هل وقفتَ يوماً عندَ قولِه تعالى على لسانِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف: 196] وتأملتَ فيها؟
يقولُ ابنُ كثيرٍ -رحمه الله تعالى- في تفسيرِه: "أَيْ اللَّهُ حَسْبِي وَكَافِينِي، وَهُوَ نَصِيرِي وَعَلَيْهِ مُتَّكَلِي وَإِلَيْهِ أَلْجَأُ وَهُوَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ وَلِيّ كُلِّ صَالِحٍ بَعْدِي".
فهنيئاً لكم أيها الصالحونَ عنايةَ اللهِ -تعالى- بكم، وتدبيرَه لأمورِكم، واختيارَه ما يَصْلُحُ لكم، سواءً كانت تلكَ الأقدارُ مُفْرِحةً في أعينِكم أو مؤلمةً، وسواءً كانت ظاهِرةً لكم أو مُبْهَمةً، فالخيرُ كلُ الخيرِ أن يكونَ اللهُ -تعالى- الذي يعلمُ غيبَ السمواتِ والأرضِ ويعلمُ ما كانَ وما يكونُ هو من يتولى شئونَك، ويختارُ لك.
وصدقَ أبو العتاهيةِ حينَ قالَ:
وَإِذَا العِنَايَةُ لاَحَظَتْكَ عُيُونُهَا *** نَمْ فَالمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ
وخيرٌ منه قولُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ".
أيها العبدُ الصالحُ: إذا علمتَ أن اللهَ -تعالى- أرحمُ بك من أمِك، وأرحمُ بك من نفسِك، فسيطمئنُ قلبُك، وتسكنُ روحُك، وستعلمُ أن ما كتبَه اللهُ -تعالى- لك فهو خيرٌ كلُه، حتى وإن كانَ ذلك القضاءُ في ظاهرِه شراً، فإن عاقبتَه حميدةٌ، ونهايتَه سعيدةٌ.
وتعالوا معي أحدِّثُكم عن شيءٍ من أسرارِ اللهِ -تعالى- في أقدارِه لعبادِه الصالحينَ:
مساكينُ يعملونَ في البحرِ، ليس لهم من حُطامِ الحياةِ إلا سفينةً يتَكَسَبونَ بها، ينقلونَ الناسَ من ساحلٍ إلى ساحلٍ بأُجرةٍ ينفقون بها على أنفسِهم وأهليِهم، مروا يوماً على الساحلِ فوجدوا رجلينِ، عرفوا أَحدَهما وهو الخَضِرَ وكانَ معَه موسى -عليه الصلاة والسلام-، فقالوا: "عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ، فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ" -أي بغيرِ أُجرةٍ-.
فحبُهم لأهلِ الصلاحِ ونقلهِم دونَ أُجرةٍ مع حاجتِهم للمالِ يدلُ على صلاحِهم، ثم حدثَ شيءٌ غريبٌ.
"فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ".
ولكم أن تتخيلوا شعورَ أولئكَ المساكينِ، وهم يرونَ سفينَتَهم الوحيدةَ وقد خُرقتْ، وعلى يدِ مَن؟
على يدِ ذلكَ الرجلِ الصالحِ الذي حملوه بغيرِ أجرةٍ.
لذلك: "قَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا" أي عظيماً.
فهذا هو ظاهرُ الأمرِ للمساكينِ والكليمِ، ولكن ما هو تقديرُ العليمِ الحكيمِ؟
قالَ الخَضِرُ لموسى -عليه السلام-: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [الكهف: 79].
فسبحانَ الذي حفظَ لهم سفينتَهم من ذلك المَلِكِ الغاصبِ الذي يأخذُ كلَ سفينةٍ صالحةٍ غصباً، فسفينةٌ مخروقةٌ خيرٌ من عَدَمِها، قالَ الخَضِرُ: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)[الكهف: 82].
ولقد صَدَقَ، وإنما هو عن أمرِ مَنْ: (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
أبوَانِ مُؤْمِنَانِ، رزقَهما اللهُ -تعالى- غلاماً ملأَ حياتَهما، أحباهُ حُباً جمّاً، وفي يومٍ من الأيامِ وهو يلعبُ مع الغلمانِ، مرَ عليه الخَضِرُ: "فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ" ثم: "أَخَذَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ".
سبحانَ اللهِ، طفلٌ صغيرٌ ويُقتلُ بهذه الطريقةِ البَشِعةِ، فأيُ حُزنٍ قد أصابَ والديه؟ وأيُ همٍ قد غَشِيَ حياتَهما؟
فقالَ موسى -عليه السلام-: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) [الكهف: 74].
ولكن ما الذي وراءَ ذلكَ؟
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) [الكهف: 80].
فهو في علمِ اللهِ -تعالى- أنه لو كَبُرَ لكانَ كافراً، ولَشقيَ به والداهُ المُؤْمِنَانِ، ولأصبحتْ حياتُهما جحيماً لا يُطاقُ، وحنظلاً مرَ المذاقِ، بسببِ ذلك الولدُ العاقُ.
فكانَ اختيارُ الرحيمِ -سبحانه- لهم خيرٌ من اختيارِهم لأنفسِهم، فقبضَ الولدَ صغيراً لم يَبلُغْ، فسيشفعُ لوالديه يومَ القيامةِ، ثم يكونُ معهم في الجنةِ، وأما والديه فيحزَنا قليلاً، فتُرفعُ به درجاتُهما، وتكثرُ به حسناتُهما، وتُكَفرُ به سيئاتُهما، ثم يُبدلُهما اللهُ -تعالى- خيراً منه لينسونَ به الآلامَ، وتحلو به الأيامُ، قالَ الخَضِرُ: (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) [الكهف: 81].
ألم أقلْ لكم إن اللهَ: (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
قريةٌ من القُرى فيها قومٌ لئامٌ بُخلاءٌ، ومن لؤمِهم أنه نزلَ بهم خيرُ مَن على الأرضِ في ذلك الزمانِ موسى والخضرُ -عليهما السلام- فـ(اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا).
فلم يمتنعوا عن الطعامِ فقط، بل امتنعوا حتى عن الضيافةِ وإسكانِهم في بيتٍ من البيوتِ للراحةِ: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا).
وكان يسكنُ معهم رجلٌ صالحٌ قد نزلَ به الموتُ، وعندَه صبيةٌ صغارٌ ولديه مالٌ، ولم يجدْ في القريةِ أميناً يحفظُ المالَ حتى يكبَرَ الأيتامُ، فما كانَ منه إلا أن حفرَ تحتَ أحدِ جدرانِ القريةِ ودفنَ الكنزَ ثم ماتَ.
ولما مرَ الخضرُ وموسى على القريةِ: (وَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) الخضرُ بيدِه وأصلحَه، فتعجّبَ موسى من فعلِه بالجدارِ مع هؤلاءِ اللئامِ الذينَ لم يضيفوهما: (قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)[الكهف: 77].
فأخبرَه بما أوحاهُ اللهُ -تعالى- إليه: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ)[الكهف: 82].
اللهُ أكبرُ، لأجلِ صلاحِ أبيهم يحفظُ اللهُ -تعالى- لهم كنزَهم، ويرسلُ لهم خيرَ من على الأرضِ في ذلك الزمانِ، ليصلحا الجدارَ، حتى لا يسقطَ ويظهرَ الكنزُ، فيأخذَه أهلُ القريةِ، فهل بعدَ هذا يرتابُ من يتلوا قولَه تعالى: (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
لمّا حضرت عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ الوفاةُ، قيلَ له: هؤلاء بنوك، وكانوا اثني عشرَ، ألا توصي لهم بشيءٍ فإنهم فقراءُ، فقال: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
واللهِ لا أعطيتُهم حقَّ أحدٍ، وهم بين رجلينِ: إما صالحٌ فاللهُ يتولى الصالحينَ، وإما غيرُ صالحٍ فما كنتُ لأعينُه على فسقِه ولا أبالي في أي وادٍ هلكَ، ثم استدعى أولادَه فودَّعَهم وعزَّاهم بهذا وأوصاهُم بهذا الكلامِ، ثم قالَ: انصرفوا عصمَكم اللهُ، وأحسنَ الخلافةَ عليكم.
قالوا: فلقد رأينَا بعضَ أولادِ عمرِ بنِ عبدِ العزيزِ يحملُ على ثمانينَ فرساً في سبيلِ اللهِ، وكانَ بعضُ أولادِ سليمانَ بنِ عبدِ الملكِ مع كثرةِ ما تركَ لهم من الأموالِ يتعاطى ويسألُ من أولادِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ؛ لأن عمرَ وَكَلَ ولدَه إلى اللهِ -عز وجل-، وسليمانُ وغيرُه إنما يَكلِونَ أولادَهم إلى ما يَدَعُونَ لهم، فيَضيعونَ وتذهبُ أموالهُم في شهواتِ أولادِهم.
يقولُ اللهُ -تعالى- لنبيِه -عليه الصلاة والسلام-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 51].
هل لاحظتُم أنه لما كانَ الخِطابُ للنبيِ -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنينَ، قالَ تعالى: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا).
فكلُ ما كتبَ اللهُ -تعالى- عليكم في هذه الدنيا فهو لكم وفي صالحِكم، أتعلمونَ لماذا؟
لأنه: (هُوَ مَوْلَانَا) الذي (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).
فإذا علِمتَ أنك بصلاحِك، تُحفظُ في نفسِك، وفي مالِك، وفي ولدِك، ويتولى اللهُ -تعالى- جميعَ أمورِك، وكلُ ما كتبَ اللهُ عليك فهو لك، فماذا تنتظرُ؟
وستعلمونَ أيضاً أن ما يُصيبَ إخوانَنا في كلِ مكانٍ، مما يجعلُ الحليمَ حيرانَ، هي من أقدارِ اللهِ -تعالى- الذي: (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) فخُرقتْ سفينةٌ وظنَّ موسى -عليه السلام- أن أهلَها يغرقونَ، فإذا هم وسفينتُهم يَنجونَ، ويُقتلُ من يُقتلُ في سبيلِ اللهِ وتحكيمِ شريعةِ اللهِ -تعالى-، وعسى: (أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) [الكهف: 81].
ويُرسلُ اللهُ -تعالى- في كلِ زمنٍ من يقيمُ جدارَ الأمةِ الذي يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ؛ ليحفظَ كنزَ الإيمانِ والدينِ، للأجيالِ القادمةِ من المسلمينَ، فأحسنوا الظنَ بربِكم، وتمسكوا بسنةِ نبيِكم، وتذكروا دائماً قولَه تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
اللَّهمَّ أَصْلِحْ لنا دِينَنا الَّذي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا، وأَصْلِحْ لِنا دُنْيَانا التي فِيهَا مَعَاشُنا، وَأَصْلِحْ لنا آخِرَتنا الَّتي فِيها معادُنا، وَاجْعلِ الحيَاةَ زِيادَةً لنا في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الموتَ راحَةً لنا مِنْ كُلِّ شَرٍ.
ملتقى الخطباء
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
وهو يتولى الصالحين
كان المشركون يخوِّفون الرسول صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} (الأعراف:196)، فالآية خطاب من الله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين المعاندين لما جاء به، والمشركين من عبدة الأوثان: إن نصيري، ومعيني، وظهيري عليكم هو الله رب العالمين، ومن ثم فلا سيبل لكم إلي؛ لأن الله حاميني، وناصري، وحافظي. هذا معنى الآية على الجملة، والتفصيل فيما يأتي:
قوله تعالى: {إن وليي الله } (ولي) الشيء: الذي يحفظه، ويمنع عنه الضرر. و(الولي) الناصر، والكافي. و(الولي) هو الحبيب الموالي، والنصير، والمظل بالرعاية، وكل هذا يتضمنه ولاية الله لنبيه، فهو حبيبه وناصره، ومن يعيش في ظله، ومن يفيض عليه برحمته وهدايته، ومن يكون الله تعالى وليه لا يُضار، ومن يكون وليه الله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قوله سبحانه: {الذي نزل الكتاب} (الكتاب) القرآن، و(أل التعريف) فيه للعهد، أي: الكتاب الذي عهدتموه، وسمعتموه، وعجزتم عن معارضته، والإتيان ولو بسورة من مثله. وهذه الجملة تعليل لسابقتها، والمراد أن الله تعالى ناصر محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صاحب الولاية المطلقة؛ ولأنه رسوله، وصاحب (الكتاب المبين) الذي يماري فيه الضالون، فالله ناصره، ومؤيده. قال أبو السعود: "ووَصْفُه تعالى بتنـزيل الكتاب؛ للإشعار بدليل الولاية، والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة. كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم؛ لأن وليي هو الله الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري، وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم، فضلاً عن نصركم".
قوله عز وجل: {وهو يتولى الصالحين} (الصالحون) هم الذين صلحت أنفسهم بالإيمان، والعمل الصالح. قال ابن عاشور : "ومجيء المُسْنَد -يقصد الفعل المضارع {يتولى}- فعلاً مضارعاً؛ لقصد الدلالة على استمرار هذا (التولي)، وتجدده، وأنه سُنَّة إلهية، فكما تولى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم، يتولى الصالحين من عباده أيضاً، وهذه بشارة للمسلمين المستقيمين على صراط نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن الله ناصرهم، كما نصر نبيه وأولياءه".
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ولايته لله بالجملة الاسمية: {وهو يتولى الصالحين}، و{إن} المؤكِّدة. والكلام يفيد القصر، أي: إن ولايتي لله تعالى وحده، لا ولاية لأحد سواه، كما قال تعالى: {هنالك الولاية لله الحق} (الكهف:44)، وإنه {نعم المولى ونعم النصير} (الأنفال:78)، فالله سبحانه من شأنه أن يتولى الصالحين من عباده، فيتعهدهم برعايته، وتأييده وتوفيقه، ولا يتولى المفسدين.
وقد قال بعض أهل التفسير: في هذا الكلام إشارتان بيانيتان:
إحداهما: الحكم على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من الصالحين، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، وأن عبدة الأوثان مفسدون، قد أفسدوا في تفكيرهم وفي اعتقادهم، وأفسدوا وأضلوا باتباعهم الأوهام، وبعبادتهم من لا ينفع ولا يضر.
والثانية: أن الله تعالى ناصر الصالحين من عباده على الفاسدين والمفسدين، ويتولى الصالحين برعايته، وأنه سبحانه وتعالى لن يضيعهم أبداً، وأن النصر في النهاية للفضيلة لا للرذيلة، وللحق لا للباطل، وأنه سبحانه هو يتولى عباده المخلصين دائماً، وفي كل حال. وإذا كان الله ولي المؤمنين، فالشيطان ولي الكافرين؛ ومن كان الشيطان وليه فبئس المولى، وبئس المصير.
والآية عموماً تعليل لجزمه صلى الله عليه وسلم بما ذكر من عجز هذه المعبودات، وتحقير أمرها، وأمر عابديها، فهي لا تملك من الأمر شيئاً، ولا تملك نفعاً ولا ضراً. ومن ثم تقرر أن الناصر الحقيقي للصالحين من عباده إنما هو الله سبحانه، لا ناصر سواه، ولا ولي غيره، فعبادة غيره باطلة، ودعاء من سواه سخف، لا يرضاه لنفسه إلا جاهل سافل. وقد قال تعالى: {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} (الزمر:64).
وهذه الآية الكريمة هي كقول هود عليه السلام، لما قال له قومه: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} (هود:54-56)، وكقول إبراهيم عليه السلام: {قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء:75-80)، وكقوله لأبيه وقومه: {إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} (الزخرف:26-28).
والذي نريد أن نخلص إليه -على ضوء هذه الآية- أن الله سبحانه هو وحده ولي المستضعفين من عباده في الأرض، وهو وحده -لا أحد سواه- ناصرهم، ومعينهم، وهذا الذي ينبغي أن يدين الله به كلُّ مسلم، ومن طلب الولاية من غيره سبحانه فقد ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً.
ونختم الحديث عن هذه الآية بما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه ما كان يدخر لأولاده شيئاً، فقيل له في ذلك، فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين، أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين، فوليه الله، ومن كان الله له وليًّا، فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين، فقد قال تعالى: {فلن أكون ظهيرا للمجرمين} (القصص: 17)، ومن رده الله، لم أشتغل بإصلاح مهماته.
إسلام ويب