21- قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
حقًّا وصدقًا ما تقول يا ربَّنا؛ أنت خلَقتنا وتَعلم ظاهرنا وباطنَنا، فماذا نقول بعد قولك على الإنسان: ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾؟
والأمانة في الآية الكريمة عند ابن عباس - رضي الله عنهما - (الطاعة)، أو أنها الفرائض.
وهي (الفرائض) أيضًا عند مجاهد والضَّحَّاك، والحسن البصري.
وهي (الدين والفرائض والحدود) عند قَتادة.
وهي (الصلاة والصوم، والاغتسال من الجنابة) عند زيد بن أسلم.
وظاهر هذه الأقوال يومِئ بأنها تتَّفق حول أنَّ المقصود بالأمانة - التي عرَضها الله على السموات والأرض، والجبال والإنسان - التكليف وقَبول الأوامر والنواهي.
والمعنى بوجه عام أنَّ الله - سبحانه وتعالى - عرَض (الطاعة) أو التكليف على السموات والأرض والجبال، قبل أن يعرضَها على آدم، فلم يُطِقْنَها، وأشْفَقْنَ على أنفسهنَّ من الإخلال بحفظها، ثم عرَضها على آدم، فقَبِلها.
قال ابن عباس عن الأمانة: (الطاعة) عرضَها عليهم قبل أن يعرضَها على آدم، فلم يُطِقْنَها، فقال لآدم: إني قد عرَضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم يُطِقْنَها، فهل أنت آخذٌ بما فيها؟ قال يا ربُّ: وما فيها؟ قال: إن أحْسَنت جُزِيت، وإن أسأْتَ عُوقِبْتَ، فأخَذها آدم فحَمَلها، فذلك قوله تعالى: ﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾.
و﴿ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾من صِيَغ المبالغة في الظلم والجهل.
لقد تفهَّمت السموات والأرض والجبال أمرَ الله، وعَلِمت قَدرها، وأحسَّت أنها لا صبرَ لها ولا طاقة على أداء الأمانة، واختارَت السمع لله والطاعة.
أمَّا آدم، فعلى الرغم من عِلمه من أنه إن قام بذلك أُثيب، وإن ترَكها عُوقِب، فإنه قَبِلها على ضَعفه وجَهده، إلاَّ مَن وَفَّقه الله وأعانَه عليها، اللهمَّ وفِّقنا إلى طاعتك والقدرة على حَمْل أمانتك.
22- قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
سبحان ربي العظيم، هو القاهر فوق عباده، إذا أراد شيئًا فيكفي أن يقول له: "كن" فيكون؛ قال كثير من الصالحين: إنما أمره مُحقَّق لا محالة، قبل أن يَنطق النون من "كن"؛ أي: بين الكاف والنون".
وأرجَف المرجفون، وأنكر المنكرون؟! واعجبًا من أمرهم.
وفي أنفسهم أفلا يُبصرون، أفلا يتأمَّلون، أفلا يتذكَّرون أو يَعقلون؟!
لقد خلَق الله الناس، وسخَّر لهم ما يُيسِّر لهم حياتهم، فصار الناس فيما يَسَّر الله لهم يقولون له: "كن، فيكون"، قبل أن ينطقَ الإنسان لفظ "كن"، إذا أراد الوقوف تَمَّ له ما أراد، وإذا أراد أن يَضرب، فبمجرد الرغبة في ذلك امتدَّت يداه لتحقيق ما يريد، وإذا أراد مَشيًا أو حركة، أو جَريًا أو نومًا، فبمجرد الإرادة فإن كلَّ شيء مُحقَّق، لا يعصي له أمرًا ومن دون تفكيرٍ.
فبالله، كيف يكون الأمر مع الخالق العظيم الذي أحسَن كلَّ شيء صُنعًا؟!
ألا خَسِئ المنكرون، وساء فِعْل المُرجفين، وسبحان الله العظيم.
وقد أكَّد الله - سبحانه - هذه القدرة في القرآن في أكثر من موضع، لعلَّ الخَلْق يتَّعظون ويُدركون، فيؤمنوا؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 117].
﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59].
﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [الأنعام: 73].
﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40].
﴿ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [مريم: 35].
﴿ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [غافر: 68].
وصدَق الله وكذَب الكافرون، ما أصدَقَك يا ربَّنا قيلاً!
23- قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت: 21].
هذا مصير أعداء الله المجرمين الذين أنكروا آيات الله وأنكروا البعث، فعاثوا في الأرض فسادًا، ونَسُوا الله فأنساهم أنفسهم، وغرَّتهم الحياة الدنيا، وكذَّبوا المرسلين، لقد جاءهم وعدُ الله، وحدَث لهم ما كانوا يُنكرون.
﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾؛أي: يَحشرهم زبانية جهنَّم، ويَجمعونهم، أَوَّلهم على آخرهم، ويَسوقونهم إلى النار؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾ [مريم: 86]؛ أي: عطاشًا.
يسوقونهم: ﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا ﴾، ووَقَفوا على حافِتها، وحتى يُلزمهم الله الحجَّة: ﴿ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
سبحان ربي القادر العظيم.
لقد قَهَر لهم السمع والبصر والحواس في الدنيا، وجعَلها تأْتَمر بأمرهم، وإن كان خطأً، وإن كان شِركًا، إنها تفعل ما تُؤمَر به، فأَسَاؤوا استخدامها وهي مقهورة لهم.
أمَّا في الآخرة، فقد رُفِع عنها التكليف وصارَت حرَّة تَشهد بما فعَلت للمُسيئين، لا تترك صغيرة ولا كبيرة، إلاَّ شَهِدت بها، وبذلك ينخرس المجرمون، وليتهم يسكتون! بل نظروا إلى جنودهم في حسرةٍ وزَيْغ وقالوا معاتبين: ﴿ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا ﴾،كيف لا يشهدون وهم خَلْق من خَلق الله مثلكم، سُخِّروا لخدمتكم، وأَسَأتُم التسخير؟!
ولقد نَطَقت جلودهم نُطقَ الحقِّ الذي كانوا به يكذبون: ﴿ قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾.
لقد أنطقَكم أنتم أوَّل مرَّة، وأنطَق خَلْقه كلَّهم يوم القيامة، وهو قادر عليه ﴿ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
فسبحان الذي بيده ملكوت كلِّ شيء وإليه ترجعون، وساء فِعْل المجرمين.
24- قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39].
ما أكثر آيات الله التي تَنطق وحدانيَّته وقدرته.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرعد: 3].
هي فقط آيات لمن يُفكِّر، وآيات لذَوِي العقول.
أمَّا الذين ألغوا عقولهم، وعاشوا كالأنعام - بل هم أضلُّ سبيلاً - وأمَّا الذين لا يُفكرون وعاشوا كالسائبة لا فِكْر لهم، وأَلْغوا العقول وعاشوا في لَججٍ وإنكار، يقولون: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 37]، وأنكروا النشور، فإنَّ الله ما زال ولا يزال يضرب لهم الأمثال؛ لعلَّهم يَهتدون، ولعلهم يرجعون.
انظروا إلى الأرض التي تسيرون عليها، ففيها آية على البعث والنشور، فعلى الرغم من أنكم ترونها هامدة لا حياة فيها، كأنها جثة هامدة ساكنة، حتى إذا أتاها إذنُ الله، وأنزَل عليها الماء، فإنها تدبُّ فيها الحياة والحركة، وتخرج من بطنها زرعًا أخضرَ بهيجًا، وزهرًا ذا ألوان مختلفة.
بل إنَّ الجبال الجاثمة الصَّلدة، التي كأنها في مواتٍ منذ آلاف السنين، إذا ما أنزَل الله عليها الماء، تراها كأنها بُعِثت من مَرقدها، وأخرَجت ما في باطنها، وصارَت في أحسن صورة، وأجَل بهاء.
أيها المنكرون، ألا تَقيسون هذا على ذاك؟ ألا تتفكَّرون؟ ألا تعقلون؟ أليس في ذلك مثلٌ لقدرة الخالق على إحياء الموتى؟! بلى؛ ﴿ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39].
وتبارَك الله أحسنُ الخالقين.
25- قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ [الزخرف: 51].
هذه مقولة ظالِم لنفسه، ملَّكه الله رقابَ خَلْقه، فبغى عليهم، وأنعَم الله عليه، فطَغى، وأمْهَله، فخُيِّل إليه من طُغيانه وبَغيه أنه إله، إنه فرعون - قاتَله الله - بنى قصره من خير الله فوق نهرٍ يجري بأمر الله، وحكَم شعبًا من خَلْق الله، فنَسِي نفسه وادَّعى أنه الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنه أذلَّ أعناق الرجال، واستحيى النساء، وذبَح الأطفال؛ ليَخلو له الأمر بلا منازع، الجبار العظيم القاهر فوق عباده.
ذبَح الأطفال؛ لأن عرَّافيه قالوا له: سيولَد طفل من بني إسرائيل، سوف تكون نهايتك على يديه، ففعَل فَعْلته؛ ليكون في مأمنٍ، أنه يؤتَى الحَذِر من مَأْمنه، فربَّى ذلك الطفل "موسى" في بيته، وتحت رعايته وأُبوَّته؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً؛ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8].
ولقد كان فرعون سادرًا في ظُلمه وبَغيه وقَهره للناس؛ ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾ [القصص: 4]، فساء فِعْل الظالمين، وحينما جاءه موسى بالبيِّنات رَكِب رأسه، وتعجَّب من الأمر؛ إذ كيف يدعو موسى إلى إله غيره، فأمَر أن يُبنى له صرحٌ عالٍ؛ ليرى إله موسى، فقال: ﴿ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ [القصص: 38].
وقال: ﴿ لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ [غافر: 36 - 37].
لذلك حينما آمَن الناس مع موسى، دارَت رأس فرعون، ورَكِبه الشيطان، فذكَر الله على لسانه أنه قال: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38].
ولقد لخَّص الله حال فرعون في سورة النازعات؛ حيث قال تعالى لموسى: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [النازعات: 17 - 26].
وجاءَت نهاية الظالمين في قوله تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90].
هكذا بعد أن رأى نهايته بنفسه تهاوَى من كبريائه وظُلمه سحقًا، وهل ينفع ندمُ المُتكبِّرين؟! قال الله له: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 91 - 92].
26- قال تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 1 - 3].
هذه مقدمة سورة الفتح التي قال الرسول الكريم في حقِّها بعد نزولها عليه: ((نزَل عليّ البارحة سورة هي أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾))[1].
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾؛ أي: نصَرناك يا محمد نصرًا ظاهرًا بيِّنًا، حينما تَمَّ لك صُلح الحديبية، فإنه ترتَّب عليه خيرٌ كثير، وآمَن كثيرٌ من الناس، واجتمَع بعضهم ببعض، وتفاوَض المؤمن مع الكافر، وما سيترتَّب على هذا الفتح من عزٍّ للمؤمنين ونصرٍ لرسول الله الكريم.
﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾.
هنيئًا لك ومريئًا يا نبي الله، بيَّن الله - عزَّ وجلَّ - ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟
هكذا قال أصحاب رسول الله له حينما قرأ عليهم الآيات، فنزَلت عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 5].
لقد غفَر الله لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، ومع ذلك روى الإمام أحمد عن المغيرة بن شُعبة أنه كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلي حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: أليس قد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! هل تعلم ماذا كان ردُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)).
صلوات ربي عليك يا رسول الله وتسليماته.
إنك لعلى خُلق عظيم، وإنك لسيِّد الشاكرين، وهذا من خصائصه - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي لا يُشاركه فيها غيره، وما غفَر الله لأحدٍ قبله - فيما أعلم - ولا بعده ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
وهذا تشريف عظيم لَم يَنله سواه من البشر، فهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيِّد ولد آدم في الدنيا والآخرة؛ ليتمَّ نعمته عليه في الدنيا والآخرة، ويَهديه صراطًا مستقيمًا، وشرعًا عظيمًا، ودينًا قويمًا؛ ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾.
وإنَّ الله ناصرك ومؤيِّدك - لخضوعك لأمره - على جميع أعدائه، نصرًا قويًّا حاسمًا، فيه عِزُّك الذي يترك في نفوس الكافرين المَذلَّة والهَوَان.
صدقت يا ربي، فقد نَصَرت رسولك والذين آمنوا معه نصرًا عزيزًا، وفتَحت له مكة بعد ذلك، فتَحت لرسولك - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتحًا مبينًا، ودخلَ الناس في دين الله أفواجًا، وخَسِئ الكافرون، وكانوا هم الخاسرين.
27- قال تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].
الإسلام دين الفطرة، يدعو إلى التأمُّل، واستخدام العقل فيما حولنا من ملكوت السموات والأرض، ولقد دعا القرآن الكريم الناس إلى تأمُّل خَلْق السموات والأرض، والليل والنهار، والحياة والموت، ولقد استخدَم مرات كثيرة الفعل: "ينظرون" من النظرة بالعين، نحو قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20].
وفي النظر دعوة لاستعمال العين المجرَّدة في هذه الأشياء؛ لتأمُّل خَلْقها، والاستدلال على خالقها - سبحانه، ومرات كثيرة أخرى يستخدم القرآن الفعل: "يُبصرون"، وهذا الفعل وإن كان فيه معنى النظر والإبصار بالعين، إلاَّ أنَّ معنى التأمُّل فيه أكثر، فعادةً يُستخدم في الدعوة إلى استخدام البصيرة، وليس الإبصار؛ لتأمُّل ما لا يمكن أن تقعَ عليه العين المجرَّدة.
وهذه الآية الكريمة تَستصرخ خَلْق الله أن يُبصروا ما بداخل أنفسهم، ففيه أدلة كافية على قدرة الله ووحدانيَّته، وإذا لَم يَكفهم تأمُّل ما حولهم، فعليهم بتأمُّل أنفسهم؛ كيف يَتنفسُّون؟ وكيف تعمل قلوبهم؟ وكيف تُفكِّر عقولهم؟ وكيف يَهضمون؟ وكيف يُخرجون ما في بطونهم؟ وكيف تعمل أكبادهم وأمعاؤهم وكُلاَهم؟ وكيف ينامون ويستيقظون؟ وكيف يتناسلون ويحبون ويكرهون؟ هل هذا كله مَحض صدفة؟ أم أنَّ له خالق مُدبِّر قادرٌ، أحسَن الصُّنع وأحكَم الخَلق، وبذلك يكون جديرًا بالتوحيد والشكر والحمد؟!
28- قال تعالى: ﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الرحمن: 24].
سبحان الخلاَّق العظيم، يَخلق ما لا يعلمون.
نزَلت هذه الآية وأخرى مثلها، هي قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الشورى: 32]، نزَلتا على رجل أُمِّي لَم يَخرج من صحراء العرب، ولَم يرَ بحرًا، ولَم يستعمل الفُلك، حتى الفلك التي كانت في وقته مجرَّدَ قوارب، لَم يكن لها شأنُ ما نراه اليوم يَمخر عُباب البحر والمحيطات، ومع ذلك أنبأهم العلي القدير بأمر تلك الفلك التي هي كالجبال في ضَخامتها، وأنها من آيات قُدرته - سبحانه جلَّ وعلا.
ومن الغريب أن أصحابه البدو لَم يُدهشوا لذلك، ولَم يسألوا عنه؛ إذ كيف يسألون وهم يعلمون أن في القرآن خبرَ مَن قبلهم، ونبأَ مَن بعدهم، وهم به مؤمنون ولكلماته وآياته مُصدِّقون؟!
الجواري هي الفلك، وهي كالأعلام؛ أي: كالجبال الشامخة، تجري في البحر آيةً من آيات الله، لَم يَروها، ولَم يَخطر على بالهم كيفيَّتها، ومع ذلك آمَنوا وصدَّقوا.
وتحقَّق الأمر كفَلق الصُّبح في عصرنا الحديث، فمنها البوارج، وحاملات الطائرات، وقاذفات اللهب، وناقلات البترول العملاقة، وعبارات النقل والشحن، وهي فعلاً كالأعلام - الجبال الشامخة - تعبُّ في مياه البحار والمحيطات عبًّا، بل تكاد الجبال تَصغر دونها.
نزَلت هذه الآية على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قرآن يُتلى، وفي تَحدٍّ واضح لكلِّ ذي لُبٍّ وعقلٍ، وتحقَّق الأمر جليًّا بعد ما يزيد على ألف سنة، فأين ذهَب المنكرون؟ أفلا يُفكِّرون، وبالله يؤمنون؟ إنَّك لا تهدي مَن أحبَبْتَ، ولكن الله يهدي مَن يشاء، وسبحان ربي العظيم.
29- قال تعالى: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ﴾ [الرحمن: 33].
هذه آية من آيات قدرة الله، يتحدَّى بها خَلقه من جنِّه وإنسه، وأنه - سبحانه وتعالى - مُحيط بهم، لا يستطيعون منه فرارًا ولا هَربًا، وأنَّ حُكمه عليهم واقعٌ لا مَحالة، هكذا شاءَت مَشيئته، دنيا تعيشونها؛ فمنكم السعيد، ومنكم الشقي، وآخرة تُبعثون فيها؛ فإلى الجنة، أو النار، فأين المَهرب؟ لن تستطيعوا هربًا من أمر الله وقدره، ولن تَقدروا على التخلُّص من حُكمه، تَفِرون منه وإليه.
سوف يقع عليكم ما تُنكرونه من بعثٍ ونشور، كذِّبوا ما شئتُهم، فإنَّ أمر الله واقعٌ لا محالة، وإنَّ الحشر واقعٌ لا محالة، وسوف يُحيط بكم أمرُ الله لا محالة، يوم يقول الكافر المُنكر للبعث وقد رآه: ﴿ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40].
وحيث يرى الملائكة الأطهار مُحَدِّقين به من كلِّ جانب، مُحدِّقين به وبالخَلق أجمعين، سبعة صفوف من كلِّ جانب، فلا يقدر أحدٌ على ذهاب أو فرارٍ ﴿ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾، لا يكون فرارٌ أو نجاة إلاَّ بأمر الله، إلاَّ مَن رَحِم ربي، وأَذِن له بالنجاة والخلاص، سبحانك ربي، لا فِرار منك إلاَّ إليك، ولا نجاة إلاَّ بإذنك.
30- قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51].
ألا ساء فِعْل الكافرين!
يؤذون رسول الله بالقول، بألْسِنة حداد، ويؤذونه بالفعل والتآمُر والتربُّص به، ويؤذونه بالحسد؛ حسدًا من عند أنفسهم.
﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾؛قال ابن عباس ومجاهد: "ليزلقونك" ليُنفذونك بأبصارهم؛ أي: يَحسدونك لبُغضهم إيَّاك.
والمعنى عندي - والله أعلم - أنهم من حسدهم وشِدَّة بُغضهم، تكاد عيونهم تَخرق جسد الرسول الكريم من شِدَّة تسلُّطها عليه، وهذا المعنى قريب مما يقوله الناس: "كاد أن يأكلني بعينه".
وفي هذا دليلٌ على أنَّ العين إصابتها، وتأثيرها حقٌّ بأمر الله - عزَّ وجلَّ - فقد ورَد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعوِّذ الحسن والحسين، يقول: ((أُعيذكما بكلمات الله التامَّة من كلِّ شيطان وهامَّة، ومن كلِّ عين لامَّة))، ويقول: ((هكذا كان إبراهيم يُعوِّذ إسحاق وإسماعيل - عليهما السلام))[2].
وحسَد الكفَّار للرسول الكريم ناتجٌ عن سماعهم للقرآن الكريم، ولَم يَكتفوا بحسدهم له، فهم يَزدرونه ويَحسدونه بأعينهم، ويُؤذونه بألْسِنتهم، ويقولون: إنه لمجنون؛ أي: أصابَتْه جِنَّة، فهو يَهذي.
انظر كيف يُطيِّر الحقدُ العقول؟ وانظر كيف يزيغ الحسدُ العيون؟ ألا ساء فِعل الكافرين.
وقد خَسِئوا بشهادة الله - عزَّ وجلَّ - حيث قال:﴿ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [القلم: 52].
[1] أخرَجه أحمد، ورواه البخاري.
[2] أخرَجه البخاري.
أ. د. أحمد محمد عبدالدايم عبدالله
شبكة الالوكة