إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

دروس وعبر من سورة الفلق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دروس وعبر من سورة الفلق




    كثير من الناس يقرؤون قصار السور ولا يعرفون المعاني الكبيرة التي تحملها هذه السور، ولم يكلف البعض نفسه على فتح أي كتاب تفسير ليعرف تلك المعاني، وعلى سبيل المثال: المعوذتان، من السور الهامة التي يكثر قراءتها؛ ومع ذلك لو سألت كثيرا من الناس عن معاني بعض كلماتها لما عرف ذلك، وتراه يردد هاتين السورتين منذ عشرات السنين، ولكنه لم يسأل نفسه يوما ما: ما معنى هذه الكلمات التي أرددها؟ فما هو الفلق؟ وما هو الغاسق إذا وقب؟ وما النفاثات في العقد؟ وما خطورتها على المجتمع حتى أُمرنا أن نستعيذ منها؟ وما أهمية هذه السورة برمتها للمسلم؟ وما المواطن التي يسن فيها قراءتها؟ وما الأسرار التي فيها؟

    كلها أسئلة مهمة سنحاول الإجابة عليها -بإذن الله تعالى-.

    "سورة الفلق" خمس آيات.

    والمتتبع لسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- يجد أن المعوذتين من السور التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يكثر من قراءتهما في اليوم والليلة حتى كادتا أن تنافسا "سورة الفاتحة" في التكرار التي يكررها المسلم أكثر من سبع عشرة مرة في اليوم الواحد.

    فما فضل هاتين السورتين يا ترى؟ وما المواطن التي تقرأ فيها؟ وما تفسير آياتها؟
    وما الدروس والعبر التي يمكن أن نخرج منها؟

    أما عن فضائل المعوذتين؛ فما تعوذ متعوذ بمثلهما، حيث روى عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "قد أُنزل علي آيات لم يُر مثلهن: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) إلى آخر السورة، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) إلى آخر السورة) [رواه الترمذي]، وفي رواية عند أبي داود عن عقبة -رضي الله عنه- قال: "كنت أقود برسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ناقته في السفر، فقال لي: "يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قُرِئتا"؟ فعلمني: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلمَ: "يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما"، وفي رواية عند النسائي قال عقبة بن عامر -رضيَ الله عنه-: "أتيت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وهو راكب فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرأني سورة هود؟ أقرئني سورة يوسف؟ فقال لي: "ولن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعُقْبَةَ: "اقْرَأْ" فَقَالَ: وَمَا أَقْرَأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اقْرَأْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ حَتَّى قَرَأَهَا، فَعَرَفَ أَنِّي لَمْ أَفْرَحْ بِهَا جِدًّا، فَقَالَ: "لَعَلَّكَ تَهَاوَنْتَ بِهَا فَمَا قُمْتَ تُصَلِّي بِشَيْءٍ مِثْلِهَا" [رواه أحمد].

    أما المواطن التي يسن أن تقرأ فيها المعوذتان؛

    الأول: دبر كل صلاة؛ فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة" [رواه أبو داود والنسائي].

    الموطن الثاني: عند أذكار الصباح والمساء ثلاث مرات، حيث روى خبيب -رضي الله عنه- قال: "خَرَجْنَا فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي لَنَا، قَالَ: فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ: (قُلْ) فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: (قُلْ)، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا قَالَ: (قُلْ)، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (قُلْ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي وَتُصْبِحُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" [رواه الترمذي].

    الموطن الثالث: في صلاة الوتر، وكان يفعل ذلك أحيانا؛ حيث روى عَبْدِ الْعَزِيزِ بن جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَائِشَةَ -رضي الله عنها- بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُوتِرُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: "كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُولَى بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وَفِي الثَّانِيَةِ بِ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، وَفِي الثَّالِثَةِ بِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ" [رواه الترمذي].

    الموطن الرابع: عند النوم، ثلاث مرات، حيث روت عَائِشَةَ -رَضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ" [متفق عليه].

    أما الحالات الطارئة التي تُقرأ فيهما المعوذتان، فعند الوقاية والعلاج من العين، وعند العلاج من سائر الأوجاع؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رَضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" [رواه الترمذي].

    أما للعلاج من الأوجاع؛ فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا" [رواه البخاري]، وروت أيضا -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ" [رواه مسلم] نخرج من هذه الأحاديث: أن النبي -صلَى الله عليه وسلم- كان يحرص على تكرار المعوذتين لأهميتهما في حياة المسلم، فدعونا نفهم بعض معانيهما كي ندرك أسرار تكرارهما.
    فأما قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي قل: يا محمد وتتبعه الأمة: التجئ وأعتصم برب الفلق.




    والفلق له عدة معان؛
    فمن معانيه: الصباح؛ لقوله تعالى: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ) [الأنعام: 96]، وكانت عائشة -رَضي الله عنها- تقول: "ما كان يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح"، وهو تفاؤل بمجيء الفرح لظهور الصباح والنور. وقيل: معنى: "الفلق" بأنه الحَبُّ والنوى؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الأنعام: 95]، وقيل: معنى: "الفلق" أي الخلق، فالله رب الخلق. ويحتمل أن المعنى عام يشمل الجميع، وقد قال ابن جرير في تفسيره: "أطلق الله ولم يقيد، فنطلق كذلك ما أطلق" [أضواء البيان: 9/634].
    فالله عز جل يطلب من محمد -صلى الله عليه وسلم- وتتبعه أمته الالتجاء عليه سبحانه، والاستعاذة به.
    والاستعاذة بالله شأنها عظيم لو استحضرنا عظمة الله -تعالى- في قلوبنا.
    فالاستعاذة هي الاستجارة.

    والاستجارة في العرف الدولي: حق اللجوء السياسي، فلو جاء رجل وأعطي حقُ اللجوء السياسي من إحدى الدول الكبرى؛ لشعر بالفخر والمنعة والأمن، لأنه استجار بدولة عظيمة ذات سيادة وقوة وبطش؛ تظن أنها تفعل ما تريد وأنها بتصورها قادرة على حماية من استجار بها.
    فالله -عز وجل- يؤدب عباده المؤمنين أن لا يستعيذوا بأحد من الخلق، وإنما يستعيذوا ويستجيروا بالله وهو خالق الخلق، ورب الصباح، وبيده نواصي الخلق.

    ولكن لماذا لا يستشعر المؤمن بالعزة والمنعة والأمن حين يستعيذ بالله؟ ولماذا قلَّ استعاذ الناس بالله ولجوئهم الحقيقي إليه؟

    إن الذي استجار بدولة كبرى تراه قرأ عن تلك الدولة وما لديها من قوة وإمكانات جعلته يثق بها، ولذا يلزم المسلم أن يتعرف على قدرة الله -تعالى- وعظمته كي يصدق لجوئه واستعاذته به، فالمسلم لن يعظم هذه الاستعاذة في قلبه والاستجارة بالله إلا إذا عرف قَدرُ الله وقدرة الله على خلقه، ومن فقد ذلك فقد روحانية الاستعاذة بالله -عز وجل-.

    فنحن نحتاج اليوم إلى مراجعة إيماننا وإعادة ترتيب أوراق الثقة بالله؛ لنعيد تدبر كتاب الله، لنعظم الله -تعالى-، ونعرفه حق المعرفة، فنحن لا نزال لا نعرف قدر الله، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].

    نحن نستطيع أن نتعرف على شيء من عظمة الله وقدرته بمعرفة عظمة وضخامة مخلوقاته، والتفكر بها، فانظروا إلى حملة العرش من الملائكة حيث وصف النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أحدهم، فقال: "أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله -تعالى- حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة" [رواه أبو داود].

    فبهذا الأسلوب سنُعظّم الله -تعالى- ونستعيذ به، وكلنا يقين وثقة بنصرنا وحفظنا والاستجابة لنا، أما أن تكون عندنا ازدواجية في الطلب والنصرة فغير صحيح، فترى البعض من الناس إذا ألمَّ به أمر يسير؛ سأل الله فيه، ولكن إذا استصعب عليه أمر من الأمور الهامة والمصيرية تراه لا يسأل الله وإنما يلجئ إلى المخلوقين، فحرّك المعارف والوساطات كي يسعفوه، وينسى أن يسأل الله -تعالى-.


    وقد كان العرب في الجاهلية إذا نزلوا بأرض استعاذوا بسيد الوادي من الجن الذي يأتوا فيه قائلين: "أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه"، فيزداد الجن رهقا وطغيانا": (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [الجن: 6].

    فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واعلموا أن "سورة الفلق" تأمر بالالتجاء إلى الله، والاعتصام به، فهو رب العالمين، فلا يستعاذ إلا به، ومن استعاذ بغيره فقد أشرك.

    ولكي يدربنا الله -تعالى- على الثقة به عند الاستعاذة به، جعل المعوذتين من قصار السور حتى يدربنا على الاستعاذة به منذ الصغر.

    ولكي يدربنا الله أيضا على تعظيم هذه الاستعاذة؛ أمرنا أن نستجيب لمن استعاذ بالله؛ تعظيما لاسم الله -تعالى-؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ، وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ" [رواه أبو داود والنسائي]، ومعنى الحديث: أن من سألكم قائلا بالله عليكم، أو استعاذ قائلا: أعوذ بالله منكم، فلا تتعرضوا له؛ بل أعيذوه وادفعوا عنه تعظيما لاسم الله، وقد قال صلى الله عليه وسلمَ: "شر الناس الذي يُسأل بالله ثم لا يُعطي" [صحيح الجامع].

    وهناك مثال من السنة في تعظيم النبي -صَلى الله عليه وسلم- لمن استعاذ بالله؛ حيث جاء عن الأوزاعي -رحمه الله تعالى- قال: "سألت الزهري: أي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- استعاذت منه؟"، قال: أخبرني عروة عن عائشة -رضي الله عنها-: أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم- وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: "لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ" [رواه البخاري]، وذكر ابن حجر: أن سبب استعاذتها من النبي -صلىَ الله عليه وسلم- أن عائشة وصفية زوجتا النبي -صلى الله عليه وسلمَ حينما علمتا بزواج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بابنة الجون، وكانت من أجمل نساء العرب غارتا منها، ودخلتا عليها في أول ما قدمت، فمشطتاها وخضبتاها، وقالت لها إحداهما: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ بالله منك، ففعلت ذلك جهلا منها، فأعاذها النبي -صلى الله عليه وسلمَ- تعظيما لاسم الله -تعالى- وطلقها".




    شرعنا في تفسير آيات سورة الفلق لعلنا نكتشف بعض أسرارها وأهميتها في حياة المسلم.

    (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وذكرنا كيف يمكن أن نحقق الاستعاذة والاستجارة بالله -عز وجل- حينما أمرنا بقوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، ونكمل اليوم شرح الآية التي تليها وهي قوله تعالى.
    أيها الإخوة في الله: قيل هو إبليس وذريته وقيل جهنم، وقيل هو عام، أي من شر كل ذي شر خلقه الله -عز وجل-.
    (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 2] إن الله -تبارك وتعالى- يأمرنا أن نستعيذ من شر ما خلق أكثر من اثنتي عشرة مرة في اليوم الواحد، ومعنى ذلك أني أستعيذ بالله وألجأ إليه من شر جميع المخلوقات من الإنس والجن والدواب ومن شر كل مؤذٍ خلقه الله تعالى.
    فنحن لا نستعيذ بالله من كل ما خلق، بل من شرها، لأنه يوجد فيما خلقه الله ما هو خير؛ كالمساجد والعمل الصالح والملائكة والكعبة وغير ذلك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أنه هو الذي يوجه رسوله وأمته من وراءه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور.
    والأنسب في صيغة السؤال أن يُقال: ما الحكمة من خلق الشر؟ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23]، وقد نسأل سؤالاً: لماذا خُلق الشر أصلاً؟ أقول: لعل صيغة السؤال غير مؤدبة مع الله –تعالى- لأن الله تعالى خلق الشر ليبلوا عباده، وقدر الشر على عباده، ولكن لا يُنسب إليه تأدبا، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: "والخير كله في يديك، والشر ليس إليك"، وقوله –صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل: "وتؤمن بالقدر خيره وشره".
    فنسب البناء وهو فعل خير إلى الله (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) [الكهف: 80- 82]، فنسب تخريق السفينة لنفسه، وقال: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) [الكهف: 79].

    ولو تأملنا قصة الخضر مع موسى -عليهما السلام- كيف أنه لم ينسب الفعل إلى الله -تبارك وتعالى- في الأحوال التي ظاهرها الشر حين خرق السفينة وقتل الغلام بينما نسب الفعل إلى الله تعالى حينما بنى الجدار مع العلم بأن كل تلك الأمور من تقدير الله تعالى.
    أيها الإخوة في الله: وكوننا أُمرنا أن نستعيذ من كل شر فيترتب على ذلك عدة أمور: منها أن أول شر تستعيذَ منه هو شر نفسك وهواك، فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول في مقدمة خطبه "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا".
    وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يأمرنا أن نستعيذ من شرور أنفسنا ثلاث مرات كل يوم على الأقل حيث روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق –رضي الله عنه- قال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: قل: "اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، قَالَ: قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ" (رواه أبو داود والترمذي).
    الأمر الثاني: أن تكون أول من يجتنب الشر عامة وأصحاب الشر وكل ذي شر؛ كالفاسد من المواد الإعلامية وأصدقاء السوء وكل حرام.

    فالمرء ليخجل أمام الله وهو يشاهد ما حرَّم الله عليه وهو قد استعاذ لتوِّه من كافة الشرور طوال اليوم أكثر من خمسة عشر مرة.
    الأمر الثالث: ينبغي أن لا تحسن الظن المطلق بكل إنسان؛ لأنك تؤمن بأن كل إنسان فيه خير وشر، وأنك لتوك قد استعذت من شر كل مخلوق، فلا تجعل ثقتك عمياء في الأشخاص، وإنما توثق من أمرك، وليس معنى هذا أن تسيء الظن بكل إنسان، ولكن المؤمن لا يُلدَغ من جُحر مرتين، وإنما خذ حِذرك.

    قال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) [الفلق: 3] أي أمرنا أن نستعيذ أيضًا من شر الغاسق إذا وقب، والغاسق هو الليل، أو الظلمة، ومعنى إذا وقب: أي إذا أظلم، وقيل هي الشمس إذا غربت، وقيل الغاسق هو القمر وذلك للحديث الذي رواه الترمذي والنسائي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- نظر إلى القمر فقال: "يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب"، ويرجح العلماء بأن الغاسق هو الليل، وأما ما جاء في الحديث فلا تعارض لأن القمر هو آية الليل.

    وما الحكمة من التعوذ من الليل؟

    إن المسلم مطالَب خمسة عشر مرة في القرآن الكريم ومرتين في السنة أن يستعيذ من شر الليل، أما في القرآن فمن تكرار المعوذتين، أما ما جاء في السنة فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول في أذكار الصباح والمساء: "أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها.." (رواه مسلم).
    وإذا جاء الغد كررت ذلك فتكون قد استعذت من كل ليلة مرتين.
    ما الحكمة من التعوذ من الليل؟
    قيل تأويل ذلك أن أهل الريب والفساد ينتظرون الليل ليستخفوا بمعاصيهم عن أعين الناس.

    وفي الليل تنتشر الشياطين فتزيد من نشر شرورها، فقد روى جابر بنُ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ". (متفق عليه).
    ولعل الذي يستعيذُ من فتنة الليل بصدق أن يعصمه الله تعالى من الجلوس في مجالس اللهو التي لا يذكر الله فيها كالجلوس أمام الأفلام الماجنة، وفي بعض الديوانيات التي يغلب عليها اللهو والغفلة عن طاعة الله، وهي أكثر ما تحدث في الليل بسبب الفراغ وعدم النوم.
    ولعل الذي يتدبر هذه الاستعاذة لعله أن يستحي من الله تعالى أن يراه جاثمًا ينظر إلى مختلف الشرور في وسائل الإعلام وهو لتوه قد استعاذ من كل شر.

    فالذي يغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فيركب فرس المعاصي فذلك الذي وقع في الفتنة، ففتنة الليل فيها فتنة الاغترار بالاستتار عن أعين الناس ونسيان مراقبة الجبار، نعوذ بالله من شر غاسق إذا وقب.


    قال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق: 4]، فالنفاثات في العقد هن الساحرات اللاتي ينفثن في عد الخيط حين يعملن السحر ويتقربن إلى الشياطين. وإننا نعلم خطر السحرة عمومًا والساحرات خصوصًا على الأسرة والمجتمع.
    إن ترابط الزوجين داخل الأسرة لهو أهم أمر لأمن أفراد الأسرة، ومن ثَم المجتمع، فالأسرة في الإسلام لها أهمية كبرى لأنها لبنة المجتمع، فإذا وهنت سقط المجتمع بأسره.
    إنك ترى إبليس يقرّب منه الشيطان الذي يفرق بين الزوجين فقد روى جابر –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا؟ قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ. قَالَ الأَعْمَشُ أُرَاهُ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ" (رواه مسلم).

    وقال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) لذلك حذر الله تعالى عباده من شر الساحرات اللاتي يعملن السحر فيفرقن بين المرء وزوجه، لذلك ينبغي الحذر من الخادمات الآتي قد يفعلن السحر بأهل البيت، وقد سمعنا قصصًا كثيرة، فلذلك ينبغي عدم إيذاء هؤلاء الخدم حتى لا يلجأن إلى السحر.

    أما سبل الوقاية من السحر فبالمواظبة على قراءة المعوذتين مرة دبر كل صلاة وثلاث مرات في الصباح والمساء وعند صلاة الوتر وثلاث مرات عند النوم.
    نسأل تعالى أن يعصمنا وذريتنا. ولعلنا أن نكمل الدروس والعبر من سورة الفلق في خطبة أخرى بإذن الله تعالى.
    نسأل الله تعالى أن يفقهنا أمر ديننا، وأن يحببنا لكتاب ربنا وأن يرزقنا شفاعته والعمل به.
    اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

    محمد بن إبراهيم النعيم

    ملتقى الخطباء











    كثير من الناس يقرؤون قصار السور ولا يعرفون المعاني الكبيرة التي تحملها هذه السور، ولم يكلف البعض نفسه على فتح أي كتاب تفسير ليعرف تلك المعاني، وعلى سبيل المثال: المعوذتان، من السور الهامة التي يكثر قراءتها؛ ومع ذلك لو سألت كثيرا من الناس عن معاني بعض كلماتها لما عرف ذلك، وتراه يردد هاتين السورتين منذ عشرات السنين، ولكنه لم يسأل نفسه يوما ما: ما معنى هذه الكلمات التي أرددها؟ فما هو الفلق؟ وما هو الغاسق إذا وقب؟ وما النفاثات في العقد؟ وما خطورتها على المجتمع حتى أُمرنا أن نستعيذ منها؟ وما أهمية هذه السورة برمتها للمسلم؟ وما المواطن التي يسن فيها قراءتها؟ وما الأسرار التي فيها؟

    كلها أسئلة مهمة سنحاول الإجابة عليها -بإذن الله تعالى-.

    "سورة الفلق" خمس آيات.

    والمتتبع لسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- يجد أن المعوذتين من السور التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يكثر من قراءتهما في اليوم والليلة حتى كادتا أن تنافسا "سورة الفاتحة" في التكرار التي يكررها المسلم أكثر من سبع عشرة مرة في اليوم الواحد.

    فما فضل هاتين السورتين يا ترى؟ وما المواطن التي تقرأ فيها؟ وما تفسير آياتها؟
    وما الدروس والعبر التي يمكن أن نخرج منها؟

    أما عن فضائل المعوذتين؛ فما تعوذ متعوذ بمثلهما، حيث روى عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "قد أُنزل علي آيات لم يُر مثلهن: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) إلى آخر السورة، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) إلى آخر السورة) [رواه الترمذي]، وفي رواية عند أبي داود عن عقبة -رضي الله عنه- قال: "كنت أقود برسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ناقته في السفر، فقال لي: "يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قُرِئتا"؟ فعلمني: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلمَ: "يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما"، وفي رواية عند النسائي قال عقبة بن عامر -رضيَ الله عنه-: "أتيت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وهو راكب فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرأني سورة هود؟ أقرئني سورة يوسف؟ فقال لي: "ولن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعُقْبَةَ: "اقْرَأْ" فَقَالَ: وَمَا أَقْرَأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اقْرَأْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ حَتَّى قَرَأَهَا، فَعَرَفَ أَنِّي لَمْ أَفْرَحْ بِهَا جِدًّا، فَقَالَ: "لَعَلَّكَ تَهَاوَنْتَ بِهَا فَمَا قُمْتَ تُصَلِّي بِشَيْءٍ مِثْلِهَا" [رواه أحمد].

    أما المواطن التي يسن أن تقرأ فيها المعوذتان؛

    الأول: دبر كل صلاة؛ فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة" [رواه أبو داود والنسائي].

    الموطن الثاني: عند أذكار الصباح والمساء ثلاث مرات، حيث روى خبيب -رضي الله عنه- قال: "خَرَجْنَا فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي لَنَا، قَالَ: فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ: (قُلْ) فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: (قُلْ)، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا قَالَ: (قُلْ)، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (قُلْ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي وَتُصْبِحُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ" [رواه الترمذي].

    الموطن الثالث: في صلاة الوتر، وكان يفعل ذلك أحيانا؛ حيث روى عَبْدِ الْعَزِيزِ بن جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَائِشَةَ -رضي الله عنها- بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُوتِرُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: "كَانَ يَقْرَأُ فِي الأُولَى بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، وَفِي الثَّانِيَةِ بِ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، وَفِي الثَّالِثَةِ بِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ" [رواه الترمذي].

    الموطن الرابع: عند النوم، ثلاث مرات، حيث روت عَائِشَةَ -رَضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ" [متفق عليه].

    أما الحالات الطارئة التي تُقرأ فيهما المعوذتان، فعند الوقاية والعلاج من العين، وعند العلاج من سائر الأوجاع؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رَضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" [رواه الترمذي].

    أما للعلاج من الأوجاع؛ فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا" [رواه البخاري]، وروت أيضا -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ" [رواه مسلم] نخرج من هذه الأحاديث: أن النبي -صلَى الله عليه وسلم- كان يحرص على تكرار المعوذتين لأهميتهما في حياة المسلم، فدعونا نفهم بعض معانيهما كي ندرك أسرار تكرارهما.
    فأما قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي قل: يا محمد وتتبعه الأمة: التجئ وأعتصم برب الفلق.




    والفلق له عدة معان؛
    فمن معانيه: الصباح؛ لقوله تعالى: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ) [الأنعام: 96]، وكانت عائشة -رَضي الله عنها- تقول: "ما كان يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح"، وهو تفاؤل بمجيء الفرح لظهور الصباح والنور. وقيل: معنى: "الفلق" بأنه الحَبُّ والنوى؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الأنعام: 95]، وقيل: معنى: "الفلق" أي الخلق، فالله رب الخلق. ويحتمل أن المعنى عام يشمل الجميع، وقد قال ابن جرير في تفسيره: "أطلق الله ولم يقيد، فنطلق كذلك ما أطلق" [أضواء البيان: 9/634].
    فالله عز جل يطلب من محمد -صلى الله عليه وسلم- وتتبعه أمته الالتجاء عليه سبحانه، والاستعاذة به.
    والاستعاذة بالله شأنها عظيم لو استحضرنا عظمة الله -تعالى- في قلوبنا.
    فالاستعاذة هي الاستجارة.

    والاستجارة في العرف الدولي: حق اللجوء السياسي، فلو جاء رجل وأعطي حقُ اللجوء السياسي من إحدى الدول الكبرى؛ لشعر بالفخر والمنعة والأمن، لأنه استجار بدولة عظيمة ذات سيادة وقوة وبطش؛ تظن أنها تفعل ما تريد وأنها بتصورها قادرة على حماية من استجار بها.
    فالله -عز وجل- يؤدب عباده المؤمنين أن لا يستعيذوا بأحد من الخلق، وإنما يستعيذوا ويستجيروا بالله وهو خالق الخلق، ورب الصباح، وبيده نواصي الخلق.

    ولكن لماذا لا يستشعر المؤمن بالعزة والمنعة والأمن حين يستعيذ بالله؟ ولماذا قلَّ استعاذ الناس بالله ولجوئهم الحقيقي إليه؟

    إن الذي استجار بدولة كبرى تراه قرأ عن تلك الدولة وما لديها من قوة وإمكانات جعلته يثق بها، ولذا يلزم المسلم أن يتعرف على قدرة الله -تعالى- وعظمته كي يصدق لجوئه واستعاذته به، فالمسلم لن يعظم هذه الاستعاذة في قلبه والاستجارة بالله إلا إذا عرف قَدرُ الله وقدرة الله على خلقه، ومن فقد ذلك فقد روحانية الاستعاذة بالله -عز وجل-.

    فنحن نحتاج اليوم إلى مراجعة إيماننا وإعادة ترتيب أوراق الثقة بالله؛ لنعيد تدبر كتاب الله، لنعظم الله -تعالى-، ونعرفه حق المعرفة، فنحن لا نزال لا نعرف قدر الله، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].

    نحن نستطيع أن نتعرف على شيء من عظمة الله وقدرته بمعرفة عظمة وضخامة مخلوقاته، والتفكر بها، فانظروا إلى حملة العرش من الملائكة حيث وصف النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أحدهم، فقال: "أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله -تعالى- حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة" [رواه أبو داود].

    فبهذا الأسلوب سنُعظّم الله -تعالى- ونستعيذ به، وكلنا يقين وثقة بنصرنا وحفظنا والاستجابة لنا، أما أن تكون عندنا ازدواجية في الطلب والنصرة فغير صحيح، فترى البعض من الناس إذا ألمَّ به أمر يسير؛ سأل الله فيه، ولكن إذا استصعب عليه أمر من الأمور الهامة والمصيرية تراه لا يسأل الله وإنما يلجئ إلى المخلوقين، فحرّك المعارف والوساطات كي يسعفوه، وينسى أن يسأل الله -تعالى-.


    وقد كان العرب في الجاهلية إذا نزلوا بأرض استعاذوا بسيد الوادي من الجن الذي يأتوا فيه قائلين: "أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه"، فيزداد الجن رهقا وطغيانا": (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [الجن: 6].

    فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واعلموا أن "سورة الفلق" تأمر بالالتجاء إلى الله، والاعتصام به، فهو رب العالمين، فلا يستعاذ إلا به، ومن استعاذ بغيره فقد أشرك.

    ولكي يدربنا الله -تعالى- على الثقة به عند الاستعاذة به، جعل المعوذتين من قصار السور حتى يدربنا على الاستعاذة به منذ الصغر.

    ولكي يدربنا الله أيضا على تعظيم هذه الاستعاذة؛ أمرنا أن نستجيب لمن استعاذ بالله؛ تعظيما لاسم الله -تعالى-؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ، وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ" [رواه أبو داود والنسائي]، ومعنى الحديث: أن من سألكم قائلا بالله عليكم، أو استعاذ قائلا: أعوذ بالله منكم، فلا تتعرضوا له؛ بل أعيذوه وادفعوا عنه تعظيما لاسم الله، وقد قال صلى الله عليه وسلمَ: "شر الناس الذي يُسأل بالله ثم لا يُعطي" [صحيح الجامع].

    وهناك مثال من السنة في تعظيم النبي -صَلى الله عليه وسلم- لمن استعاذ بالله؛ حيث جاء عن الأوزاعي -رحمه الله تعالى- قال: "سألت الزهري: أي أزواج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- استعاذت منه؟"، قال: أخبرني عروة عن عائشة -رضي الله عنها-: أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلى الله عليه وسلم- وَدَنَا مِنْهَا، قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: "لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ" [رواه البخاري]، وذكر ابن حجر: أن سبب استعاذتها من النبي -صلىَ الله عليه وسلم- أن عائشة وصفية زوجتا النبي -صلى الله عليه وسلمَ حينما علمتا بزواج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بابنة الجون، وكانت من أجمل نساء العرب غارتا منها، ودخلتا عليها في أول ما قدمت، فمشطتاها وخضبتاها، وقالت لها إحداهما: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ بالله منك، ففعلت ذلك جهلا منها، فأعاذها النبي -صلى الله عليه وسلمَ- تعظيما لاسم الله -تعالى- وطلقها".




    شرعنا في تفسير آيات سورة الفلق لعلنا نكتشف بعض أسرارها وأهميتها في حياة المسلم.

    (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وذكرنا كيف يمكن أن نحقق الاستعاذة والاستجارة بالله -عز وجل- حينما أمرنا بقوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، ونكمل اليوم شرح الآية التي تليها وهي قوله تعالى.
    أيها الإخوة في الله: قيل هو إبليس وذريته وقيل جهنم، وقيل هو عام، أي من شر كل ذي شر خلقه الله -عز وجل-.
    (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 2] إن الله -تبارك وتعالى- يأمرنا أن نستعيذ من شر ما خلق أكثر من اثنتي عشرة مرة في اليوم الواحد، ومعنى ذلك أني أستعيذ بالله وألجأ إليه من شر جميع المخلوقات من الإنس والجن والدواب ومن شر كل مؤذٍ خلقه الله تعالى.
    فنحن لا نستعيذ بالله من كل ما خلق، بل من شرها، لأنه يوجد فيما خلقه الله ما هو خير؛ كالمساجد والعمل الصالح والملائكة والكعبة وغير ذلك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أنه هو الذي يوجه رسوله وأمته من وراءه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور.
    والأنسب في صيغة السؤال أن يُقال: ما الحكمة من خلق الشر؟ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23]، وقد نسأل سؤالاً: لماذا خُلق الشر أصلاً؟ أقول: لعل صيغة السؤال غير مؤدبة مع الله –تعالى- لأن الله تعالى خلق الشر ليبلوا عباده، وقدر الشر على عباده، ولكن لا يُنسب إليه تأدبا، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: "والخير كله في يديك، والشر ليس إليك"، وقوله –صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل: "وتؤمن بالقدر خيره وشره".
    فنسب البناء وهو فعل خير إلى الله (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً) [الكهف: 80- 82]، فنسب تخريق السفينة لنفسه، وقال: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) [الكهف: 79].

    ولو تأملنا قصة الخضر مع موسى -عليهما السلام- كيف أنه لم ينسب الفعل إلى الله -تبارك وتعالى- في الأحوال التي ظاهرها الشر حين خرق السفينة وقتل الغلام بينما نسب الفعل إلى الله تعالى حينما بنى الجدار مع العلم بأن كل تلك الأمور من تقدير الله تعالى.
    أيها الإخوة في الله: وكوننا أُمرنا أن نستعيذ من كل شر فيترتب على ذلك عدة أمور: منها أن أول شر تستعيذَ منه هو شر نفسك وهواك، فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول في مقدمة خطبه "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا".
    وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يأمرنا أن نستعيذ من شرور أنفسنا ثلاث مرات كل يوم على الأقل حيث روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق –رضي الله عنه- قال: يا رسول الله مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: قل: "اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، قَالَ: قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ" (رواه أبو داود والترمذي).
    الأمر الثاني: أن تكون أول من يجتنب الشر عامة وأصحاب الشر وكل ذي شر؛ كالفاسد من المواد الإعلامية وأصدقاء السوء وكل حرام.

    فالمرء ليخجل أمام الله وهو يشاهد ما حرَّم الله عليه وهو قد استعاذ لتوِّه من كافة الشرور طوال اليوم أكثر من خمسة عشر مرة.
    الأمر الثالث: ينبغي أن لا تحسن الظن المطلق بكل إنسان؛ لأنك تؤمن بأن كل إنسان فيه خير وشر، وأنك لتوك قد استعذت من شر كل مخلوق، فلا تجعل ثقتك عمياء في الأشخاص، وإنما توثق من أمرك، وليس معنى هذا أن تسيء الظن بكل إنسان، ولكن المؤمن لا يُلدَغ من جُحر مرتين، وإنما خذ حِذرك.

    قال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) [الفلق: 3] أي أمرنا أن نستعيذ أيضًا من شر الغاسق إذا وقب، والغاسق هو الليل، أو الظلمة، ومعنى إذا وقب: أي إذا أظلم، وقيل هي الشمس إذا غربت، وقيل الغاسق هو القمر وذلك للحديث الذي رواه الترمذي والنسائي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- نظر إلى القمر فقال: "يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب"، ويرجح العلماء بأن الغاسق هو الليل، وأما ما جاء في الحديث فلا تعارض لأن القمر هو آية الليل.

    وما الحكمة من التعوذ من الليل؟

    إن المسلم مطالَب خمسة عشر مرة في القرآن الكريم ومرتين في السنة أن يستعيذ من شر الليل، أما في القرآن فمن تكرار المعوذتين، أما ما جاء في السنة فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول في أذكار الصباح والمساء: "أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها.." (رواه مسلم).
    وإذا جاء الغد كررت ذلك فتكون قد استعذت من كل ليلة مرتين.
    ما الحكمة من التعوذ من الليل؟
    قيل تأويل ذلك أن أهل الريب والفساد ينتظرون الليل ليستخفوا بمعاصيهم عن أعين الناس.

    وفي الليل تنتشر الشياطين فتزيد من نشر شرورها، فقد روى جابر بنُ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ". (متفق عليه).
    ولعل الذي يستعيذُ من فتنة الليل بصدق أن يعصمه الله تعالى من الجلوس في مجالس اللهو التي لا يذكر الله فيها كالجلوس أمام الأفلام الماجنة، وفي بعض الديوانيات التي يغلب عليها اللهو والغفلة عن طاعة الله، وهي أكثر ما تحدث في الليل بسبب الفراغ وعدم النوم.
    ولعل الذي يتدبر هذه الاستعاذة لعله أن يستحي من الله تعالى أن يراه جاثمًا ينظر إلى مختلف الشرور في وسائل الإعلام وهو لتوه قد استعاذ من كل شر.

    فالذي يغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فيركب فرس المعاصي فذلك الذي وقع في الفتنة، ففتنة الليل فيها فتنة الاغترار بالاستتار عن أعين الناس ونسيان مراقبة الجبار، نعوذ بالله من شر غاسق إذا وقب.


    قال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق: 4]، فالنفاثات في العقد هن الساحرات اللاتي ينفثن في عد الخيط حين يعملن السحر ويتقربن إلى الشياطين. وإننا نعلم خطر السحرة عمومًا والساحرات خصوصًا على الأسرة والمجتمع.
    إن ترابط الزوجين داخل الأسرة لهو أهم أمر لأمن أفراد الأسرة، ومن ثَم المجتمع، فالأسرة في الإسلام لها أهمية كبرى لأنها لبنة المجتمع، فإذا وهنت سقط المجتمع بأسره.
    إنك ترى إبليس يقرّب منه الشيطان الذي يفرق بين الزوجين فقد روى جابر –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا؟ قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ. قَالَ الأَعْمَشُ أُرَاهُ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ" (رواه مسلم).

    وقال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) لذلك حذر الله تعالى عباده من شر الساحرات اللاتي يعملن السحر فيفرقن بين المرء وزوجه، لذلك ينبغي الحذر من الخادمات الآتي قد يفعلن السحر بأهل البيت، وقد سمعنا قصصًا كثيرة، فلذلك ينبغي عدم إيذاء هؤلاء الخدم حتى لا يلجأن إلى السحر.

    أما سبل الوقاية من السحر فبالمواظبة على قراءة المعوذتين مرة دبر كل صلاة وثلاث مرات في الصباح والمساء وعند صلاة الوتر وثلاث مرات عند النوم.
    نسأل تعالى أن يعصمنا وذريتنا. ولعلنا أن نكمل الدروس والعبر من سورة الفلق في خطبة أخرى بإذن الله تعالى.
    نسأل الله تعالى أن يفقهنا أمر ديننا، وأن يحببنا لكتاب ربنا وأن يرزقنا شفاعته والعمل به.
    اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

    محمد بن إبراهيم النعيم

    ملتقى الخطباء








يعمل...
X