إطماع، مثل السجين الذي يطلب الماء لشدة عطشه، فيأتي له الحارسُ بكوب الماء حتى يقترب من فمه فيُريقه على الأرض.





    (لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً )٢


    (وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً )٣-الفتح

    سبق في سورة محمد أنْ بيَّنا معنى الذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم ، لذلك عدّ النسيان في حقه ذنباً لأنه نبي موصول بالوحي، مؤتمن على منهج الله، فلا يُتصوَّر منه النسيان الذي يحدث من باقي أمته.
    لذلك تجاوز الله لهم عن النسيان في حين لم يتجاوز عنه لرسول الله، ومثّلنا لذلك بنسيان سيدنا آدم { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] وسمّي هذا النسيان معصية.




    فالمغفرة لرسول الله من هذه الأمور أمثال عتاب الله له: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ .. } [التحريم: 1] وقوله: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33] وقوله: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6].
    فالله يعاتب رسوله شفقة عليه ورحمة به صلى الله عليه وسلم، وكأنه يقول له: يا محمد لا تحزن ولا تُحمِّل نفسك فوق طاقتها، لأن لك رصيداً من الله فالاستغفار من مثل هذه الأمور، لا أنه أذنب ذنباً فيه مخالفة للمنهج حاشاه صلى الله عليه وسلم أنْ يكون منه ذلك.




    وكلمة { لِّيَغْفِرَ .. } [الفتح: 2] من غفر والغفر هو الستر، وسَتْر الذنب إما أنْ يكون بعده بمنع العقوبة عليه أو يستر الذنب قبل أنْ يحدث فلا يحدث أصلاً، هذا معنى { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ .. } [الفتح: 2] ما تقدم يستر عقوبته، وما تأخر يستر الذنب نفسه فلا يقع.



    { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ .. } [الفتح: 2] تمام النعمة على رسول الله أنْ بعثه الله للناس كافة لكل زمان ولكل مكان، وكان الرسلُ قبله يُبعث الرسولُ إلى قوم معينين في زمن معين، أما سيدنا رسول الله فقد جاء على موعد مع التقاء حضارات الدنيا كلها واتصال بين المشرق والمغرب، فجاء رسولاً عاماً وخاتماً للرسالات، لذلك نقول: سيد الرسل وخاتم الأنبياء.



    ومن تمام النعمة أن الله فتح له، وأزال من أمامه العقبات التي كانت تعرقل مسيرة الدعوة حتى دانتْ له الجزيرة العربية كلها وشملها الإسلام، وعلى يديه هدى اللهُ هذه الأمة فحملت رسالته من بعده وساحت بها في شتى بقاع المعمورة.
    فجذب إليه أعظم حضارتين في هذا الوقت، هما: حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب، حتى إنهم ليقولون: من عجائب هذا الدين أنه فتح نصف الكرة الأرضية في نصف قرن من الزمان، وهذه لم تحدث من قبل.




    والحق سبحانه يشرح لنا مسألة تمام النعمة هذه في قوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً .. } [المائدة: 3].
    لذلك لما سمع سيدنا أبو بكر هذه الآية قال: لقد نعى محمد نفسه بهذه الآية. لأنه لا شيء بعد التمام إلا النقصان، فأخذوا من هذه إشارة إلى قرب موته صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لينال الجزاء.




    "لذلك لما جاءه ملك الموت وخيّره صلى الله عليه وسلم قال: بل الرفيق الأعلى" . فاختار جوار ربه ليس هرباً من المسئولية بل لعلمه بتمام الأمر واستوائه، وأنه ليس له مهمة بعد ذلك، بعد أنْ أدَّى الأمانة وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وأظهر أمر الدين، وأرسى قواعده.
    وقوله: { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [الفتح: 2] فبعد أنْ رأى النعمة قد تمتْ، وليس هناك مغاليق اطمأن إلى أن الله لا يتخلى عنه.
    وقوله تعالى: { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } [الفتح: 3] هل النصر هو العزيز أم المنصور؟ المنصور هو العزيز، إنما وصف النصر بالعزة فكأن نصر الحق يُسِعد النصرَ نفسه ويعزه وليقول له: إنك بهذا النصر أخذتَ ما لم يأخذه مثلك أبداً.
    وفي موضع آخر بيَّن الحق سبحانه أنه ناصر رسوله في وقت الرخاء كما في فتح مكة، وناصره وقت الشدة كما في حنين: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } [التوبة: 25-26].




    فلما اغتروا بالكثرة أدَّبهم، ثم تداركهم برحمته ونصرهم، وما كان الله لينصرهم في فتح مكة ثم يخذلهم في حنين، كان الله يقول لرسوله: أعلم أن الله وراءك وناصرك ومؤيدك، لكن عليك وعلى أمتك ألاَّ تغتروا بنصر أو بقوة أو بعدد { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ .. } [البقرة: 249].





    التفاسير العظيمة

يعمل...
X