يأتي هذا المقال بعنوانه الدقيق اللافت في أجواء اجتماعية حداثية حسَّاسة، فمما لا يخفى على كل لبيب تلك الاضطراباتُ المجتمعية المتنوعة التي تضرب المجتمع في أعماقه ليلَ نهارَ؛ ومنها موضوع (الشِّقاق الزوجي).
ذلك المرض الخبيث الذي ما عاد نادرًا كما كنا نسمع عنه من ذي قبل في الأزمنة البعيدة؛ بسبب شيوع الأجواء الْمُجَرْثَمة التي خَلَت من هدايات الوحي وأنوار النبوة، وخَوَت من عبير المودة، ونسائم الرحمة.
ولمَّا كان العلاج الناجع - دائمًا وأبدًا - لأدواء البشرية في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كان من اللازم أن تلتفت القلوبُ قبل العقول إليهما لحلِّ هذه المشكلة الْمُزْمِنة حلًّا راقيًا لا يتأتَّى كماله وجماله وتمامه من أي كتاب آخر في الوجود.
إذ العنوان الذي يتصدر المقال هو آية قرآنية من حُزمة آياتٍ تلتفُّ حول وحدة موضوعية واحدة، تلتقي دلالات تلك الوحدة الموضوعية الهادفة باسم السورة الكريمة التي تحيط بالآيات التقاءً انسجاميًّا معجزًا؛ سورة (النساء).
وهذا دليل على ما أفاءه الله عزَّ وجلَّ على بنات حوَّاءَ في عالم الزواج من اهتمام وعناية، فحيثما تشتعل نيران الفرقة بين الزوجين، ويُطِلُّ شبح الشِّقاق برأسه الشيطانية اللعينة، فسرعان ما يحتوي القرآن الكريم هذه الأجواء الملتهبة، ويزرع ورودَ الأمل في كل مكان زلزلته براثن الألم.
ومن أبرز مظاهر الإعجاز القرآني العظيم في هذه الآية الكريمة التي مسَّت شَغافَ القلب قبل التسلُّل إلى دَوحة العقل؛ لحل هذه المشكلة الشائكة، وتفكيكه لما تعقَّد من عُراها الْمُوثَقة.
أولًا: ضرورة المرجعية:
حيث نجد أن الله سبحانه وتعالى يوجِّه الخطاب في هذه الآية المباركة للمَعْنِيِّين بالزوجين، وللحريصين على استقرار حياتهما، وهذا يشير إلى معنًى عظيم في أعماق الآية الكريمة؛ وهو خطورة المرجعية في حياة الأزواج، وضرورتها لاستدامة الحياة بينهما في أمان وسلام، فلو أن الآية العظيمة أتَتْ في أي أسلوبٍ آخرَ بعيدٍ عن أسلوب التحديد والتعيين لأشخاص مخصوصين، يُناط برقابهم مسؤولية حسَّاسة تجاه طرفي الزواج - لكان لها في رَواقِ الفَهم وضعٌ آخر.
ثانيًا: الخوف الإيجابي:
ويتأتى ذلك من عَبَقِ المستوى الدِّلالي الرفيع للفظة القرآنية الواردة في الآية الكريمة ﴿ خِفْتُمْ ﴾؛ إذ يرتقي هذا المستوى الصاعد عن مستويات دَلالية أخرى لألفاظ عربية عديدة، كان من الممكن أن تحِلَّ - بإذن الله تعالى - محلَّ هذه اللفظة، كلفظة (استشعرتم) مثلًا، لولا أن لفظة ﴿ خِفْتُمْ ﴾ مقصودة لعلاج هذا الداء الْمُسْتَعِر، فإيحاءات هذه اللفظة ترمي إلى الأثر النفسي الضارب في نفوس الذين تقع على عواتقهم مسؤولية رأب الصدع في رَواقِ الحياة الزوجية المقدَّسة؛ من خوف شديد يتأتَّى من حساسية استشعارهم، ودقة إدراكهم لشبح الشِّقاق الزوجيِّ الفتَّاك، الذي يستفحل في دوحة الحياة الزوجية الوارفة، فيُحيلها هشيمًا تذروه الرياح، فشدة الخوف – إذًا - تدفع إلى شدة الحذر والحيطة، وشدة الحذر والحيطة تدفع بالضرورة إلى مضاعفة المجهود، ومضاعفة المجهود تُذيب العراقيل، وتسحق السدود، بفضل الله تعالى وعونه.
ثالثًا: إحسان التوصيف:
يتضح ذلك من وسائل العلاج العبقرية التي تفيض من جلال الآية الكريمة، التي تتألَّق على جبين هذا المقال؛ حيث اصطفاء الله تعالى للفظة (شقاق) الواردة في الآية، دون غيرها من الألفاظ التي قد تؤدي المعنى في النفس الإنسانية؛ كلفظة (الخلاف) مثلًا.
حيث إن لفظة (الشقاق) تُوحي بمعنى الانقسام في الجزء الواحد، واللُّحمة الواحدة، فليست الحياة الزوجية - إذًا - كما يتوهم البعض جزأين منفصلين، وقطاعين متباينين، وإنما هي تُبنى بجزأين متمايزين، ثم بالعشرة الطيبة ينصهر كلٌّ منهما في الآخر حتى يصيرا جزءًا واحدًا، فإذا ما استقر هذا المعنى استقرارًا راسخًا في نفوس الذين يتصدرون للعلاج، أنتجت عقولهم أقصى ما يمكن إنتاجه من حلول لتطهير رَواقِ الزواج الشريف مما علِق به من أدران، وحلَّ فيه من أوضار.
ثم إن من الدروس العلاجية المستفادة من إيحاءات اللفظة القرآنية (شِقاق) دون سواها من الألفاظ العربية، إرشادَه تعالى للمتصدِّرين للعلاج بطبيعة الداء ومجاله وحدوده، الذي يتأتى من جرس اللفظة وإيقاعها الدقيق اللافت إلى خطورة الأمر الواقع بين الزوجين، الذي قد تتفاقم ضخامته إلى حد نسف الحياة الزوجية من قواعدها المكِينة، فيكون وصف الدواء على قدر توصيف الداء، والشعور به، والإدراك له.
واللفظة تغمُر النفس بمعنى انقسام الجزء الواحد إلى قسمين، التحما قديمًا بطول العشرة، وسحائب المعروف، حتى فجعهما انفجارٌ مهولٌ عنوانه الشقاق، فَلَقَ الكلَّ فأحاله إلى جزأين، ودمغ الواحد فصيَّره نصفين، فيتم على إثر هذا التوصيف الدقيق المُحدَّد إدراك البواعث، وملامسة الآثار، واستشعار العواقب، ثم استشفاف الحلول النافذة التي تمرِّغ أنوف أبالسة التفريق في الرغام، وتُحصِّن الأجواء الزوجية الطاهرة من تسرُّب جراثيم الشقاق إليها، وسريان سرطان الفُرقة في بنيانها الشامخ.
رابعًا: ثمرة الشقاق:
طَلْعُ شجرة الشقاق تحدده الآية الكريمة تحديدًا موجزًا رائعًا في كلمة واحدة؛ وهي قوله تعالى: ﴿ بَيْنِهِمَا ﴾، وهذه الكلمة هي آخر جزء من بناء الآية الكريمة التي معنا، والثمرة هي آخر مرحلة من مراحل الغِراس، وثمة علاقة شفيفة بين آخر كلمة في بناء الآية، وآخر مرحلة من مراحل الشقاق الزوجي، فكأن آخرَ كلمة في الآية الكريمة تصِف نهاية الشقاق في علاقة الزواج؛ وهي (البينية)، تلك البينية التي ترسم بدقة معنى الانفصال والانقسام، ليجسِّد لنا القرآن العظيم شناعة هذا الشقاق المؤلم أدقَّ تجسيد، ويصف شؤمه، ويُجلِّي بشاعته، ويُبرز ثمرته، تلك الثمرة المريرة التي تعود بالعلاقة المترابطة المتينة التي امتزجت أجزاؤها حتى صارت جزءًا واحدًا، إلى أساس بنائها من الثنائية والتمايز.
ومما سبق يتضح أن خلاصة القول في هذا المقال تتبلور فيما يأتي:
١- الشقاق الأسري ليس أمرًا هامشيًّا في واقع الحياة المعاصرة، وإنما هو داء مستفحل يستوجِب الهِمَّة، وتشمير السواعد لمجابهته، والقضاء على كل بواعثه، وجميع أسبابه بعِلْمٍ وحكمة.
٢- القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهَّرة يمثِّلان القِبلة العظيمة التي نتوجه إليها في الاستشفاء من كلِّ ما يحيق بالإنسانية من أدواء وأوصاب.
٣- الآية القرآنية - عنوان هذا المقال - تشير إلى الداء، وتحمل في طياتها الإعجازية دقائق الدواء، وهذه العظمة الشامخة يستحيل أن تتأتى في غيرِ القرآن الكريم.
٤- المرجعية الرشيدة من العدول وأهل الخبرة هي الوسيلة الأولى والأساسية من أهم وسائل العلاج الناجع للشقاق الزوجي؛ إذ لا يتصور أن يتم احتواء مثل هذه الأمور الخطيرة بأصحاب الأيادي المرتعشة، والعقول القاصرة، والأنفاس القصيرة، والصدور الضيقة، والقلوب الملتاثة.
٥- الخوف الإيجابي لا يُعاب على الرجال، بل إن من دلائل الرجولة الراشدة أن يحمل الإنسان في كيانه مَعينًا لا ينضُب من الخوف المعتدل، فهناك من مشكلات الحياة ما لا يتم علاجه، ولا يستقيم سداده، إلا باستشعار الخوف المعتدل من مغبَّة انتشاره، وكارثة استفحاله.
٦- إحسان التوصيف للداء، والتدقيق في الإبانة عن ملامحه وأعراضه محورٌ رئيس من أهم المحاور التي تدور عليها آليات العلاج السريع، وطرائق الشفاء النافذ.
٧- الوقوف على ثمرة الشقاق الزوجي طريقُ الاحتراز من تكراره في حالات أخرى، ودليل فلاح للذين يسعون في الإصلاح، ثم الوقوف على ثمرة الشقاق الزوجي - يمثِّل مرآة ينعكس على دقائق صدقها حجمُ هذا الداء الوبيل، وشدة خطورته، وآثار وبائيته.
أحمد عبدالحكم صالح سلامة
شبكة الالوكة