مقدمة حول التعارض في القرآن
يَعْرِضُ أحيانًا لقارئ كتاب الله الكريم بعض الآيات التي تدل بظاهرها على تعارض وعدم توافق مع آيات أُخر؛ فيشكل الأمر على القارئ لكتاب الله -وخاصة إذا كان زاده من علم التفسير يسيراً- وربما أورث ذلك شكًا في نفسه، فيقف حائرًا في ذلك، ومتسائلاً عن وجه التوفيق بين ما بدا له من تعارض.
فقد يبدو -للوهلة الأولى- أن ثمة تعارضًا بين بعض آيات الكتاب الكريم، لكن إذا أمعنا النظر، وأعملنا البحث، بدا لنا وجه الحق في الأمر، وعلمنا أن آيات القرآن لا تعارض بينها البتة، وأن ما يبدو فيها من تعارض واختلاف، إنما هو تعارض واختلاف في أذهاننا فحسب، أما في حقيقة الأمر فليس هناك تعارض ولا اختلاف؛ إذ كيف يكون ذلك، ومصدر الكتاب واحد، وهو رب العالمين: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيراً} (النساء:82) والآية الكريمة تدل بمفهومها، أن القرآن الكريم ما دام من عند الله فليس من المعقول عقلاً، ولا من المقبول شرعًا أن يكون فيه اختلاف أو تعارض؛ إذ إن مثل هذا الأمر مما يقبح في كلام البشر، فكيف يليق بكلام رب البشر.
وكشفًا لحقائق الأمور، وإزالة لما يُرى من تعارض واختلاف، فقد قام العلماء بوضع علم خاص، أدرجوه ضمن علوم القرآن، وأسموه علم (مشكل القرآن) على غرار ما فعل علماء الحديث، في التأليف في علم (مشكل الحديث) والغاية من هذا العلم إزالة ما يوهم التعارض والاختلاف بين آيات الكتاب العزيز.
وقد أُفردت لهذا العلم كتب عديدة، نذكر منها على سبيل المثال: كتاب (الفوائد في مشكل القرآن) لابن عبد السلام المتوفى (660هـ) وهو كتاب قيِّم في بابه؛ ومن الكتب المهمة في هذا الجانب أيضًا كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) للشيخ الشنقيطي (1393هـ) حيث جمع فيه جملة من الآيات الكريمة التي يفيد ظاهرها التعارض والاختلاف، ووفَّق بينها بما يزيل الإشكال؛ كذلك تعرَّض كثير من المفسرين لبعض مباحث هذا العلم، أثناء تفسيرهم لكتاب الله تعالى.
وانطلاقًاً من أهمية هذا العلم وغايته، فإننا في محور القرآن الكريم ستكون لنا وقفة مع بعض الآيات التي يفيد ظاهرها التعارض والاختلاف، نحاول فيها بيان أوجه التوفيق والجمع بينها، معتمدين في ذلك على أقوال أهل العلم في هذا الشأن؛ واللهَ نسأل الرشد والصواب في الأمر كله.
.........
ليحملوا أوزارهم ... ومن أوزار الذين يضلونهم
من المعلوم بالضرورة في شرائع السماء عموماً، وفي شريعة الإسلام على وجه الخصوص، أن الإنسان لا يعاقب على ذنب فعله غيره، ولا يحاسب على جرم اقترفه إنسان آخر؛ ونصوص القرآن في تقرير هذا المعنى عديدة، من ذلك قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} (البقرة:286)، وقوله سبحانه: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام:164)، وقوله تعالى: {لتجزى كل نفس بما تسعى} (طه:15)، ونحو ذلك من الآيات.
ومقابل هذه الآيات التي تقرر أن المسؤولية العقابية لا يتحملها إلا الفاعل نفسه، نجد من الآيات التي تقرر أن صاحب الذنب قد يعاقب على ذنب فعله غيره؛ من ذلك قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم} (النحل:25)، وقوله سبحانه: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} (العنكبوت:13)، فهاتان الآيتان يفيد ظاهرهما أن بعض الناس سوف يعاقبون على أفعال ارتكبها غيرهم، ولم يرتكبوها أنفسهم، الأمر الذي يوحي بأن ثمة تعارضاً بين الآيات النافية لتحمل آثام الآخرين، والآيات المثبتة لذلك.
ولا شك، فإن كتاب الله أجلُّ وأعظم من أن يتضمن تعارضاً بين آياته؛ إذ هو من عند الله سبحانه، {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت:42). وما يبدو من تعارض بين آياته إنما مرده لمحدودية عقل الإنسان فحسب، وواقع الأمر ألا تعارض.
وقد أجاب العلماء على ما يبدو من تعارض بين الآيات بأن قالوا: إن الأصل في الحساب والعقاب يوم القيامة أن لا يحمل الإنسان تبعات غيره؛ لأن هذا يتنافى مع مبدأ العدل الذي أقرته شرائع السماء كافة، غير أن هذا الأصل قد يطرأ عليه ما يكون استثناء منه لسبب يقتضي ذلك، على ما سنبينه قريباً.
ونحن نمثل لذلك بمثال من واقع الناس فنقول: لو أن شخصاً ما حرَّض شخصاً آخر على قتل إنسان ما، فاستجاب هذا الشخص لهذا التحريض، وقام بقتل ذلك الإنسان، فإن القضاء هنا يعاقب الفاعل المباشر وهو القاتل، ويعاقب الفاعل غير المباشر أيضاً، وهو المحرض على القتل. وليس من العدل أن يقال هنا: إن العقاب يجب أن ينصب على الفاعل المباشر دون المحرض؛ لأن المحرض - باعتبار ما - يُعتبر متسبباً في القتل من جهة أنه حرض ذلك الشخص، ودفعه إلى مباشرة القتل، ولولا ذلك التحريض لما وقع القتل. وعليه فلا يصح إسناد فعل القتل هنا للفاعل المباشر دون المحرض؛ إذ لو صح ذلك لكان ذلك الحكم جائراً غير عادل.
وما نحن فيه من الآيات لا يبعد كثيراً عما مثلنا به آنفاً؛ وذلك أن تلك الآيات تفيد تحمل العقاب على فعل فعله آخرون؛ وذلك باعتبار أن هؤلاء الحاملين لأوزار غيرهم إنما نالوا هذا العقاب من جهة أنهم كانوا السبب وراء من ضل عن سبيل الله، فنالهم العقاب بهذا الاعتبار، فكان العدل تحميلهم تبعات ما قاموا به من إضلال لغيرهم.
ولا ينبغي أن يُفهم من هذا أن ما يحمله المضلون من أوزار غيرهم يعفي الضالين من الحساب والعقاب، بل كلا الفريقين محاسب جراء عمله، فالمضلون يحملون أوزار من أضلوهم، ويعاقبون على ذلك بسبب إضلالهم إياهم، والضالون يحملون أوزار أنفسهم جراء اتباعهم لأولئك المضلين.
وقد روي عن مجاهد في قوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}، قال: ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً.
على أننا لو دققنا النظر في الأمر لتبين لنا أن ما يحمله المضلون من أوزار الضالين هو في الواقع نتيجة عملهم وكسبهم؛ إذ لما كان هؤلاء المضلون سبباً مباشراً لضلال أولئك الأتباع، صح أن يعاقبوا ويحاسبوا على فعل كانوا هم السبب في وجوده وتحقيقه، فكان ما حملوه من عقاب ليس بسبب فعل قام به غيرهم، وإنما بسبب فعل قاموا به بأنفسهم، فوضح بذلك أن العقاب نالهم بما كسبت أيديهم، لا بما كسبه غيرهم.
وقد ورد في السنة ما يدل على ما تقدم بيانه؛ فقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه، حتى رئي ذلك في وجهه، ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من وَرِق - فضة -، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء؛ ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء).
وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) رواه مسلم.
فهذا الحديثان يدلان دلالة واضحة على ما كنا بيناه سابقاً، من أن الإنسان يتحمل مسؤولية عمله، إذا كان لعمله أثر مباشر أو غير مباشر على غيره.
وتأسيساً على ما سبق بيانه، فمن كان إماماً في الضلالة ودعا إليها، واتبعه الناس عليها، فإنه يحمل يوم القيامة وزر نفسه، ووزر من أضله من الأتباع، من غير أن ينقص من وزر الضالين شيء.
وعلى ضوء ما تقدم، يتبين أن الأصل الذي ذكرناه بخصوص الحساب والعقاب ليس على إطلاقه، وإنما هو مقيد بحيث لا يكون لفعل الإنسان أثر على غيره، فإن كان ذلك كذلك كان مشتركاً في الحساب والعقاب، من جهة أنه كان سبباً. فوضح بهذا التقرير ألا تعارض حقيقي بين تلك الآيات.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
الهداية في القرآن على نوعين
في صدر سورة البقرة، يخبر سبحانه أن هذا القرآن: {هدى للمتقين} أي: في القرآن إرشاد للمتقين، واهتداء لما فيه صلاحهم وفلاحهم في العاجل والآجل؛ ونقرأ في السورة نفسها، بعد تقرير فريضة الصيام، قوله تعالى في صفة هذا القرآن، أنه: {هدى للناس} (البقرة:185).
وظاهر الآية الأولى، أن هداية القرآن الكريم خاصة بالمتقين فحسب؛ بينما جاءت الآية الثانية عامة، فوصفت هدى القرآن بأنه للناس، ولفظ (الناس) لفظ عام، يشمل المتقين وغيرهم، والمؤمنين ومَن سواهم.
ويبدو للناظر أن بين الآيتين تعارضًا، ووجه الجمع بينهما - كما قرر أهل العلم - أن يقال: إن الهداية في القرآن نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، وهو المعنيُّ في قوله تعالى: {ولكل قوم هاد} (الرعد:7) أي: لكل قوم هاد يدلهم ويُرشدهم إلى سُبُل الحق؛ ومن هذا الباب قوله جلا وعلا: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى:52) فأثبت سبحانه للرسل ومن سلك سبيلهم الهدى، الذي معناه الدلالة، والدعوة، والتنبيه؛ وتفرد سبحانه بالهدى -وهو النوع الثاني- الذي معناه التأييد والتوفيق والتسديد، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص:56) فالهداية هنا بمعنى التوفيق لالتزام سبيل المؤمنين، ونهج سلوك المتقين، وهو المعنيُّ في قوله تعالى: {ويهدي من يشاء} (يونس:25).
ونزيد الأمر وضوحًا، فنقول: إن الهداية في القرآن تأتي على نوعين:
أحدهما عام، والثاني خاص؛
فأما الهداية العامة، فمعناها إبانة طريق الحق والرشاد، وإيضاح المحجة والسداد، وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: {وأما ثمود فهدينهم} (فُصِّلت:17) والمعنى: بيَّنا لهم طريق الحق من الضلال، ووضَّحنا لهم طريق الرشاد من الفساد، بَيْدَ أنهم آثروا الثاني على الأول؛ فالأمر هنا أمر اختيار واختبار، يوضع أمام العبد ليختار منهما ما يشاء، والدليل على هذا الاختيار، قوله سبحانه: {فاستحبوا العمى على الهدى} (فُصِّلت:17) أي: استحبوا طريق الضلال على طريق الرشاد؛ ومثله أيضًا قوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد:10) أي: بيَّنا له طريق الخير وطريق الشر.
وأما الهداية الخاصة، فهي تفضُّل من الله سبحانه على العبد بتوفيقه إلى طاعته، وتيسيره سلوك طريق النجاة والفلاح؛ وعلى هذا المعنى جاء قوله عز وجل: {أولئك الذين هدى الله} (الأنعام:90) وقوله سبحانه: {فمن يُرِد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} (الأنعام:125).
إذا علمت هذا، فلا يُشكل عليك فهمُ ما جاء من آيات تخصُّ الهداية بالمتقين، وما جاء من آيات عامة، تعمُّ الهداية للناس أجمعين؛ وبه أيضًا يرتفع ما يبدو من إشكال بين قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} (القصص:56) وبين قوله سبحانه: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى:52) لأن الهداية المنفيَّة عنه صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى هي الهداية الخاصة، إذ التوفيق بيد الله سبحانه؛ أما الهداية المثبتة له عليه الصلاة والسلام في الآية الثانية، فهي الهداية بمعناها العام، وهي إبانة الطريق، وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم، وقام به أحسن القيام، وأتمَّه خير التمام، حتى ترك أمته على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
على أن للمفسرين توجيهات أُخرى لآية البقرة {هدى للمتقين} وما شابهها من آيات، لا ينبغي أن يُغفل عنها في مقام كهذا؛ فقد قالوا:
- خصَّ سبحانه المتقين بالهداية، وإنْ كان القرآن هدى للخلق أجمعين؛ تشريفًا لهم، وإجلالاً لهم، وكرامة لهم، وبيانًا لفضلهم؛ لأنهم آمنوا به، وصدقوا بما فيه.
- إنَّ تخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية، أي: إن من استمسك بهدي القرآن فإن عاقبته أن يكون من المتقين.
- إن اختصاصه بالمتقين؛ لأنهم المهتدون به فعلاً، والمنتفعون بما فيه حقيقة، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر؛ وبهذا الاعتبار قال تعالى: {هدى للناس}.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ما أصابك من حسنة فمن الله
في سورة النساء نقرأ قوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله} (النساء:78) وبعدها مباشرة نقرأ قوله عز وجل: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء:79) ونقرأ أيضًا قوله سبحانه في سورة آل عمران: {قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:165).
وقد يظن للوهلة الأولى أن قوله سبحانه: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} مناف لقوله تعالى: {قل كل من عند الله } ولقوله أيضًا: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} (آل عمران:166) ولقوله: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35) وليس الأمر كذلك.
وهذه القضية التي تتناولها الآيات السابقة، هي جانب من قضية كبيرة؛ القضية المعروفة في تاريخ العالم كله باسم " القضاء والقدر" أو "الجبر والاختيار".
والواقع، فإن فهم هذه الآيات فهمًا صحيحًا يستدعي أمرين؛ أولهما: النظر إليها في السياق الذي وردت فيه؛ إذ لا يستقيم ولا يصح فهمها وهي منعزلة عن سياقها الخاص. وثانيهما: النظر إليها وفق المنظومة القرآنية العامة، أو بعبارة أخرى، النظر إليها نظرة كلية عامة، وضمن إطار الآيات القرآنية الأخرى؛ إذ إن آيات الكتاب يشهد بعضها لبعض، ويؤيد بعضها بعضًا. وانطلاقًا من هذين الأمرين نستطيع التوفيق بين ما قد يظهر من تعارض في الآيات التي نحن بصددها.
على ضوء هذا نقول: إن قوله سبحانه: {قل كل من عند الله} معناه: قل يا محمد، للقائلين إذا أصابتهم حسنة: {هذه من عند الله} وإذا أصابتهم سيئة: {هذه من عندك} قل لهم: إن كل ذلك من عند الله؛ فمن عنده سبحانه الرخاء والشدة، ومنه النصر والظَفَر، ومن عنده الفوز والهزيمة. ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {قل كل من عند الله} قال: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. وعن قتادة في قوله سبحانه: {قل كل من عند الله} قال: النعم والمصائب. وعن ابن زيد قال: النصر والهزيمة. وعن أبي العالية قال: هذه في السراء والضراء.
وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: إن كل ما أصاب الناس من خير أو شر، أو ضر أو نفع، أو شدة أو رخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاء ونعمة إلا بمشيئته. فالجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البِر والفاجر، والمؤمن والكافر. وفي هذا إعلام من الله لعباده، وتقرير لحقيقة مفادها: إن مفاتح الأشياء كلها بيده سبحانه، لا يملك شيئًا منها أحد غيره.
أما قوله عز وجل: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} يعني: ما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه، فمن نفسك، أي: بسبب ذنب اكتسبته نفسك. وفي ذلك آثار أيضًا؛ فعن السدي قال: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أي: من ذنبك. وعن قتادة قال: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أي: عقوبة يا ابن آدم بذنبك. وعن أبي صالح قال: بذنبك، وأنا قدَّرتها عليك.
وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد معنى هذه الآية؛ كقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى:30) أي: بذنوبكم وبما كسبت أيديكم؛ وقوله في سورة آل عمران بشأن أهل غزوة أحد: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:65).
فحاصل المعنى هنا: ما أصابك أيها المؤمن من خصب ورخاء، وصحة وسلامة، وغنى وفقر، وسراء وضراء، ونعمة ونقمة، فبفضل الله عليك وإحسانه إليك؛ وما أصابك من جدب وشدة، وهمٍّ وغمٍّ، ومرض وسقم، فبذنب أتيته، وإثم اقترفته، وعمل كسبته، فعوقبت عليه.
وفي تفسير ابن كثير عن مطرف بن عبد الله قال: ما تريدون من القدر؟ أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} أي: من نفسك؛ والله ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا وإليه يصيرون. قال ابن كثير معقبًا: وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضًا.
قال أهل العلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته، كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35).
فالآية -موضع البحث- تقرر حقيقة مهمة حاصلها: أن الله سبحانه هو المقدر لكل ما يقع في الكون؛ فما يقع في الكون من خير، فهو بتقديره؛ وما يقع من شر فهو بتقديره أيضًا، لكنه سبحانه -وهو العليم الحكيم- يقدر الشر والضر لسبب؛ فما أصابك أيها الإنسان من خير فهو بتقدير الله، وبسبب من أعمالك الصالحة، وما أصابك من شر فبسبب ذنوبك الطالحة، ولا يظلم ربك أحدًا.
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير بالوسائل التي أرشد الله إليها، بَيَدَ أنَّ تحقق الخير فعلاً، لا يتم إلا بإرادة الله وقدره.
وكذلك، فإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء. أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء. ولكن وقوع السوء فعلاً، ووجوده أصلاً، لا يتم إلا بقدرة الله وقدره.
فكل أمر في هذا الكون لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره. وما يصيب الإنسان من حسنة أو سيئة -بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة، سواء حسب ما يبدو في الظاهر، أو حسب ما هو في حقيقة الأمر والواقع- فهو من عند الله؛ لأنه لا ينشىء شيئًا ولا يحدثه ولا يخلقه ولا يوجده إلا الله.
أما ما يصيب الإنسان من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته. وما يصيبه من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند نفسه، لأنه بسبب تنكُّبه منهج الله، وإعراضه عن هدايته ومنهجه. وبهذا البيان يستقيم فهم الآيات والتوفيق بينها.
اسلام ويب
يتبع
يَعْرِضُ أحيانًا لقارئ كتاب الله الكريم بعض الآيات التي تدل بظاهرها على تعارض وعدم توافق مع آيات أُخر؛ فيشكل الأمر على القارئ لكتاب الله -وخاصة إذا كان زاده من علم التفسير يسيراً- وربما أورث ذلك شكًا في نفسه، فيقف حائرًا في ذلك، ومتسائلاً عن وجه التوفيق بين ما بدا له من تعارض.
فقد يبدو -للوهلة الأولى- أن ثمة تعارضًا بين بعض آيات الكتاب الكريم، لكن إذا أمعنا النظر، وأعملنا البحث، بدا لنا وجه الحق في الأمر، وعلمنا أن آيات القرآن لا تعارض بينها البتة، وأن ما يبدو فيها من تعارض واختلاف، إنما هو تعارض واختلاف في أذهاننا فحسب، أما في حقيقة الأمر فليس هناك تعارض ولا اختلاف؛ إذ كيف يكون ذلك، ومصدر الكتاب واحد، وهو رب العالمين: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيراً} (النساء:82) والآية الكريمة تدل بمفهومها، أن القرآن الكريم ما دام من عند الله فليس من المعقول عقلاً، ولا من المقبول شرعًا أن يكون فيه اختلاف أو تعارض؛ إذ إن مثل هذا الأمر مما يقبح في كلام البشر، فكيف يليق بكلام رب البشر.
وكشفًا لحقائق الأمور، وإزالة لما يُرى من تعارض واختلاف، فقد قام العلماء بوضع علم خاص، أدرجوه ضمن علوم القرآن، وأسموه علم (مشكل القرآن) على غرار ما فعل علماء الحديث، في التأليف في علم (مشكل الحديث) والغاية من هذا العلم إزالة ما يوهم التعارض والاختلاف بين آيات الكتاب العزيز.
وقد أُفردت لهذا العلم كتب عديدة، نذكر منها على سبيل المثال: كتاب (الفوائد في مشكل القرآن) لابن عبد السلام المتوفى (660هـ) وهو كتاب قيِّم في بابه؛ ومن الكتب المهمة في هذا الجانب أيضًا كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) للشيخ الشنقيطي (1393هـ) حيث جمع فيه جملة من الآيات الكريمة التي يفيد ظاهرها التعارض والاختلاف، ووفَّق بينها بما يزيل الإشكال؛ كذلك تعرَّض كثير من المفسرين لبعض مباحث هذا العلم، أثناء تفسيرهم لكتاب الله تعالى.
وانطلاقًاً من أهمية هذا العلم وغايته، فإننا في محور القرآن الكريم ستكون لنا وقفة مع بعض الآيات التي يفيد ظاهرها التعارض والاختلاف، نحاول فيها بيان أوجه التوفيق والجمع بينها، معتمدين في ذلك على أقوال أهل العلم في هذا الشأن؛ واللهَ نسأل الرشد والصواب في الأمر كله.
.........
ليحملوا أوزارهم ... ومن أوزار الذين يضلونهم
من المعلوم بالضرورة في شرائع السماء عموماً، وفي شريعة الإسلام على وجه الخصوص، أن الإنسان لا يعاقب على ذنب فعله غيره، ولا يحاسب على جرم اقترفه إنسان آخر؛ ونصوص القرآن في تقرير هذا المعنى عديدة، من ذلك قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} (البقرة:286)، وقوله سبحانه: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام:164)، وقوله تعالى: {لتجزى كل نفس بما تسعى} (طه:15)، ونحو ذلك من الآيات.
ومقابل هذه الآيات التي تقرر أن المسؤولية العقابية لا يتحملها إلا الفاعل نفسه، نجد من الآيات التي تقرر أن صاحب الذنب قد يعاقب على ذنب فعله غيره؛ من ذلك قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم} (النحل:25)، وقوله سبحانه: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} (العنكبوت:13)، فهاتان الآيتان يفيد ظاهرهما أن بعض الناس سوف يعاقبون على أفعال ارتكبها غيرهم، ولم يرتكبوها أنفسهم، الأمر الذي يوحي بأن ثمة تعارضاً بين الآيات النافية لتحمل آثام الآخرين، والآيات المثبتة لذلك.
ولا شك، فإن كتاب الله أجلُّ وأعظم من أن يتضمن تعارضاً بين آياته؛ إذ هو من عند الله سبحانه، {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت:42). وما يبدو من تعارض بين آياته إنما مرده لمحدودية عقل الإنسان فحسب، وواقع الأمر ألا تعارض.
وقد أجاب العلماء على ما يبدو من تعارض بين الآيات بأن قالوا: إن الأصل في الحساب والعقاب يوم القيامة أن لا يحمل الإنسان تبعات غيره؛ لأن هذا يتنافى مع مبدأ العدل الذي أقرته شرائع السماء كافة، غير أن هذا الأصل قد يطرأ عليه ما يكون استثناء منه لسبب يقتضي ذلك، على ما سنبينه قريباً.
ونحن نمثل لذلك بمثال من واقع الناس فنقول: لو أن شخصاً ما حرَّض شخصاً آخر على قتل إنسان ما، فاستجاب هذا الشخص لهذا التحريض، وقام بقتل ذلك الإنسان، فإن القضاء هنا يعاقب الفاعل المباشر وهو القاتل، ويعاقب الفاعل غير المباشر أيضاً، وهو المحرض على القتل. وليس من العدل أن يقال هنا: إن العقاب يجب أن ينصب على الفاعل المباشر دون المحرض؛ لأن المحرض - باعتبار ما - يُعتبر متسبباً في القتل من جهة أنه حرض ذلك الشخص، ودفعه إلى مباشرة القتل، ولولا ذلك التحريض لما وقع القتل. وعليه فلا يصح إسناد فعل القتل هنا للفاعل المباشر دون المحرض؛ إذ لو صح ذلك لكان ذلك الحكم جائراً غير عادل.
وما نحن فيه من الآيات لا يبعد كثيراً عما مثلنا به آنفاً؛ وذلك أن تلك الآيات تفيد تحمل العقاب على فعل فعله آخرون؛ وذلك باعتبار أن هؤلاء الحاملين لأوزار غيرهم إنما نالوا هذا العقاب من جهة أنهم كانوا السبب وراء من ضل عن سبيل الله، فنالهم العقاب بهذا الاعتبار، فكان العدل تحميلهم تبعات ما قاموا به من إضلال لغيرهم.
ولا ينبغي أن يُفهم من هذا أن ما يحمله المضلون من أوزار غيرهم يعفي الضالين من الحساب والعقاب، بل كلا الفريقين محاسب جراء عمله، فالمضلون يحملون أوزار من أضلوهم، ويعاقبون على ذلك بسبب إضلالهم إياهم، والضالون يحملون أوزار أنفسهم جراء اتباعهم لأولئك المضلين.
وقد روي عن مجاهد في قوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}، قال: ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً.
على أننا لو دققنا النظر في الأمر لتبين لنا أن ما يحمله المضلون من أوزار الضالين هو في الواقع نتيجة عملهم وكسبهم؛ إذ لما كان هؤلاء المضلون سبباً مباشراً لضلال أولئك الأتباع، صح أن يعاقبوا ويحاسبوا على فعل كانوا هم السبب في وجوده وتحقيقه، فكان ما حملوه من عقاب ليس بسبب فعل قام به غيرهم، وإنما بسبب فعل قاموا به بأنفسهم، فوضح بذلك أن العقاب نالهم بما كسبت أيديهم، لا بما كسبه غيرهم.
وقد ورد في السنة ما يدل على ما تقدم بيانه؛ فقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه، حتى رئي ذلك في وجهه، ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من وَرِق - فضة -، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء؛ ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء).
وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) رواه مسلم.
فهذا الحديثان يدلان دلالة واضحة على ما كنا بيناه سابقاً، من أن الإنسان يتحمل مسؤولية عمله، إذا كان لعمله أثر مباشر أو غير مباشر على غيره.
وتأسيساً على ما سبق بيانه، فمن كان إماماً في الضلالة ودعا إليها، واتبعه الناس عليها، فإنه يحمل يوم القيامة وزر نفسه، ووزر من أضله من الأتباع، من غير أن ينقص من وزر الضالين شيء.
وعلى ضوء ما تقدم، يتبين أن الأصل الذي ذكرناه بخصوص الحساب والعقاب ليس على إطلاقه، وإنما هو مقيد بحيث لا يكون لفعل الإنسان أثر على غيره، فإن كان ذلك كذلك كان مشتركاً في الحساب والعقاب، من جهة أنه كان سبباً. فوضح بهذا التقرير ألا تعارض حقيقي بين تلك الآيات.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
الهداية في القرآن على نوعين
في صدر سورة البقرة، يخبر سبحانه أن هذا القرآن: {هدى للمتقين} أي: في القرآن إرشاد للمتقين، واهتداء لما فيه صلاحهم وفلاحهم في العاجل والآجل؛ ونقرأ في السورة نفسها، بعد تقرير فريضة الصيام، قوله تعالى في صفة هذا القرآن، أنه: {هدى للناس} (البقرة:185).
وظاهر الآية الأولى، أن هداية القرآن الكريم خاصة بالمتقين فحسب؛ بينما جاءت الآية الثانية عامة، فوصفت هدى القرآن بأنه للناس، ولفظ (الناس) لفظ عام، يشمل المتقين وغيرهم، والمؤمنين ومَن سواهم.
ويبدو للناظر أن بين الآيتين تعارضًا، ووجه الجمع بينهما - كما قرر أهل العلم - أن يقال: إن الهداية في القرآن نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، وهو المعنيُّ في قوله تعالى: {ولكل قوم هاد} (الرعد:7) أي: لكل قوم هاد يدلهم ويُرشدهم إلى سُبُل الحق؛ ومن هذا الباب قوله جلا وعلا: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى:52) فأثبت سبحانه للرسل ومن سلك سبيلهم الهدى، الذي معناه الدلالة، والدعوة، والتنبيه؛ وتفرد سبحانه بالهدى -وهو النوع الثاني- الذي معناه التأييد والتوفيق والتسديد، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص:56) فالهداية هنا بمعنى التوفيق لالتزام سبيل المؤمنين، ونهج سلوك المتقين، وهو المعنيُّ في قوله تعالى: {ويهدي من يشاء} (يونس:25).
ونزيد الأمر وضوحًا، فنقول: إن الهداية في القرآن تأتي على نوعين:
أحدهما عام، والثاني خاص؛
فأما الهداية العامة، فمعناها إبانة طريق الحق والرشاد، وإيضاح المحجة والسداد، وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: {وأما ثمود فهدينهم} (فُصِّلت:17) والمعنى: بيَّنا لهم طريق الحق من الضلال، ووضَّحنا لهم طريق الرشاد من الفساد، بَيْدَ أنهم آثروا الثاني على الأول؛ فالأمر هنا أمر اختيار واختبار، يوضع أمام العبد ليختار منهما ما يشاء، والدليل على هذا الاختيار، قوله سبحانه: {فاستحبوا العمى على الهدى} (فُصِّلت:17) أي: استحبوا طريق الضلال على طريق الرشاد؛ ومثله أيضًا قوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد:10) أي: بيَّنا له طريق الخير وطريق الشر.
وأما الهداية الخاصة، فهي تفضُّل من الله سبحانه على العبد بتوفيقه إلى طاعته، وتيسيره سلوك طريق النجاة والفلاح؛ وعلى هذا المعنى جاء قوله عز وجل: {أولئك الذين هدى الله} (الأنعام:90) وقوله سبحانه: {فمن يُرِد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} (الأنعام:125).
إذا علمت هذا، فلا يُشكل عليك فهمُ ما جاء من آيات تخصُّ الهداية بالمتقين، وما جاء من آيات عامة، تعمُّ الهداية للناس أجمعين؛ وبه أيضًا يرتفع ما يبدو من إشكال بين قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} (القصص:56) وبين قوله سبحانه: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى:52) لأن الهداية المنفيَّة عنه صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى هي الهداية الخاصة، إذ التوفيق بيد الله سبحانه؛ أما الهداية المثبتة له عليه الصلاة والسلام في الآية الثانية، فهي الهداية بمعناها العام، وهي إبانة الطريق، وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم، وقام به أحسن القيام، وأتمَّه خير التمام، حتى ترك أمته على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
على أن للمفسرين توجيهات أُخرى لآية البقرة {هدى للمتقين} وما شابهها من آيات، لا ينبغي أن يُغفل عنها في مقام كهذا؛ فقد قالوا:
- خصَّ سبحانه المتقين بالهداية، وإنْ كان القرآن هدى للخلق أجمعين؛ تشريفًا لهم، وإجلالاً لهم، وكرامة لهم، وبيانًا لفضلهم؛ لأنهم آمنوا به، وصدقوا بما فيه.
- إنَّ تخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية، أي: إن من استمسك بهدي القرآن فإن عاقبته أن يكون من المتقين.
- إن اختصاصه بالمتقين؛ لأنهم المهتدون به فعلاً، والمنتفعون بما فيه حقيقة، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر؛ وبهذا الاعتبار قال تعالى: {هدى للناس}.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
ما أصابك من حسنة فمن الله
في سورة النساء نقرأ قوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله} (النساء:78) وبعدها مباشرة نقرأ قوله عز وجل: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء:79) ونقرأ أيضًا قوله سبحانه في سورة آل عمران: {قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:165).
وقد يظن للوهلة الأولى أن قوله سبحانه: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} مناف لقوله تعالى: {قل كل من عند الله } ولقوله أيضًا: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} (آل عمران:166) ولقوله: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35) وليس الأمر كذلك.
وهذه القضية التي تتناولها الآيات السابقة، هي جانب من قضية كبيرة؛ القضية المعروفة في تاريخ العالم كله باسم " القضاء والقدر" أو "الجبر والاختيار".
والواقع، فإن فهم هذه الآيات فهمًا صحيحًا يستدعي أمرين؛ أولهما: النظر إليها في السياق الذي وردت فيه؛ إذ لا يستقيم ولا يصح فهمها وهي منعزلة عن سياقها الخاص. وثانيهما: النظر إليها وفق المنظومة القرآنية العامة، أو بعبارة أخرى، النظر إليها نظرة كلية عامة، وضمن إطار الآيات القرآنية الأخرى؛ إذ إن آيات الكتاب يشهد بعضها لبعض، ويؤيد بعضها بعضًا. وانطلاقًا من هذين الأمرين نستطيع التوفيق بين ما قد يظهر من تعارض في الآيات التي نحن بصددها.
على ضوء هذا نقول: إن قوله سبحانه: {قل كل من عند الله} معناه: قل يا محمد، للقائلين إذا أصابتهم حسنة: {هذه من عند الله} وإذا أصابتهم سيئة: {هذه من عندك} قل لهم: إن كل ذلك من عند الله؛ فمن عنده سبحانه الرخاء والشدة، ومنه النصر والظَفَر، ومن عنده الفوز والهزيمة. ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {قل كل من عند الله} قال: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. وعن قتادة في قوله سبحانه: {قل كل من عند الله} قال: النعم والمصائب. وعن ابن زيد قال: النصر والهزيمة. وعن أبي العالية قال: هذه في السراء والضراء.
وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: إن كل ما أصاب الناس من خير أو شر، أو ضر أو نفع، أو شدة أو رخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاء ونعمة إلا بمشيئته. فالجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البِر والفاجر، والمؤمن والكافر. وفي هذا إعلام من الله لعباده، وتقرير لحقيقة مفادها: إن مفاتح الأشياء كلها بيده سبحانه، لا يملك شيئًا منها أحد غيره.
أما قوله عز وجل: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} يعني: ما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه، فمن نفسك، أي: بسبب ذنب اكتسبته نفسك. وفي ذلك آثار أيضًا؛ فعن السدي قال: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أي: من ذنبك. وعن قتادة قال: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أي: عقوبة يا ابن آدم بذنبك. وعن أبي صالح قال: بذنبك، وأنا قدَّرتها عليك.
وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد معنى هذه الآية؛ كقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى:30) أي: بذنوبكم وبما كسبت أيديكم؛ وقوله في سورة آل عمران بشأن أهل غزوة أحد: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:65).
فحاصل المعنى هنا: ما أصابك أيها المؤمن من خصب ورخاء، وصحة وسلامة، وغنى وفقر، وسراء وضراء، ونعمة ونقمة، فبفضل الله عليك وإحسانه إليك؛ وما أصابك من جدب وشدة، وهمٍّ وغمٍّ، ومرض وسقم، فبذنب أتيته، وإثم اقترفته، وعمل كسبته، فعوقبت عليه.
وفي تفسير ابن كثير عن مطرف بن عبد الله قال: ما تريدون من القدر؟ أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} أي: من نفسك؛ والله ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا وإليه يصيرون. قال ابن كثير معقبًا: وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضًا.
قال أهل العلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته، كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35).
فالآية -موضع البحث- تقرر حقيقة مهمة حاصلها: أن الله سبحانه هو المقدر لكل ما يقع في الكون؛ فما يقع في الكون من خير، فهو بتقديره؛ وما يقع من شر فهو بتقديره أيضًا، لكنه سبحانه -وهو العليم الحكيم- يقدر الشر والضر لسبب؛ فما أصابك أيها الإنسان من خير فهو بتقدير الله، وبسبب من أعمالك الصالحة، وما أصابك من شر فبسبب ذنوبك الطالحة، ولا يظلم ربك أحدًا.
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير بالوسائل التي أرشد الله إليها، بَيَدَ أنَّ تحقق الخير فعلاً، لا يتم إلا بإرادة الله وقدره.
وكذلك، فإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء. أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء. ولكن وقوع السوء فعلاً، ووجوده أصلاً، لا يتم إلا بقدرة الله وقدره.
فكل أمر في هذا الكون لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره. وما يصيب الإنسان من حسنة أو سيئة -بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة، سواء حسب ما يبدو في الظاهر، أو حسب ما هو في حقيقة الأمر والواقع- فهو من عند الله؛ لأنه لا ينشىء شيئًا ولا يحدثه ولا يخلقه ولا يوجده إلا الله.
أما ما يصيب الإنسان من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته. وما يصيبه من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند نفسه، لأنه بسبب تنكُّبه منهج الله، وإعراضه عن هدايته ومنهجه. وبهذا البيان يستقيم فهم الآيات والتوفيق بينها.
اسلام ويب
يتبع
تعليق