والحق سبحانه حينما يُحدِّثنا عن هذه الخيرات ويمتنُّ علينا بهذه النِّعم يُذكِّرنا بقدرته تعالى على زوالها ونقضها، وكيف أنه لو شاء سبحانه لحرمنا، بل ولحوَّل لنا هذه النعم إلى نقم والعياذ بالله، لذلك لنا وقفة مع قوله سبحانه عن الزرع: { { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة: 64] نعم نحن نحرث ونروي ونباشر، لكن الإنبات بيد مَنْ؟ ثم يُذكِّرنا سبحانه بقدرته على نقض هذه النعمة { { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [الواقعة: 65].
ثم يُحدِّثنا عن نعمة الماء، وكيف ينقضها: { { أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [الواقعة: 68-70].
لكن حين يُحدِّثنا الحق سبحانه عن نعمة النار يتركها دون أنْ يذكر ما ينقضها: { { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة: 71-72].
هكذا دون أنْ يذكر ما ينقضها كسابقها، لماذا؟
قالوا: لأن هذه هي النار النافعة الصحية التي لا ضررَ فيها نوقدها لننتفع بها، وكل نار بعدها لها ضرر، لذلك لم يقل الحق سبحانه مثلاً: لو نشاء لجعلناها رماداً، ذلك لتظل النار باقية تُذكِّرنا بنار الآخرة.
ثم لك أنْ تلحظ عظة الأداء القرآني ودقته في التعبير، فلما تكلم عن الزرع قال: { { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [الواقعة: 65] هكذا بلام التوكيد، لماذا؟ ليؤكد قدرته تعالى على الذهاب بالزرع مهما كان، والزرع للإنسان دور فيه وتدخّل، فهو يحرث ويروي ويباشر، إنما حين تكلم عن خَلْق الإنسان وعن الماء لم يذكر في ذلك توكيداً؛ ذلك لأن مسألة الخلق ومسألة نزول الماء من السماء لا دخْلَ للإنسان فيها.
والآيات في كَوْنِ الله كثيرة :
آيات كونية: تثبت قدرة الخالق كالليل والنهار والشمس والقمر، ثم آيات معجزات: صاحبتْ رسل الله لتثبت صدقه في البلاغ عن الله، وآخرها آيات الأحكام: وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل منهج الله للناس. وهذه كلها تخدم قضية اليقين والإيمان بالله.
فإذا أُشْرِبَ الإنسان العقيدة الإيمانية أعلنها بلسانه فرحاً بها. وهنا يأتي دور اللسان المعبِّر عما في القلب والقائد لباقي الجوارح، لذلك ورد في الحديث الشريف أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم إلا وتنادي الجوارحُ اللسانَ تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإذا استقمتَ استقمنا، وإذا اعوججتَ اعوججنا" .
فقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } [فصلت: 30] دلَّ على قول المؤمنين الذي رسخ الإيمانُ في قلوبهم، فعبَّرت عنه الألسنة { رَبُّنَا ٱللَّهُ } [فصلت: 30] مُوجدنا ومربِّينا الذي خلقنا من عدم، وأمدنا من عُدْم، وأعطانا الأمن والأمان، لأنه القائل: { { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [البقرة: 255].
فالإنسان إنْ أراد حارساً استأجر له حارساً، فكيف به إذا نام حارسه، أما أنت أيها المؤمن ففي حراسة الله فنَمْ مطمئن القلب، لأن حارسك لا تأخذه سِنَة ولا نوم.
فالمؤمن حين يباشر كل هذا النعيم، وحين يرى مقومات حياته في متناول يده من طعام وشراب، وأمن وسلام، هواء يتنفسه وأرض تعطيه كل ما يشتهي، يفرح بعطاء الله له ولا يملك إلا أنْ يقول (رَبُّنَا اللهُ) لأنها أًصبحت عقيدة ثابتة في القلب.
وما دام ربك الله، فلا تحزن ولا تهتم لأمر الدنيا فاللهُ مُتولِّي أمرك، إنك ترى الولد في حياة أبيه لا يحمل هَمَّ شيء، ولا يفكر في غلاء الأسعار، ولا في توفير القوت والسلع والملابس .. إلخ لأن والده موجود، فما بالك إنْ كان الله هو الذي يتولاك؟ والله إن المؤمن الحق ليستحي أنْ يحمل همَّ الرزق أو العيش، وهو يعلم أن ربه الله.
وما دام { رَبُّنَا ٱللَّهُ } [فصلت: 30] فلا كَرْبَ وأنت رَبٌّ. ربك سيتولاك، ويبعد عنك كل سوء، ويكفيك كل ما أهمك.
تذكرون قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون، فلما اتبعه فرعون بجنوده { { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] هكذا يقول واقع الأحداث، فأمامهم البحر وخلفهم جنود فرعون ولا مفرّ، لكن ماذا قال موسى؟ قال: (كلا) يعني: لن يدركونا ولن ينالوا منا. قالها من رصيده الإيماني وثقته في ربه وحمايته له، فما كان الله ليرسل رسولاً ثم يُسلمه لعدوه. { { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62] لذلك جاءه الفرج من ربه في التو: { { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [الشعراء: 63].
تأمل هنا حراسة الله لأوليائه، وتأمل هذه المعجزة، وهذه الربوبية، فما أنْ قال موسى قولته بصدق الإيمان إلا وجاءه الردُّ، فسلب الله من الماء خاصية السيولة وتجمد الماء فسار على الجانبين، كل فِرق كالطود العظيم، وفي الوسط طريق جاف يابس عبر منه موسى وجنوده.
حتى إذا ما وصل الشاطئ الآخر أراد أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى سيولته ويغلق الطريق في وجه فرعون. فأرشده ربه وصحَّح له وجهة نظره فلله تدبير آخر، والموقف لم ينته بعد، فقال الله لموسى: { { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [الدخان: 24].
بعد أن نجَّى الله موسى وقومه وذهب بهم إلى الصحراء جعل لنفس العصا دوراً آخر: { { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً .. } [البقرة: 60] فالعصا واحدة يضرب بها الماء فيصير جبلاً، ويضرب بها الجبل فيتفجر بالماء، فالأثر مختلف لأن الفاعل هو الله القادر.
فقوله تعالى: { رَبُّنَا ٱللَّهُ } [فصلت: 30] تعطينا فكرة إجمالية عن عطاء الربوبية للمادة وللقيم، فربُّك الذي أمدك بمقومات المادة ما كان ليتركك بدون مقومات الروح والقيم، فكما أخذتَ نِعَمه في المطعم والمشرب والمسكن فخُذْ نعمه في التكليف، لأنه بالتكليف يربي فيك الروح والقيم.
وهذا ينبغي أن نتأمل مثلاً قوله تعالى: { { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأعراف: 26].
فالله تعالى أعطاك الضروري من اللباس وهو ما يستر عورتك، ثم زادك الرياش وهو ترف اللباس والزينة التي يتباهى بها الإنسان، لذلك نقول (فلان ده متريش).
لكن لا تنسَ أن لباس التقوى ذلك خير، يعني: أفضل من اللباس الأول، فلباس المادة يستر عورتك في الدنيا، أما لباس التقوى فيسترك في الدنيا وينجيك في الآخرة.
إذن: فهو عطاء ممتدّ باق خالد في الآخرة. فهو إذن خير لباس لمن وعى وفهم. فربُّك بربوبيته لنا أعطانا ما يقيم مادتنا وما يسعد دنيانا، وما كان سبحانه ليترك قلوبنا خالية من الأخلاق والقيم الروحية التي تُسعدنا في الآخرة.
واقرأ إنْ شئت قوله تعالى: { { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14].
فما عند الله في الآخرة هو الباقي، والمادة تفنى وتزول، والدنيا كلها ما هي إلا مرحلة إعداد للآخرة الباقية، حيث يعطيك ربك العطاء الحق، العطاء الممتد. انظر إلى الولد الصغير نعلمه (ابتدائي وإعدادي وثانوي وجامعة)، لماذا كل هذا التعب؟ للثمرة المرجوة بعد ذلك ليكون عضواً بنَّاءً في حركة الحياة، كذلك نحن في الدنيا نعمل لهدف أًسْمى هو الآخرة، حيث النعيم الباقي الذي لا يُنغصه شيء.
يتبع
ثم يُحدِّثنا عن نعمة الماء، وكيف ينقضها: { { أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [الواقعة: 68-70].
لكن حين يُحدِّثنا الحق سبحانه عن نعمة النار يتركها دون أنْ يذكر ما ينقضها: { { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة: 71-72].
هكذا دون أنْ يذكر ما ينقضها كسابقها، لماذا؟
قالوا: لأن هذه هي النار النافعة الصحية التي لا ضررَ فيها نوقدها لننتفع بها، وكل نار بعدها لها ضرر، لذلك لم يقل الحق سبحانه مثلاً: لو نشاء لجعلناها رماداً، ذلك لتظل النار باقية تُذكِّرنا بنار الآخرة.
ثم لك أنْ تلحظ عظة الأداء القرآني ودقته في التعبير، فلما تكلم عن الزرع قال: { { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [الواقعة: 65] هكذا بلام التوكيد، لماذا؟ ليؤكد قدرته تعالى على الذهاب بالزرع مهما كان، والزرع للإنسان دور فيه وتدخّل، فهو يحرث ويروي ويباشر، إنما حين تكلم عن خَلْق الإنسان وعن الماء لم يذكر في ذلك توكيداً؛ ذلك لأن مسألة الخلق ومسألة نزول الماء من السماء لا دخْلَ للإنسان فيها.
والآيات في كَوْنِ الله كثيرة :
آيات كونية: تثبت قدرة الخالق كالليل والنهار والشمس والقمر، ثم آيات معجزات: صاحبتْ رسل الله لتثبت صدقه في البلاغ عن الله، وآخرها آيات الأحكام: وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل منهج الله للناس. وهذه كلها تخدم قضية اليقين والإيمان بالله.
فإذا أُشْرِبَ الإنسان العقيدة الإيمانية أعلنها بلسانه فرحاً بها. وهنا يأتي دور اللسان المعبِّر عما في القلب والقائد لباقي الجوارح، لذلك ورد في الحديث الشريف أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم إلا وتنادي الجوارحُ اللسانَ تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإذا استقمتَ استقمنا، وإذا اعوججتَ اعوججنا" .
فقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } [فصلت: 30] دلَّ على قول المؤمنين الذي رسخ الإيمانُ في قلوبهم، فعبَّرت عنه الألسنة { رَبُّنَا ٱللَّهُ } [فصلت: 30] مُوجدنا ومربِّينا الذي خلقنا من عدم، وأمدنا من عُدْم، وأعطانا الأمن والأمان، لأنه القائل: { { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [البقرة: 255].
فالإنسان إنْ أراد حارساً استأجر له حارساً، فكيف به إذا نام حارسه، أما أنت أيها المؤمن ففي حراسة الله فنَمْ مطمئن القلب، لأن حارسك لا تأخذه سِنَة ولا نوم.
فالمؤمن حين يباشر كل هذا النعيم، وحين يرى مقومات حياته في متناول يده من طعام وشراب، وأمن وسلام، هواء يتنفسه وأرض تعطيه كل ما يشتهي، يفرح بعطاء الله له ولا يملك إلا أنْ يقول (رَبُّنَا اللهُ) لأنها أًصبحت عقيدة ثابتة في القلب.
وما دام ربك الله، فلا تحزن ولا تهتم لأمر الدنيا فاللهُ مُتولِّي أمرك، إنك ترى الولد في حياة أبيه لا يحمل هَمَّ شيء، ولا يفكر في غلاء الأسعار، ولا في توفير القوت والسلع والملابس .. إلخ لأن والده موجود، فما بالك إنْ كان الله هو الذي يتولاك؟ والله إن المؤمن الحق ليستحي أنْ يحمل همَّ الرزق أو العيش، وهو يعلم أن ربه الله.
وما دام { رَبُّنَا ٱللَّهُ } [فصلت: 30] فلا كَرْبَ وأنت رَبٌّ. ربك سيتولاك، ويبعد عنك كل سوء، ويكفيك كل ما أهمك.
تذكرون قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون، فلما اتبعه فرعون بجنوده { { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] هكذا يقول واقع الأحداث، فأمامهم البحر وخلفهم جنود فرعون ولا مفرّ، لكن ماذا قال موسى؟ قال: (كلا) يعني: لن يدركونا ولن ينالوا منا. قالها من رصيده الإيماني وثقته في ربه وحمايته له، فما كان الله ليرسل رسولاً ثم يُسلمه لعدوه. { { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62] لذلك جاءه الفرج من ربه في التو: { { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [الشعراء: 63].
تأمل هنا حراسة الله لأوليائه، وتأمل هذه المعجزة، وهذه الربوبية، فما أنْ قال موسى قولته بصدق الإيمان إلا وجاءه الردُّ، فسلب الله من الماء خاصية السيولة وتجمد الماء فسار على الجانبين، كل فِرق كالطود العظيم، وفي الوسط طريق جاف يابس عبر منه موسى وجنوده.
حتى إذا ما وصل الشاطئ الآخر أراد أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى سيولته ويغلق الطريق في وجه فرعون. فأرشده ربه وصحَّح له وجهة نظره فلله تدبير آخر، والموقف لم ينته بعد، فقال الله لموسى: { { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [الدخان: 24].
بعد أن نجَّى الله موسى وقومه وذهب بهم إلى الصحراء جعل لنفس العصا دوراً آخر: { { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً .. } [البقرة: 60] فالعصا واحدة يضرب بها الماء فيصير جبلاً، ويضرب بها الجبل فيتفجر بالماء، فالأثر مختلف لأن الفاعل هو الله القادر.
فقوله تعالى: { رَبُّنَا ٱللَّهُ } [فصلت: 30] تعطينا فكرة إجمالية عن عطاء الربوبية للمادة وللقيم، فربُّك الذي أمدك بمقومات المادة ما كان ليتركك بدون مقومات الروح والقيم، فكما أخذتَ نِعَمه في المطعم والمشرب والمسكن فخُذْ نعمه في التكليف، لأنه بالتكليف يربي فيك الروح والقيم.
وهذا ينبغي أن نتأمل مثلاً قوله تعالى: { { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأعراف: 26].
فالله تعالى أعطاك الضروري من اللباس وهو ما يستر عورتك، ثم زادك الرياش وهو ترف اللباس والزينة التي يتباهى بها الإنسان، لذلك نقول (فلان ده متريش).
لكن لا تنسَ أن لباس التقوى ذلك خير، يعني: أفضل من اللباس الأول، فلباس المادة يستر عورتك في الدنيا، أما لباس التقوى فيسترك في الدنيا وينجيك في الآخرة.
إذن: فهو عطاء ممتدّ باق خالد في الآخرة. فهو إذن خير لباس لمن وعى وفهم. فربُّك بربوبيته لنا أعطانا ما يقيم مادتنا وما يسعد دنيانا، وما كان سبحانه ليترك قلوبنا خالية من الأخلاق والقيم الروحية التي تُسعدنا في الآخرة.
واقرأ إنْ شئت قوله تعالى: { { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14].
فما عند الله في الآخرة هو الباقي، والمادة تفنى وتزول، والدنيا كلها ما هي إلا مرحلة إعداد للآخرة الباقية، حيث يعطيك ربك العطاء الحق، العطاء الممتد. انظر إلى الولد الصغير نعلمه (ابتدائي وإعدادي وثانوي وجامعة)، لماذا كل هذا التعب؟ للثمرة المرجوة بعد ذلك ليكون عضواً بنَّاءً في حركة الحياة، كذلك نحن في الدنيا نعمل لهدف أًسْمى هو الآخرة، حيث النعيم الباقي الذي لا يُنغصه شيء.
يتبع
تعليق