خطبة تدبُّر سورة العصر
الحمد لله العليِّ الأعلى، الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، مَنْ يتَّبِعْ سُنَّته فقد اهتدى، ومَنْ يرغَبْ عن سُنَّته فقد ضلَّ وغوى، صلى الله عليه وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته؛ أما بعد:
فيقول الله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، أخبرنا الله أنه أنزل القرآن المبارك لنتدبر آياته، وليتذكر بها أصحاب العقول ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وقد يسَّر الله القرآنَ للذكر، فينتفع به كلُّ من يتلوه ويتدبره؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]، فيجد كلُّ من يتدبر القرآن من الهدايات ما يناسب حاله، ويُذكِّره بما ينفعه في أموره الخاصة والعامة، ففي القرآن العظيم هداياتٌ للعلماء والعامة، والرؤساء والوزراء، والقادة والزعماء، والأغنياء والفقراء، والتجار والعمال، والأصحَّاء والمرضى، والرجال والنساء، فيه هداياتٌ للمنتصرين والمنهزمين، فيه هدايات للمستضعفين، فيه بيان أسباب النصر والتمكين، فيه هدايات لجميع الناس في كل زمان ومكان، فيه ذكر أصول الإيمان وتصحيح العقائد، فيه الأمر بتوحيد الله سبحانه والإخلاص له، والنهي عن الشرك به، فيه تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن سيِّئها، فيه الحث على عبادة الله وذكره ودعائه، فيه أفضل الدعوات، فيه بيان الأحكام التي شرعها الله لمصالح عباده، فيه الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، المبيِّن بسنته ما أنزل الله عليه في كتابه، فيه بيان الحق في كل ما يختلف الناس فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 64]، وقال سبحانه: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54].
في هذا القرآن كل ما نحتاج إلى بيانه؛ كما قال الله سبحانه: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]؛ أي: يهدي الناس للخَصلة التي هي أحسنُ الخِصال في جميع الأمور، وفي كل الأحوال، فهو كلام الله الذي جعله نورًا وهداية للناس في كل زمان ومكان، يُخرجهم به من الظلمات إلى النور، ويهديهم به إلى الحق المبين في جميع أمورهم الدينية والدنيوية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فكل ما يحتاج الناس إليه بيَّنه الله في كتابه العظيم نصًّا أو دَلالة أو استنباطًا، علِمه مَن علِمه، وجهِله مَن جهِله.
ونتدبر معكم في هذه الخطبة سورةً قصيرة، لكنها كثيرةُ المعاني والهدايات؛ قال بعض العلماء عن هذه السورة: لوما تدبَّر الناس إلا هذه السورة لَكَفَتْهُم؛ إنها سورة العصر، ثلاث آيات جمعت الدين كلَّه، وفيها من التذكير والموعظة ما فيه كفاية:
يقول الله تعالى: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3].
أقسم الله في هذه السورة قسمًا عظيمًا لتأكيد خبرٍ مُخيف؛ وهو أن جميع الناس خاسرون، وإلى النار صائرون، أقسم الله بالعصر وهو الزمن، كما يُقال: عصر الصحابة أي: زمنهم، والعصر القديم والعصر الحاضر، وقيل: المراد بالعصر وقت صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى التي يُضيِّعها كثير من الناس، وكلا القولين صحيح، أقسم الله بالزمن، وأقسم بوقت صلاة العصر على أن جميع الناس في خسارة، كل الناس في ضلال، وكل الناس إلى جهنم؛ كما قال الله سبحانه: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال عز وجل: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]، وقال سبحانه: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24].
فالناجون من الخسارة هم القليل، وهم الذين اتَّصفوا بأربع صفات بيَّنها الله في هذه السورة:
الصفة الأولى: الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر خيرِهِ وشرِّه.
الصفة الثانية: العمل الصالح، وهو الخالي من الرِّياء الْمُقيَّد بالسُّنَّة، فليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، وأعظم الأعمال بعد الشهادتين: إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، وصوم شهر رمضان، وإيتاء الزكاة، وحجُّ البيتِ الحرام لمن استطاع إليه سبيلًا.
الصفة الثالثة: التواصي بالحق، والمراد بالتواصي أن يوصي كلٌّ من المؤمنين الآخرَ، فلا أحد منا يستغني عن الوصية والنصيحة، مهما بلغ علمُه وفضلُه، فتُوصيني وأُوصيك، وتنصحني وأنصحك، فالدين النصيحة، ومن صفات المؤمنين والمؤمنات الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال الله سبحانه: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ﴾ [التوبة: 71].
الصفة الرابعة: التواصي بالصبر؛ والصبر ثلاثة أقسام:
• صبرٌ على الطاعات، فالطاعات فيها نوعُ مشقة، فتحتاج إلى صبر على أدائها؛ كما قال سبحانه: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].
• صبرٌ عن المعاصي، فالنفس أمَّارةٌ بالسوء، فعلى المسلم أن ينهى نفسه عن هواها؛ قال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41].
• صبرٌ على أقدار الله المؤلمة، فالله يبتلي عباده بما يشاء؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156].
فمن أراد النجاة من الخسارة، فعليه أن يقوم بهذه الصفات الأربع المذكورة في هذه السورة؛ يُحقِّق الإيمان، ويعمل الأعمال الصالحة، ويُوصي غيره بالحق، ويوصي غيره بالصبر، وهذه الصفات تجمع الدين كلَّه، تجمع العقائد والعبادات، والمعاملات والأخلاق، فلنتواصَ بالصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذا التواصي بالصبر من أعظم الحق الذي يجب أن نتواصى به، فمن التواصي بالحق التواصي بالصبر، والتواصي بالحق من أعظم الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة من الإيمان، فالإيمان اعتقاد في القلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، وأقول ما سمِعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه؛ أما بعد:
فيا أيها المسلمون، القرآن الكريم عظيمُ القدر في ألفاظه ومعانيه، كريمٌ كاملُ الصفات، واسعُ المعاني والهدايات، كثير العلوم والبركات؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 43، 44]؛ أي: القرآن شرفٌ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولأُمَّتِهِ، وسوف يسألنا الله يوم القيامة عن هذا القرآن، هل قُمنا بتعلمه وتعليمه، وتلاوته وتدبره، واتباعه والتحاكم إليه، وشكرنا الله عليه وفرحنا به، أو أننا هجرناه وقدَّمنا عليه غيرَه؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((... وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)).
أيها المسلمون، فضل القرآن عظيم، وعظمته وبركته لا نهاية لها؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، ويقول سبحانه: ﴿ هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 203]، فالقرآن نورٌ وهدايةٌ ورحمةٌ في الدنيا والآخرة لكل من آمن به واتبعه، والمتدبِّر آياتِ القرآن يجد أن الله قد بيَّن الحق للناس بوضوح في جميع الأمور، ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 242]، ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103]، ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 89]، فأعظمُ مقاصد القرآن هدايةُ الناس إلى الصراط المستقيم، وإخراجهم من ظلمات الكفر والشرك، والجهل والمعاصي والظُّلم؛ كما قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1].
فالقرآن أفضل وأعظم كتابٍ على الإطلاق، وهو أحقُّ ما يُقرأ ويُستمع له، ويُحفظ ويُدرس، كتاب كامل لا نقص فيه، أخباره صادقة، وأحكامه عادلة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعَدلًا في الأحكام، كتابٌ قيِّمٌ مستقيم، لا خطأ فيه أبدًا، لا في حروفِه وألفاظِه، ولا في معانيه وأحكامه؛ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ﴾ [الكهف: 1، 2]، مستقيمٌ لا إفراط فيه ولا تفريط، مقيمٌ لمصالح العباد في دينهم ودنياهم، فبه قيامُ الأمة إن تمسكت به؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]؛ أي: في هذا القرآن عزُّكم وشرفكم، أفلا تعقلون؟!
هذا القرآن حبل النجاة، من اعتصم به نجا، ومن تركه هَلَكَ؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، ومن اتبع القرآن فلا خوف عليه بعد موته، ولا يحزن على ما ترك في دنياه، ولا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38]، ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124].
أولو العقول يستمعون القرآن ويتَّبعونه، ويتدبرونه ويهتدون به، ويتذكرون به ما ينفعهم في دينهم ودنياهم؛ قال الله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18].
حين استمع القرآنَ نفرٌ من الجن آمنوا به في مجلس واحد، وشهِدوا له بالعجب في فصاحته وبلاغته، وفي معانيه وهدايته، وفي بركته وتأثير مواعظه؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ﴾ [الجن: 1، 2].
لو أنزل الله القرآن على جبل ففهِمه لتصدَّع من خشية الله سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].
هذا القرآن يُثبِّت المؤمنين على الحق؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102]، ومن أراد أن يستقيم على الحق فعليه بهذا القرآن العظيم: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ﴾ [التكوير: 27، 28].
فعلى المسلم أن يجتهد في تعلُّم القرآن الكريم تلاوة وتفسيرًا، وأن يحرص على تدبره واتباعه، فالقرآن أعظم ما علَّم الله عباده، وتلاوة القرآن واتباعه تجارة رابحة لا خسران فيها، و((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)).
ومهما عظَّم المسلم القرآن الكريم فهو أعظم مما يظنُّ، وهدايات القرآن ونوره وبركته وخيره في الدنيا والآخرة أكثر مما يخطر ببال أحد، وكلما يتلو المسلم القرآنَ ويتدبَّره ويتعلَّمه، يزداد إيمانًا وعلمًا، وحكمة وهداية، إنه لقرآن مجيد، كريم، عظيم، حكيم، عزيز، مُبِين، مبارك؛ ﴿ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [إبراهيم: 52].
فالقرآن المجيد يهدي شعوب الأرض في كل زمان ومكان، يهديهم في جميع أمورهم الدينية والدنيوية، وهو هداية للأفراد والأُسر، والمجتمعات والدول، وفيه كل ما يصلح الناس في عقائدهم وعبادتهم، وأخلاقهم ومعاملاتهم، وفيه حلُّ جميع مشاكلهم الخاصة والعامة، وفيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
والمسلمون اليوم في أشد الضرورة لتعلُّم القرآن المجيد والسنة النبوية المبيِّنة له، فقد كثُر الجهل بالعلم الشرعي، وكثُرت الخلافات، وتنوَّعت الفتن، وعظُم الفساد، وتوالت الشدائد، وذلَّ المسلمون، ولا مخرج للمسلمين اليوم من هذا الواقع الأليم إلا بتعلُّم كتاب الله وسنة رسوله، والعمل بهما بصدق وجِدٍّ، ونشاط وقوة؛ فهما سبيل النجاة، وفيهما الهدى والنور، وفيهما عزُّ المسلمين ورفعتُهم، فبالاعتصام بالقرآن والسنة تصلح عقائد الناس وأخلاقهم، وأعمالهم الظاهرة والباطنة، وتصلح جميع أمور المسلمين الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وحبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وتوفَّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، واغفر لنا وجميع المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وارزقنا تلاوته وتدبره واتباعه، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اهدِنا لصالح الأعمال والأخلاق لا يهدي لصالحها إلا أنت، واصرف عنا سيِّئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم اجعلنا من أهل الإيمان الذين يعملون الأعمال الصالحة، وممن يتواصَون بالحق، ويتواصون بالصبر، واجعلنا من الفائزين، ونعوذ بك أن نكون من الخاسرين.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
د. محمد بن علي بن جميل المطري
شبكة الالوكة