تفسير الشيخ الشعراوي سورة يس
٦٣-٦٦
(هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )٦٧
(ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ )٦٤
(ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ )٦٥-يس
هنا أيضاً اعتبر التخويفَ من جهنم وعداً لا وعيداً، وسبق أنْ عرفنا أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر، ومن ذلك قول الشاعر:
يَا دَهْرُ يَا مُنْجِزَ إيعَادِهِ وَمُخْلِفَ المأْمُولِ مِنْ وَعْدِهِ
وقُلْنا: سَمَّى ذلك وعداً؛ لأن التحذير من الشر قبل الوقوع فيه يُعَدُّ خيراً؛ لأنك تستطيع تدارك الأمر، وتصحيح الخطأ.
وقوله سبحانه: { ٱصْلَوْهَا } [يس: 64] ادخلوها، واصْطَلُوا بنارها، واحترقوا بلظَاهَا، { ٱلْيَوْمَ } [يس: 64] أي: يوم الجزاء اليوم القائم الذي نحن فيه، أما ما قبله فقد مضى ومضتْ معه اللذات التي جاءت بكم إلى النار، ذهبتْ اللذات وبقيتْ تبعتها، ولم يعُد أمامكم إلا النار تحترقون فيها { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [يس: 64] يعني: هذه النار ليست ظُلْماً، إنما جزاء كفركم بنعمة الله، وهذا تقريع لهم؛ لأنهم لم يعرفوا للحق سبحانه نعمه عليهم، ولو عرفوا لله هذه النعمة ما كفروا بها.
لذلك حين تُحسِن إلى إنسان، فيقابل إحسانك بالإساءة يخجل أن يقابلك، ويستطيع أنْ يتحمل منك أيَّ عقاب، إلا أن تواجهه أنت، لماذا؟ لأن حياء المسيء من المحسن أشدُّ عليه من العذاب، فكأن الله تعالى يقول لهؤلاء الكفرة بنعمه: استحيوا من الله، لأنه أنعم عليكم فكفرتم بنعمه، ولو أن عندكم إحساساً لكان تذكيركم بكفركم أشدَّ عليكم من هذه النار التي تَصْلوْنها.
ثم يقول سبحانه واصفاً حالهم، والعياذ بالله: { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65].
قوله: { ٱلْيَوْمَ } [يس: 65] أي: يوم القيامة والجزاء { نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } [يس: 65].
نضرب عليها فلا يستطيعون الكلام، فالأفواه مَنَاط الكلام، وقبل أن يختم الله على أفواههم في الآخرة ختم على قلوبهم في الدنيا، بالأمس ختم اللهُ على القلوب فلا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر، واليوم ختم الله على الأفواه ومنعهم الكلام، حتى لا يعتذرون ولا يستغفرون.
فالمقام هنا مقام حساب لا عمل، فلا جدوى من الاستغفار، ولا فائدة من الاعتذار، بل انتهى أوان الكلام والمنطق، ولم يعُد للسان دَوْر، اليوم تُغْلَق الأفواه وتُقيَّد الألسنة لتنطق الجوارح.
وتأمل بعدها: { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65] القياس كان يقتضي أنْ يقول الحق سبحانه { 1649;لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } [يس: 65].
ومثلها: ونُنْطِق أيديهم ونُشهِد أرجلهم، لكن السياق القرآني هنا مختلف، فبعد أنْ يختمَ اللهُ على أفواههم تُكلمنا أيديهم تطوعاً لا أمراً، وتشهد أرجلهم تطوعاً لا أمراً، فلم نقل للأيدي: تكلمي، ولم نقل للأرجل: اشهدي.
وإنما تطوعتْ هذه الجوارح بالشهادة، مع أنها هي نفس الجوارح التي بُوشِرت بها المعاصي والذنوب في الدنيا، ومع ذلك تشهد لا على نفسها، إنما على النفس الواعية التي أخضع اللهُ لها الجوارح، وأمرها أن تسير وِفْق مرادها، ورهْنَ إشارتها في الدنيا.
أما ونحن الآن في الآخرة، وقد تحررتْ الجوارحُ من تبعيتها للنفس الواعية، وأصبح الملْكُ كله والتفويض كله لله تعالى، فالآن تتكلم الجوارحُ بما تريد، وتشهد بما كان أمام الرب الأعلى سبحانه.
وسبق أنْ مثَّلْنَا هذه المسألة بالكتيبة من الجيش يرسلها القائد الأعلى، وعلى الكتيبة أن تطيع أوامر قائدها المباشر، ولو كانت الأوامر خاطئة، إلى أن تعود إلى الأعلى، فتشكو له ما كان من القائد المباشر، هكذا الجوارح يوم القيامة.
فإنْ قلتَ: فلماذا أسند التكلم للأيدي، والشهادة للأرجل؟ نقول: لأن جمهرة الأعمال عادة تُسند إلى الأيدي، حتى لو كان المشي وسيلة العمل، وطالما أن الأيدي تتكلم، فكأنها أصبحتْ مُدَّعية تحتاج إلى شاهد فتشهد الأرجل.
أما مسألة: كيف تنطق الأيدي، فالذي أنطق اللسان وهو قطعة من لحم ودم قادر على أنْ يُنْطِق باقي الأعضاء الأيدي أو غيرها، وما دام الفعلُ لله تعالى فلا داعيَ للسؤال عن الكيفية، ثم إن الأيدي بها من الأعصاب أكثر مما بأعضاء الكلام.
وقوله تعالى: { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65] ولم يقُلْ: بما كانوا يعملون، لأن هناك فرقاً بين إنسان يُقبل على المعصية لكنه لا يفرح بها، بل يندم عليها ويعاقب نفسه على ارتكابها، وآخر يعتبر ارتكاب المعصية مكسباً فيفرح بها، ويتحدث عنها ويتباهى بارتكابها.
ومن حيث التحقيق اللغوي لمادة (كسب)، فإن هذا الفعل يأتي مجرداً (كسب)، ويدل على الربح في البيع والشراء، وعلى العمل يأتي من الإنسان طبيعياً، لا تكلُّفَ فيه ولا افتعال، وغالباً ما يُستخدم في الخير.
ويأتي هذا الفعل مزيداً بالهمزة والتاء (اكتسب)، ويدل على الافتعال والتكلّف، وتُستخدم هذه الصيغة في الإثم، وأوضحنا هذه المسألة فقلنا: إن الإنسان حين يفعل الخير يأتي الفعلُ منه طبيعياً تلقائياً، أما الشر فيتلصص له ويحتال، ذلك لأن الخير هَيِّن ليِّن سهل مقبول، أما الإثم فشَاقٌّ مخجل.
أنت حين تجلس مثلاً بين أهلك ترى زوجك أو بناتك أو عمتك أو خالتك.. الخ وفيهن الجميلات والحسان، وأنت تنظر إليهن جميعاً دون تكلُّف ودون خجل، لأنه أمر طبيعي، أنا مع غير المحارم ومع مَنْ يحرم عليك النظر إليهن، فإنك تسرق النظرة وتحتال لها، حتى لا ينكشف أمرك، ولا يطلع أحد على نقيصتك.
فإذا جاءت كسب محل اكتسب، فاعلم أن صاحب المعصية ومرتكب الإثم قد تعوَّد عليه وألِفه، حتى أنه يفعله كأمر طبيعي فلا يخفيه ولا يستحي منه، بل يجاهر به، فَعَدّ الاكتساب في حقه كسباً، كما في هذه الآية:
{ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65].
(وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ )٦٦
(وَلَوْ نشآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ )٦٧
كما ختمنا على أفواههم ومنعناهم الكلام لو شِئْنا لطمسنا أعينهم يعني: أغلقناها وسوَّيناها، بحيث لا يظهر لها أثر في وجوههم، وإذا طمسنا على أعينهم فقدوا البصر، فكيف يبصرون وهم يسابقون إلى الصراط؟
لقائل أنْ يقول: إذا فقدوا البصر على الصراط، فقد تكون لهم بدائل وحيل تُسعفهم، كأن يتحسس طريقه بعصا مثلاً، أو يجد مَنْ يأخذ بيده ويرشده، فالحق سبحانه وتعالى يُطوِّقهم من كل نواحيهم، ويقطع أملهم في النجاة، فيقول: { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ } [يس: 67].
فالأمر لا ينتهي عند العمى والطمس على الأعين، إنما هناك ما هو أشد، أنْ يمسخهم في أماكنهم ويجمدهم فيها، فلا يستطيعون حراكاً.
والمسخ أنْ يصيروا كالمساخيط لا يتحرك، أو مسخناهم يعني: حوَّلنا صورهم إلى صور قبيحة، إذلالاً وإهانة لهم.
والمعنى الأول أوجه، لأنه تعالى قال بعدها: { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } [يس: 67].
لأنهم تجمدوا في أماكنهم، فلا حركة لهم لا إلى الأمام بالمضيِّ فى الطريق الجديد الذي هم مُقبلون عليه، ولا حتى العودة في الطريق الذي جاءوا منه وألِفُوه.
التفاسير العظيمة
٦٣-٦٦
(هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )٦٧
(ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ )٦٤
(ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ )٦٥-يس
هنا أيضاً اعتبر التخويفَ من جهنم وعداً لا وعيداً، وسبق أنْ عرفنا أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر، ومن ذلك قول الشاعر:
يَا دَهْرُ يَا مُنْجِزَ إيعَادِهِ وَمُخْلِفَ المأْمُولِ مِنْ وَعْدِهِ
وقُلْنا: سَمَّى ذلك وعداً؛ لأن التحذير من الشر قبل الوقوع فيه يُعَدُّ خيراً؛ لأنك تستطيع تدارك الأمر، وتصحيح الخطأ.
وقوله سبحانه: { ٱصْلَوْهَا } [يس: 64] ادخلوها، واصْطَلُوا بنارها، واحترقوا بلظَاهَا، { ٱلْيَوْمَ } [يس: 64] أي: يوم الجزاء اليوم القائم الذي نحن فيه، أما ما قبله فقد مضى ومضتْ معه اللذات التي جاءت بكم إلى النار، ذهبتْ اللذات وبقيتْ تبعتها، ولم يعُد أمامكم إلا النار تحترقون فيها { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [يس: 64] يعني: هذه النار ليست ظُلْماً، إنما جزاء كفركم بنعمة الله، وهذا تقريع لهم؛ لأنهم لم يعرفوا للحق سبحانه نعمه عليهم، ولو عرفوا لله هذه النعمة ما كفروا بها.
لذلك حين تُحسِن إلى إنسان، فيقابل إحسانك بالإساءة يخجل أن يقابلك، ويستطيع أنْ يتحمل منك أيَّ عقاب، إلا أن تواجهه أنت، لماذا؟ لأن حياء المسيء من المحسن أشدُّ عليه من العذاب، فكأن الله تعالى يقول لهؤلاء الكفرة بنعمه: استحيوا من الله، لأنه أنعم عليكم فكفرتم بنعمه، ولو أن عندكم إحساساً لكان تذكيركم بكفركم أشدَّ عليكم من هذه النار التي تَصْلوْنها.
ثم يقول سبحانه واصفاً حالهم، والعياذ بالله: { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65].
قوله: { ٱلْيَوْمَ } [يس: 65] أي: يوم القيامة والجزاء { نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } [يس: 65].
نضرب عليها فلا يستطيعون الكلام، فالأفواه مَنَاط الكلام، وقبل أن يختم الله على أفواههم في الآخرة ختم على قلوبهم في الدنيا، بالأمس ختم اللهُ على القلوب فلا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر، واليوم ختم الله على الأفواه ومنعهم الكلام، حتى لا يعتذرون ولا يستغفرون.
فالمقام هنا مقام حساب لا عمل، فلا جدوى من الاستغفار، ولا فائدة من الاعتذار، بل انتهى أوان الكلام والمنطق، ولم يعُد للسان دَوْر، اليوم تُغْلَق الأفواه وتُقيَّد الألسنة لتنطق الجوارح.
وتأمل بعدها: { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65] القياس كان يقتضي أنْ يقول الحق سبحانه { 1649;لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } [يس: 65].
ومثلها: ونُنْطِق أيديهم ونُشهِد أرجلهم، لكن السياق القرآني هنا مختلف، فبعد أنْ يختمَ اللهُ على أفواههم تُكلمنا أيديهم تطوعاً لا أمراً، وتشهد أرجلهم تطوعاً لا أمراً، فلم نقل للأيدي: تكلمي، ولم نقل للأرجل: اشهدي.
وإنما تطوعتْ هذه الجوارح بالشهادة، مع أنها هي نفس الجوارح التي بُوشِرت بها المعاصي والذنوب في الدنيا، ومع ذلك تشهد لا على نفسها، إنما على النفس الواعية التي أخضع اللهُ لها الجوارح، وأمرها أن تسير وِفْق مرادها، ورهْنَ إشارتها في الدنيا.
أما ونحن الآن في الآخرة، وقد تحررتْ الجوارحُ من تبعيتها للنفس الواعية، وأصبح الملْكُ كله والتفويض كله لله تعالى، فالآن تتكلم الجوارحُ بما تريد، وتشهد بما كان أمام الرب الأعلى سبحانه.
وسبق أنْ مثَّلْنَا هذه المسألة بالكتيبة من الجيش يرسلها القائد الأعلى، وعلى الكتيبة أن تطيع أوامر قائدها المباشر، ولو كانت الأوامر خاطئة، إلى أن تعود إلى الأعلى، فتشكو له ما كان من القائد المباشر، هكذا الجوارح يوم القيامة.
فإنْ قلتَ: فلماذا أسند التكلم للأيدي، والشهادة للأرجل؟ نقول: لأن جمهرة الأعمال عادة تُسند إلى الأيدي، حتى لو كان المشي وسيلة العمل، وطالما أن الأيدي تتكلم، فكأنها أصبحتْ مُدَّعية تحتاج إلى شاهد فتشهد الأرجل.
أما مسألة: كيف تنطق الأيدي، فالذي أنطق اللسان وهو قطعة من لحم ودم قادر على أنْ يُنْطِق باقي الأعضاء الأيدي أو غيرها، وما دام الفعلُ لله تعالى فلا داعيَ للسؤال عن الكيفية، ثم إن الأيدي بها من الأعصاب أكثر مما بأعضاء الكلام.
وقوله تعالى: { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65] ولم يقُلْ: بما كانوا يعملون، لأن هناك فرقاً بين إنسان يُقبل على المعصية لكنه لا يفرح بها، بل يندم عليها ويعاقب نفسه على ارتكابها، وآخر يعتبر ارتكاب المعصية مكسباً فيفرح بها، ويتحدث عنها ويتباهى بارتكابها.
ومن حيث التحقيق اللغوي لمادة (كسب)، فإن هذا الفعل يأتي مجرداً (كسب)، ويدل على الربح في البيع والشراء، وعلى العمل يأتي من الإنسان طبيعياً، لا تكلُّفَ فيه ولا افتعال، وغالباً ما يُستخدم في الخير.
ويأتي هذا الفعل مزيداً بالهمزة والتاء (اكتسب)، ويدل على الافتعال والتكلّف، وتُستخدم هذه الصيغة في الإثم، وأوضحنا هذه المسألة فقلنا: إن الإنسان حين يفعل الخير يأتي الفعلُ منه طبيعياً تلقائياً، أما الشر فيتلصص له ويحتال، ذلك لأن الخير هَيِّن ليِّن سهل مقبول، أما الإثم فشَاقٌّ مخجل.
أنت حين تجلس مثلاً بين أهلك ترى زوجك أو بناتك أو عمتك أو خالتك.. الخ وفيهن الجميلات والحسان، وأنت تنظر إليهن جميعاً دون تكلُّف ودون خجل، لأنه أمر طبيعي، أنا مع غير المحارم ومع مَنْ يحرم عليك النظر إليهن، فإنك تسرق النظرة وتحتال لها، حتى لا ينكشف أمرك، ولا يطلع أحد على نقيصتك.
فإذا جاءت كسب محل اكتسب، فاعلم أن صاحب المعصية ومرتكب الإثم قد تعوَّد عليه وألِفه، حتى أنه يفعله كأمر طبيعي فلا يخفيه ولا يستحي منه، بل يجاهر به، فَعَدّ الاكتساب في حقه كسباً، كما في هذه الآية:
{ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65].
(وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ )٦٦
(وَلَوْ نشآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ )٦٧
كما ختمنا على أفواههم ومنعناهم الكلام لو شِئْنا لطمسنا أعينهم يعني: أغلقناها وسوَّيناها، بحيث لا يظهر لها أثر في وجوههم، وإذا طمسنا على أعينهم فقدوا البصر، فكيف يبصرون وهم يسابقون إلى الصراط؟
لقائل أنْ يقول: إذا فقدوا البصر على الصراط، فقد تكون لهم بدائل وحيل تُسعفهم، كأن يتحسس طريقه بعصا مثلاً، أو يجد مَنْ يأخذ بيده ويرشده، فالحق سبحانه وتعالى يُطوِّقهم من كل نواحيهم، ويقطع أملهم في النجاة، فيقول: { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ } [يس: 67].
فالأمر لا ينتهي عند العمى والطمس على الأعين، إنما هناك ما هو أشد، أنْ يمسخهم في أماكنهم ويجمدهم فيها، فلا يستطيعون حراكاً.
والمسخ أنْ يصيروا كالمساخيط لا يتحرك، أو مسخناهم يعني: حوَّلنا صورهم إلى صور قبيحة، إذلالاً وإهانة لهم.
والمعنى الأول أوجه، لأنه تعالى قال بعدها: { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } [يس: 67].
لأنهم تجمدوا في أماكنهم، فلا حركة لهم لا إلى الأمام بالمضيِّ فى الطريق الجديد الذي هم مُقبلون عليه، ولا حتى العودة في الطريق الذي جاءوا منه وألِفُوه.
التفاسير العظيمة