فوائد وأحكام من قوله تعالى:
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 18، 20].
1- شهادة الله - عز وجل - لنفسه بتفرده بالألوهية، وأنه لا إله إلا هو، بقوله وفعله وعجيب صنعه؛ لقوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾، وفي هذا تنبيهٌ لعباده على غناه عن توحيدهم له، وأنه سبحانه هو الموحِّد نفسه بنفسه.
2- شهادة الملائكة وأولو العلم بما شهد الله به لنفسه من الوحدانية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾، والمراد: أولو العلم بالله وشرعه وأتباعهم.
3- فضيلة الملائكة؛ حيث جعلهم الله تعالى في المرتبة الأولى في الشهادة بالتوحيد بعده سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾.
4- أخذ طائفة من أهل العلم من قوله: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أنه لا يشترط للشاهد عند الحاكم وغيره في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة، فمن تكلم بشيء وأخبر به، فقد شهد به؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 150]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 19].
فجعل منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]، فسمى إقرار المرء على نفسه شهادة.
وفي حديث ماعز: «فلما شهد على نفسه أربع مرات، رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم »[1]. فَسُمِّيَ إقراره شهادة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس»[2].
ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة.
والعشرة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة لم يتلفظ بشهادته لهم بلفظ الشهادة، وإنما قال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة...»[3].
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» دخل في الإسلام وشهد الشهادتين، وإن لم يقل: «أشهد» ونحو ذلك.
وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لابد للشاهد عند الحاكم ونحوه من التلفظ بلفظ الشهادة.
5- فضل العلم بالله وشرعه، وفضل أهل هذا العلم والثناء عليهم؛ حيث جعلهم الله شهودًا بعد الملائكة على وحدانيته، وقرَن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، واستشهد بهم على أجل مشهود به، وجعلهم حُجة على من أنكر هذه الشهادة، فزكَّاهم بهذا وعدَّلهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾، وهذه منقبة عظيمة للعلماء في هذا المقام.
وهذا لمن قدَّر منهم للعلم قدره، فعظَّم ربه، وصان علمه، وعمل به وعلَّمه، فوَفَّى بما أخذه الله من الميثاق على أهل العلم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
وهؤلاء من أهل العلم قليل؛ ولهذا قال تعالى في ختام الآية: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن مِن أول مَن يُقضى يوم القيامة عليه رجل تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن فأُتِيَ به فعرَّفهُ نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلَّمت العلم لِيُقال: عالِم، وقرأت القرآن لِيُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فَسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النار»[4].
وقد أحسن القائل:
وعالم بعلمه لم يعلمن معذب في قبره من قبل عباد الوثن[5] |
وقال الآخر:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظَّموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنَّسوا محياه بالأطماع حتى تجهما[6] |
6- الترغيب في العلم بالله وشرعه؛ لأن به تحصل الشهادة على وحدانية الله - عز وجل - بل هي من مقتضياته، فمن لم يشهد من أهل العلم لله بالواحدانية، فهو من أجهل الجهال، وإن علم من أمور الدنيا ما لم يعلَمه غيره.
7- حكم الله - عز وجل - أنه لا إله حق إلا هو، بعد شهادته وإخباره بذلك، وأمره - عز وجل - عباده بتوحيده؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 1، 2]، فمن عبد مع الله غيره فهو مُشرك.
8- تأكيد تفرده - عز وجل - بالألوهية، فشهد عز وجل بذلك لنفسه، وأخبر به، وحكم به وأمر، كما شهِد بذلك الملائكة وأولو العلم.
9- إثبات قيام الله تعالى واتصافه بالعدل قولًا وفعلًا وحكمًا وإخبارًا، وحكمًا به وأمرًا، وشهادته - عز وجل - لنفسه بذلك وشهادة الملائكة وأولو العلم؛ لقوله تعالى: ﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾.
10- اجتماع صفات الكمال لله عز وجل؛ لأن التوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال، فالتوحيد يتضمن تفرُّدَه سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحدٍ سواه، والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب، وموافقة الحكمة؛ ففي الأول كمال ذاته، وفي الثاني كمال أفعاله.
11- إثبات اسم الله «العزيز» وصفة العزة التامة له - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ العزيز ﴾.
12-إثبات اسم الله «الحكيم» وأن له - عز وجل - الحكم التام، والحكمة البالغة؛ لقوله تعالى:﴿ الحكيم ﴾، وفي هذا رد على الجبرية والجهمية الذين ينفون حكمة الله تعالى.
13- في اقتران العزة والحكمة في حقه - عز وجل - زيادة كماله تعالى إلى كمال.
14- أن الدين الذي يُعتد به ويُقبل عند الله هو الإسلام الذي جاء به جميع الأنبياء والرسل، وهو توحيد الله تعالى، والانقياد لشرعه، وهو بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، ما جاء به من الشرع، فهو الإسلام الذي لا يُقبل من أحدٍ سواه؛ لنسخه لجميع الأديان قبله؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسِلت به إلا كان من أصحاب النار»[7].
15- أن حقيقة الدين والتدين لله تعالى الاستسلام له بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك؛ لأن الله سمى «الدين» الإسلام.
16- أن أهل الكتاب اليهود والنصارى لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم؛ أي: إن اختلافهم كان عن علم، فلا يعذرون فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾.
17- أن اختلاف أهل الكتاب كان بسبب بغي بعضهم على بعض؛ لقوله تعالى: ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾.
18- التحذير من الاختلاف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾، وقال تعالى محذرًا هذه الأمة: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105].
وقال صلى الله عليه وسلم محذرًا أمته من ذلك: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفرق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة»[8].
19- خطر البغي، ووجوب الحذر منه؛ لأنه سبب للاختلاف ورد الحق؛ لقوله تعالى: ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾.
20- ينبغي في مسائل الخلاف الانتصار للحق، والبحث عنه، والبعد عن التطاول، والانتصار للنفس.
21- التحذير من الكفر بآيات الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾، فمن كفر بآيات الله فسيُحاسبه الله سريعًا، ويجازيه على كفره قريبًا، وفي هذا وعيدٌ لمن كفر بآيات الله، وحضٌّ على الإيمان.
22- سرعة حساب الله تعالى للخلائق؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾.
23- إثبات حساب الخلق على أعمالهم، لكن حساب المؤمنين تقريرٌ وعرضٌ، أما حساب الكفار فمناقشة وتوبيخ وتقريعٌ.
كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حوسِب عُذِّب»، قالت عائشة: فقلت: أَوَليس يقول الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]؟ قالت: فقال: «إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك»[9].
24- عناية الله - عز وجل - بنبيه صلى الله عليه وسلم ، وتهيئته لما سيواجه ممن يدعوهم، وتعليمه ما يقوله للمحاجين له، ولمن يدعوهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾ [آل عمران: 20]، وفي هذا إعدادٌ من الله له، وتقوية لقلبه ولحجته ودعوته.
25- في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾ [آل عمران: 20]، توجيه له صلى الله عليه وسلم لما هو أخصر، وبما فيه قطع الطريق على المحاجين وإسكاتهم؛ أي: هذا طريقي وطريق أتباعي دون محاجة أو جدال، وهذا من أساليب الرد على المحاج إذا كان لا جدوى للمحاجة؛ كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].
26- أن المنهج الحق في الإسلام أن يتوجه المسلم إلى الله تعالى بكليته، وبوجهه، وقلبه، وبدنه ممتثلًا لأمر الله، مجتنبًا لنهيه، فهذا هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾.
27- شرف الوجه من بين الأعضاء؛ لقوله تعالى: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾، فخصَّهُ من بين الأعضاء لشرفه، ولأن توجهه علامة ظاهرة على توجه بقية الأعضاء.
28- أن من لم يُسلِم وجهه لله تعالى فليس متبعًا للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾.
29- وجوب الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾.
30- عموم رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم للعرب وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ﴾، وفي هذا ردٌّ على من زعم من أهل الكتاب أن رسالته صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب فقط.
عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعِثت إلى الناس عامة»[10].
وفى رواية: «وبُعِثت إلى كل أحمر وأسود»[11].
ولما زار صلى الله عليه وسلم الغلام اليهودي في مرض موته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «يا فلان، قُل: لا إله إلا الله»، فنظر إلى أبيه، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أطِعْ أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار»[12].
31- في تقديم ﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾: إشارة إلى أن قيام الحجة عليهم أعظم؛ لما عندهم من العلم عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41].
32-أن العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب؛ لقوله تعالى:﴿ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾.
33- أن من أسلم فقد اهتدى للطريق المستقيم، وَوُفِّق إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾، وفي هذا حض على الإسلام، وترغيب فيه.
34- أن من لم يُسلِم فقد تولَّى وأعرَض عن الحق، وليس على الرسول صلى الله عليه وسلم هدايته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾.
35- أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والواجب عليه بالنسبة للناس هي إبلاغهم الرسالة ودعوتهم، وأما هدايتهم فهي إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾.
36- اطلاع الله - عز وجل - وبصره بالعباد وأعمالهم وأحوالهم، ومَن هو أهل للهداية، ومَن ليس أهلًا لها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، وفي هذا وعدٌ لمن أسلَم واهتدَى، ووعيدٌ لمن تولى وأعرَض.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
تفسير قوله تعالى:
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 18 - 20].
قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
قوله ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: الشهادة تكون بالقول والإخبار والإعلام، وتكون بالفعل، أي: شهد الله بقوله وإخباره وإعلامه لخلقه بما أنزل في كتبه وعلى ألسنة رسله أنه لا معبود بحق إلا هو، المتفرد بالألوهية لجميع الخلق، وكلهم عبيده.
وبذلك قضى وحكم؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء: 23]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [النحل: 51]، وقال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 24]، وقال تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ [الإسراء: 22]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 213].
وشهد - عز وجل - بفعله أنه لا معبود بحقٍّ إلا هو بما نصَّبه من الأدلة الدالة على وحدانيته التي تُعلم دلالتها بالعقل والفطرة، من خلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والإنسان والحيوان والنبات، وغير ذلك، فهو سبحانه وتعالى بخلقه لها ونصبها دلائل على وحدانيته قد شهد وأبان بها أنه لا إله إلا هو؛ كما قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وشهادة الرب وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة، وبفعله تارة، فالقول هو ما أُرسل به رسله، وأُنزل به كتبه، وأوحاه إلى عباده؛ كما قال: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2].
وأما شهادته بفعله فهو ما نصَّبه من الأدلة على وحدانيته التي تُعلم دلالتها بالعقل، وإن لم يكن هناك خبر عن الله، وهذا يُستعمل فيه لفظ الشهادة والدلالة والإرشاد، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويُظهِره، فهو بمنزلة المخبر به، الشاهد به.
كما قيل: سل الأرض من فجَّر أنهارها، وغرَس أشجاها، وأخرج ثمارها، وأحيا نباتها، وأغطش ليلها، وأوضَح نهارها، فإن لم تُجِبكَ حِوارًا، أجابتك اعتبارًا.
وهو سبحانه شهِد بما جعلها دالة عليه، فإن دلالتها إنما هي بخلقه لها، فإذا كانت المخلوقات دالة على أنه لا إله إلا هو سبحانه الذي جعلها دالة عليه، فإن دلالتها إنما هي بخلقه، وبيَّن ذلك؛ فهو الشاهد المبيِّن أنه لا إله إلا هو، وهذه الشهادة الفعلية ذكرها طائفة.
قال ابن كيسان: «شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه - أنه لا إله إلا هو»[1].
وقد ذكر ابن القيم أن للشهادة أربع مراتب، قال:
«فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحه المشهود به وثبوته، وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به - وإن لم يُعلِم به غيره، بل يتكلم هو به مع نفسه، ويَذكُرها وينطق بها، أو يكتُبها، وثالثها: أن يُعلِم غيره بما شهد به ويخبره به ويُبينه له، ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به»، ثم قال: «فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط، تضمَّنت هذه المراتب الأربعة: علم الله سبحانه بذلك وتكلُّمه به، وإعلامه، وإخباره خلقه به، وأمرهم وإلزامهم به»[2].
﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ أي: إنه لا معبود بحقٍّ إلا هو، فكل ما عُبِد من دون الله فهو باطل، كما قال تعالى: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 21، 22]، وقال تعالى: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40].
﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾: معطوف هو و﴿ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾ على لفظ الجلالة ﴿ الله ﴾؛ أي: وشهد الملائكة أنه لا إله إلا هو؛ قال تعالى: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 166].
﴿ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾؛ أي: وشهد أولو العلم، أي: أصحاب العلم بالله - عز وجل - وشرعه، وما يجب له - عز وجل - أنه لا إله إلا هو، بإقرارهم بذلك، وبيانهم وإعلامهم بذلك غيرهم.
﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾: حال؛ أي: شهد الله أنه لا إله إلا هو حال كونه قائمًا بالقسط - كما شهد الملائكة أولو العلم أنه لا إله إلا هو حال كونه قائمًا بالقسط؛ أي: قائمًا بالعدل، قولًا وفعلًا وإخبارًا وحُكمًا به وأمرًا.
فشهد سبحانه أنه لا إله إلا هو ﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾؛ أي: متكلمًا بالعدل، مخبرًا به، حاكمًا به، آمرًا به؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام.
وقال هود عليه السلام: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]، وقال تعالى في مثل ضربه لنفسه ولما يُشرك به من الأوثان: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4].
فخلقه - عز وجل - السماوات والأرض بالعدل، وعبادته وحده دون غيره حقيقة العدل، وجزاؤه المؤمنين بالجنة، والكافرين بالنار عدل.
قال ابن القيم[3]: «فتضمنت هذه الآية أجلَّ شهادة، وأعظمها، وأعدلها، وأصدقها، من أجل شاهد، بأجل مشهود».
فهو سبحانه خير الشاهدين، وأصدق القائلين، وشهادته على وحدانيته، وعلى قيامه بالقسط، أكبر وأعظم شهادة، وتوحيده أعدل العدل، والشرك به أظلم الظلم؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ [الأنعام: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43].
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: شهد عز وجل أولًا لنفسه أنه (لا إله إلا هو)، كما شهدت بذلك الملائكة وأولو العلم، وحكم ثانيًا أنه (لا إله إلا هو)، فشهد بذلك أولًا، وحكم به ثانيًا، وأكده وأمر به.
ففي الأولى شهادته - عز وجل - وإخباره أن (لا إله إلا هو)، وفي الثانية حكمه وتأكيد أنه (لا إله الا هو)، وفي ذلك كله تعليم عباده، وأمرهم بالشهادة بذلك واعتقاده وعبادته وحده دون سواه.
﴿ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ﴿ الْعَزِيزُ ﴾: من أسماء الله - عز وجل - يدل على أنه ذو العزة التامة، و«الحكيم»: اسم من أسمائه - عز وجل - يدل على أنه سبحانه ذو الحكم التام، وذو الحكمة البالغة[4].
قال ابن القيم[5]: «فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة وحدانيته المنافية للشرك، وعدله المنافي للظلم، وعزته المنافية للعجز، وحكمته المنافية للجهل والعيب».
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾.
قوله ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾: قرأ الكسائي بفتح الهمزة «أنَّ»، وقرأ الباقون بكسرها ﴿ إِنَّ ﴾.
فعلى قراءة فتح الهمزة تكون الجملة عطف بيان؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾، يعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام، وعلى قراءة كسر الهمزة تكون الجملة مستأنفة.
و﴿ الدين ﴾: الملة والشرعة؛ قال تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾ [يوسف: 76].
﴿ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾: أي إن الدين المقبول، المرضي عند الله هو الإسلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
وفي قوله: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ صيغة حصر؛ أي: الدين الذي لا دين عند الله سواه.
﴿ الْإِسْلَامُ ﴾: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهو الدين الذي بعث الله به جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم؛ ولهذا قال أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 72]، وقال إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128]، وقال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، وقال يعقوب لبنيه عند الموت: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وقال موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].
وقال تعالى عن التوراة: ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾ [المائدة: 44]، وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52]، وقالت ملكة سبأ: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44]، وقال تعالى مخاطبًا هذه الأمة: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الحج: 78].
ولما خُتمت الأديان بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، صار الإسلام علمًا بالغلبة على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يُقبل بعد بَعثه من أحد سواه؛ لنسخه لجميع الأديان السابقة، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].
والإسلام إذا أطلق وأفرد يشمل جميع شرائع الدين الظاهرة، وجميع عقائده الباطنة، فيشمل أركان الإسلام الخمسة.
وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا»[6].
وكذا أركان الإيمان الستة؛ كما في حديث: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»[7].
وكذا كل ما أمر الله به من التوكل على الله، وخوفه، ورجائه، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك، سواء كان ذلك الأمر واجبًا أو مندوبًا.
كما يشمل ذلك ترك كل ما نهى الله عنه من الكفر والشرك، والقتل العمد، والربا، وأكل مال اليتيم، والسحر، والكذب والفجور وقول الزور، والغيبة والنميمة، وغير ذلك.
قوله: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾: في هذا تقرير وتأكيد لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾، وأن هذا هو الذي كان عليه الناس، وعليه أجمعت الأمة، ثم طرأ الاختلاف بما حصل من أهل الكتاب من اختلاف من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم.
قوله ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: نافية، و﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ هم: اليهود والنصارى.
سُمُّوا أهل الكتاب؛ لأن لهم كتبًا بقيت إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت محرفة؛ أي: وما وقع الاختلاف بين أهل الكتاب في أديانهم وفي دين الإسلام، فاختلف اليهود مع النصارى، واختلف أهل كل ملة منهم فيما بينهم، واجتمعوا على مخالفة الإسلام، وحذف متعلق الاختلاف ليشمل هذا كله.
﴿ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾ «إلا»: أداة حصر، و«ما»: مصدرية، أي: إلا من بعد مجيء العلم إليهم؛ أي: إلا من بعد مجيء الوحي من الله تعالى إليهم في كتبه، وعلى ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام؛ أي: إلا من بعد ما عرَفوا الحقَّ، وقامت عليهم الحجة، فاختلفوا حيث لا يسوغ لهم الاختلاف.
﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ «بغيًا»: مفعول لأجله؛ أي: لأجل البغي بينهم والحسد، أي: بغيًا من بعضهم على بعض، وحسدًا، وطلبًا للرياسة.
ولم يكن اختلافهم لشبهة عندهم، فأصبح بعضهم يضلل بعضًا، ويُكَفِّر بعضهم بعضًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [البقرة: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]، وقال تعالى: ﴿ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الجاثية: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ [الشورى: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [البينة: 4].
﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ الواو: استئنافية، و«من»: شرطية، أي: ومن يكذِّب بآيات الله الشرعية والكونية ويجحدها ويستكبر عن الانقياد لما جاء فيها من الحق.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾: جملة جواب الشرط، و«الفاء»: رابطة لجواب الشرط؛ لأنه جملة اسمية، وفيها تخويف وتهديد، أي: فإن الله سريع الحساب، وسيحاسبه ويجازيه ويعاقبه على كفره عن قريب، وأكد عز وجل هذا بــ«إنَّ» وكون الجملة اسمية.
والله - عز وجل - سريع الحساب فحسابه آتٍ، وكل آتٍ قريب؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا»[8].
وهو عز وجل سريع الحساب؛ لأن عمر الإنسان في هذه الدنيا قليل، والدنيا كلها قليل بالنسبة للآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»[9].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».
وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»[10].
وهو - عز وجل - سريع الحساب؛ لأن الانسان يجد في هذه الحياة الدنيا شيئًا من عاقبة عمله سعادة وتيسيرًا لأموره إن كان مطيعًا، وشقاوة وتعسيرًا لأموره إن كان عاصيًا.
وهو - عز وجل - سريع الحساب، لا يحتاج إلى وقت طويل لمحاسبة الخلائق؛ لأنه لا يخفى عليه شيء من الخلق وأعمالهم؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].
وقد قال بعض أهل العلم: إن الله - عز وجل - يحاسب الخلائق في نصف يوم أخذًا من قوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24]، قالوا: فهو يحاسب الخلق في النصف الأول من النهار، والنصف الثاني يكون أهل الجنة فيها، أي: يقيلون فيها.
قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.
ذكر الله - عز وجل - اختلاف أهل الكتاب بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، ثم أتبع ذلك بقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ ﴾ في إشارة واضحة إلى أن اختلافهم فيما بينهم مُفضٍ إلى محاجة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
قوله ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ ﴾ الفاء: عاطفة، وضمير الواو في «حاجوك» يعود إلى أهل الكتاب والمشركين، بدليل قوله: ﴿ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
و«المحاجة»: المخاصمة، وأكثر ما تكون في المخاصمة بالباطل، أي: فإن خاصموك في الدين خصام مكابرة وعناد.
﴿ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ ﴾: جواب الشرط «إن»، قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الياء: ﴿ وَجْهِيَ ﴾، وقرأ الباقون بتسكينها «وجهيْ»؛ أي: توجهت إلى الله بوجهي وقلبي وبدني، وأخلصت له في عبادتي، واتبعت شرعه؛ امتثالًا لأمره، واجتنابًا لنهيه، ورضًا بحكمه، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79].
وفي قوله: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾: قطع الطريق على المحاجين وإسكاتهم، سواء قلنا: هذا من باب الإعراض عنهم، أو المحاجة لهم.
﴿ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾ الواو: عاطفة، و«من»: اسم موصول معطوف على الضمير في «أسلمت»، أي: والذي اتبعني أسلم وجهه لله، أو ينبغي أن يُسلِم وجهه لله، أي: أسلمت وجهي لله أنا وأتباعي على ديني؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾؛ أي: اليهود والنصارى.
﴿ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾ أي: العرب، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾[الجمعة: 2].
و﴿ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾: جمع «أُمِيِّ»، وهو من لا يقرأ ولا يكتب، نسبةً إلى أمه، أي: إلى الحالة التي وُلِدَ عليها.
﴿ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾: الاستفهام للتحضيض والأمر، وفيه معنى الاستبطاء؛ أي: أسلِموا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 108]؛ أي: أسلِموا، وكما في قوله تعالى: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]؛ أي: انتهوا، والمعنى: أنه قد أتاكم من البينات ما يوجِب أن تُسلِموا، فأسلِموا.
﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا ﴾؛ أي: فإن استسلموا لله ظاهرًا وباطنًا، بتوحيدهم إياه بالعبادة، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك.
﴿ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾: جواب الشرط في قوله: ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا ﴾ الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ لاقترانه بـ «قد»، أي: فقد رشدوا وَوُفِّقوا للهدى وسلكوا طريقه.
﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾؛ أي: أعرضوا عن الإسلام باطنًا بقلوبهم، وظاهرًا بأبدانهم فلا يضرك ذلك.
﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾: جواب الشرط في قوله: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾، وقُرِنَ بالفاء لأنه جملة اسمية.
و﴿ إنما ﴾: أداة حصر، أي: ما عليك نحوهم إلا البلاغ، وقد بلَّغت البلاغ المبين، وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النحل: 82]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54].
وأما هداية القلوب وحساب الخلق فإلى الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [الرعد: 40].
وقد بلَّغ صلوات الله وسلامه عليه البلاغ المبين، وأدَّى الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترَك أُمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: والله مطلع على العباد كلهم، خبير بهم وبأعمالهم وأحوالهم، ومن كان منهم أهلًا للهداية، ومن لم يكن أهلًا لذلك.
فوائد وأحكام من قوله تعالى:
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... ﴾
[1] أخرجه البخاري في الطلاق (5272)، ومسلم في «الحدود» (1691)، وأبو داود في «الحدود» (4430)، والنسائي في «الجنائز» (1956)، والترمذي في «الحدود» (1429)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة» (581)، ومسلم في «صلاة المسافرين» (826)، وأبو داود في الصلاة (1276)، والنسائي في «المواقيت» (562)، والترمذي في الصلاة (183).
[3] أخرجه الترمذي في «المناقب» (3747)، من حديث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في «الإمارة» (1905)، والنسائي في «الجهاد» (3137)، والترمذي في «الزهد» (2382).
[5] البيت لابن رسلان الشافعي؛ انظر: «غاية البيان» (ص4).
[6] البيتان للقاضي الجرجاني؛ انظر: «محاضرات الأدباء ومحاورات لشعراء» (ص14).
[7] أخرجه مسلم في «الإيمان» وجوب الإيمان برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس (153)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أبو داود في «السنة» (4596)، والترمذي في «الإيمان» (2640)، وابن ماجه في «الفتن» (3991)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في «العلم» (103)، ومسلم في «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» (2876)، والترمذي في «صفة القيامة» (2426).
[10] أخرجه البخاري في «التيمم» (335)، ومسلم في «الغسل والتيمم» (432).
[11] أخرجها مسلم في «المساجد ومواضع الصلاة» (521).
[12] أخرجه البخاري في «الجنائز» (1356)، وأبو داود في «الجنائز» (3095)، من حديث أنس رضي الله عنه.
________________________________
تفسير قوله تعالى:
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... ﴾
[1] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 288- 289).
[2] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 453).
[3] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 452).
[4] انظر ما سبق في الكلام على قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
[5] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 463).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (8)، ومسلم في الإيمان (16)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5001)، والترمذي في الإيمان (2609).
[7] أخرجه مسلم في الإيمان (8)، وأبو داود في سننه (4695)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4990)، والترمذي في الإيمان (2610)، وابن ماجه في المقدمة (63)، من حديث عبدالله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
[8] ذكره الترمذي في «صفة القيامة»، و«الرقائق»، و«الورع» (2459).
[9] سبق تخريجه.
[10] أخرجه البخاري في «الرقاق» (6416)، والترمذي في «الزهد» (2333)، وابن ماجه في «الزهد» (4114).
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
شبكة الالوكة