تفسير الشيخ الشعراوي
الاسراء٧٨_٧٩
(أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً )٧٨-الإسراء
فالصلاة هي الفريضة الثابتة المتكررة التي لا تسقط عن المسلم بأي حال، وفيها إعلانُ ولاء للإيمان بالله كل يوم خمس مرات
وهي أيضاً تنتظم كل أركان الإسلام؛
لأنك في الصلاة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبدل أنْ كنتَ تقولها مرة واحدة ها أنت تقولها عدة مرات في كل صلاة، وهذا هو الركن الأول.
كما أنها تشتمل على الصوم؛ لأنك تصوم في أثناء الصلاة فتمتنع عن شهوتَيْ البطن والفرج، وكذلك عن أيِّ فعل غير أفعال الصلاة، وعن الكلام في غير ألفاظ الصلاة. إذن: في الصلاة صيام بالمعنى الأوسع للصوم.
وفي الصلاة زكاة؛ لأن المال الذي تكتسبه وتُزكِّيه ناتج عن الحركة، والحركة فرع الوقت، وفي الصلاة تُضحّي بالوقت نفسه، فكأن الزكاة في الصلاة أبلغ.
وكذلك في الصلاة حج؛ لأنك تتوجّه فيها إلى كعبة الله، وتستحضرها في ذِهْنك وأمام ناظريْكَ.
لذلك استحقت الصلاة أن تكون عماد الدين، مَنْ أقامها فقد أقام الدين، ومَنْ هدمها فقد هدم الدين، ومن هنا جاءت الصلاة في أول هذه الأحكام، فقال تعالى: { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ .. } [الإسراء: 78] أي: أدِّها أداءً كاملاً في أوقاتها.
والصلاة لها مَيْزة عن كل أركان الإسلام؛ لأن كل تكليفات الإسلام جاءت بواسطة الوحي لرسول الله إلا الصلاة، فقد فُرِضَتْ بالمباشرة مما يدلُّ على أهميتها، وقد مثَّلنَا لذلك - ولله المثل الأعلى - بالرئيس الذي يتصل بمرؤوسه تليفونياً ليأمره بشيء، فإذا كان هذا الشيء من الأهمية بمكان استدعاه إليه وأفهمه ما يريد.
وهكذا كانت الصلاة، فقد فُرِضَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالمباشرة لما لها من أهمية بين فراض الدين، ثم تولى جبريل عليه السلام تعليم رسول الله الصلاة، وعَلَّمها رسول الله للناس، وقال: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي" .
وقوله تعالى: { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ .. } [الإسراء: 78].
الحق سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا مواقيت الصلاة. و(الدلوك) معناه: الزوال من حركة إلى حركة، ومنها قولنا: فلان (المدلكاتي) أي: الذي يتولّى عملية التدليك، وتتحرك يده من مكان لمكان.
والمراد بدلوك الشمس: مَيْلها عن وسط السماء إلى ناحية الغرب، والإنسان يرى الأفق الواسع إذا نظر إلى السماء، فيراها على شكل قوس ممتدّ وعلى حَسْب نظره وقوته يرى الأفق، فإنْ كان نظره قوياً رأى الأُفُقْ واسعاً، وإنْ كان نظره ضعيفاً رأى الأفق ضيّقاً؛ لذلك يقولون لقليل التفكير: ضيِّق الأفق.
وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السماء تراها على شكل نصف دائرة، وأنت مركزها، وساعةَ أنْ ترى الشمس عمودية عليك، فهذا وقت الزوال، فإذا ما انحرفتْ الشمس ناحية المغرب يُقَال: دلكت الشمس. أي: مالت ناحية المغرب، وهذا هو وقت الظهر.
والمتأمل في فَرْض الصلاة على رسول الله يجد أن الظُّهْر هو أول وقت صَلاَّه رسول الله؛ لأن الصلاة فُرِضَتْ عليه في السماء في رحلة المعراج، وكانت بليل، فلما عاد صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الظهر، فكانت هي الصلاة الأولى.
ثم يقول تعالى: { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ .. } [الإسراء: 78] أي: أقِم الصلاة عند دُلوك الشمس إلى متى؟ إلى غَسَق الليل أي: ظُلْمته
وفي الفترة من دُلوك الشمس إلى ظُلمة الليل تقع صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولا يبقى إلى صلاة الصبح، فقال عنها سبحانه وتعالى: { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء: 78]
ونتساءل هنا: لماذا ذكر قرآن الفجر ولم يَقُلْ صلاة؟
قالوا: لأن القرآن في هذا الوقت حيث سكون الكون وصفاء النفوس، فتتلقى القرآن نديّاً طريّاً وتستقبله استقبالاً واعياً قبل أن تنشغل بأمور الحياة { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء: 78].
أي: تشهده الملائكة. إذن: المشهودية لها دَخْل في العبادة، فإذا كانت مشهودية مَنْ لا تكليف عليه في الصلاة جعلها الله حيثية، فكيف بمشهودية مَنْ كُلِّف بالصلاة؟
والحق سبحانه وتعالى جعل في صلاة الجماعة استطراقاً للعبودية، ففي صلاة الجماعة يستوي كل الخَلْق حيث يخلعون وجاهتهم، ويخلعون أقدارهم على أبواب المسجد، كما يخلعون أحذيتهم، فالرئيس بجانب المرؤوس والوزير بجانب الخفير.
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُوطِّن الإنسان لنفسه مكاناً في المسجد، يجلس فيه باستمرار؛ لأن الأصل أنْ يجلس المصلي حيث ينتهي به المجلس، فيجلس الناس بأولوية الحضور كل حَسْب مكانه ومبادرته للصلاة، فلا يتخطى الرقاب، ولا يُفرق بين اثنين.
ونرى بعض المصلين يسارع إلى الصفِّ الأول مثلاً، ويضع سجادته ليحجزَ بها مكاناً، ثم ينصرف لحَاجته، فإذا ما تأخر عن الصلاة أتى ليتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكانه، فإذا بالناس يضيِقون من هذا التصرُّف، ويُنحُّون سجادته جانباً ويجلسون مكانها، إنه تصرُّف لا يليق ببيوت الله التي تُسوِّي بين خَلْق الله جميعاً، وتحقق استطراق العبودية لله، فأنت اليوم بجوار فلان، وغداً بجوار آخر، الجميع خاضع لله راكع وساجد، فليس لأحد أن يتعالى على أحد.
ونرى كذلك استطراق العبودية واضحاً في مناسك الحج، حيث يأتي أحد العظماء والوجهاء فتراه عند الملتزم خاضعاً ذليلاً باكياً متضرعاً، وهو مَنْ هو في دُنْيا الناس.
إذن: فوقت الفجر وقت مبارك مشهود، تشهده ملائكة الليل، وهم غير مُكلَّفين بالصلاة، فالأفضل من مَشْهدية الملائكة مَشْهدية المصلِّين الذين كلَّفهم الله بالصلاة، وجعلهم ينتفعون بها.
ومن هنا كانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
ويجب أن نلتفت إلى أن الحق سبحانه ربط الصلوات الخمس بالوقت، وبآية كونية تدلُّ عليه هي الشمس، فكيف العمل إذا غابت، أو حُجِبَتْ عنَّا بغيْم أو نحوه؟
إذن: على الإنسان المؤمن أن يجتهد ويُعمِلَ تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته، وفعلاً تفتقتْ القرائح عن آلات ضبط الوقت الموجودة الآن، والتي تُيسِّر كثيراً على الناس؛ لذلك كانت الطموحات الإنسانية لأشياء تخدم الدين وتوضح معالمه أمراً واجباً على علماء المسلمين، على اعتبار أن مَا لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً )٧٩-الإسراء
الهجود: هو النوم، وتهجَّد: أي أزاح النوم والهجود عن نفسه، وهذه خصوصية لرسول الله وزيادة على ما فرض على أمته، أنْ يتهجَّد لله في الليل، كما قال له ربه تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } [المزمل: 1-4].
فهذه الخصوصية لرسول الله وإنْ كانت فَرْضاً عليه، إلا أنها ليست في قالب من حديد، بل له صلى الله عليه وسلم مساحة من الحرية في هذه العبادة، المهم أن يقوم لله تعالى جزءاً من الليل، لكن ما عِلَّة هذه الزيادة في حَقِّ رسول الله؟ العلة في قوله تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5].
وكأن التهجُّد ليلاً، والوقوف بين يدي الله في هذا الوقت سيعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة والطاقة اللازمة للقيام بهذه المسئولية الملقاة على عاتقه، ألاَ وهي مسئولية حَمْل المنهج وتبليغه للناس.
وفي الحديث الشريف "أن رسول الله كان كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة" ، ومعنى حَزَبه أَمْر: أي: ضاقت أسبابه عنه، ولم يَعُد له فيه منفذ، فإنْ ضاقت عليه الأسباب فليس أمامه إلا المسبِّب سبحانه يلجأ إليه ويُهْرع إلى نجدته { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [المزمل: 6].
لأنك في الوقت الذي ينام فيه الناس ويخلدون إلى الراحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة، تقوم بين يدي ربك مناجياً مُتضرِّعاً، فتتنزل عليك منه الرحمات والفيوضات، فَمَنْ قام من الناس في هذا الوقت واقتدى بك فَلَهُ نصيب من هذه الرحمات، وحَظٌّ من هذه الفيوضات. ومَنْ تثاقلتْ رأسه عن القيام فلا حَظَّ له.
إذن: في قيام الليل قوة إيمانية وطاقة روحية، ولما كانت مهمة الرسول فوق مهمة الخَلْق كان حظّه من قيام الليل أزيد من حظهم، فأعباء الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، والعِبْءُ الثقيل يحتاج الاتصال بالحق الأحد القيوم، حتى يستعين بلقاء ربه على قضاء مصالحه.
ومن العجيب أن ينصرف المسلمون عن هذه السُّنة، ويتغافلون عنها، فإذا حزبهم أمر لا يُهْرَعون إلى الصلاة، بل يتعللون، يقول أحدهم: أنا مشغول. وهل شغل الدنيا مبرر للتهاون في هذه الفريضة؟ ومَنْ يدريك لعلك بالصلاة تُفتح لك الأبواب، وتقضى في ساعة ما لا تقضيه في عدة أيام.
ونقول لهؤلاء الذين يتهاونون في الصلاة وتشغلهم الدنيا عنها، فإنْ صَلُّوا صَلُّوا قضاءً، فإن سألتَهم قالوا: المشاغل كثيرة والوقت لا يكفي، فهل إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته، هل سيجد وقتاً لهذا؟ إنه لا شكَّ واجدٌ الوقت لمثل هذا الأمر، حتى وإنْ تكالبتْ عليه مشاغل الدنيا، فلماذا الصلاة هي التي لا تجد لها وقتاً؟!
وقوله تعالى: { نَافِلَةً لَّكَ .. } [الإسراء: 79].
النافلة هي الزيادة عما فرض على الجميع (لك) أي: خاصة بك دون غيرك، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله عنه: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 15-16].
والمحسن هو الذي دخل مقام الإحسان، بأن يزيد على ما فرضه الله عليه، ومن جنس ما فرض؛ لذلك جاءت حيثية الإحسان: { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 17-18].
وهذا المقام ليس فرضاً عليك، فلك أن تصلي العشاء وتنام حتى صلاة الفجر، لكن إنْ أردت أن تتأسَّى برسول الله وتتشبّه به فادخُلْ في مقام الإحسان على قَدْر استطاعتك.
ثم يقول تعالى: { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [الإسراء: 79].
تحدثتْ الآية في أولها عن التكليف، وهذا هو الجزاء، و{ عَسَىٰ } تدل على رجاء حدوث الفعل، وفَرْق بين التمني والرجاء، التمني: أن تعلن أنك تحب شيئاً لكنه غير ممكن الحدوث أو مستحيل، ومن ذلك قول الشاعر:
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو ليِ فَأنْظِمُهَا
فالشاعر يتمنى لو أصبحت الكواكب بين يديه فينظمها قصائد مدح فيمن يمدحه، وهذا أمر مستحيل الحدوث.
وقوله:
أَلاَ لَيْتَ الشَّباب يعُودُ يَوْماًفَأُخبرُه بِمَا فَعَلَ المشيِبُ
أما الرجاء فهو طلب فعل ممكن الحدوث.
ويقع تحت الطلب أشياء متعددة؛ فإنْ طلب المتكلم من المخاطب شيئاً غير ممكن الحدوث فهو تمنٍّ، وإن طلب شيئاً ممكن الحدوث فهو ترجٍّ، وإنْ طلب صورة الشيء لا حقيقته فهو استفهام كما تقول: أين زيد؟ وفَرْقٌ بين طلب الحقيقة وطلب الصورة.
فإنْ طلبتَ حقيقة الشيء، فأمامك حالتان: إما أنْ تطلب الحقيقة على أنها تُفعل فهذا أمر، مثل: قُمْ: فإنْ طلبتها على أنها لا تفعل فهذا نهي: لا تَقُمْ.
إذن: { عَسَىٰ } تدل على الرجاء، وهو يختلف باختلاف المرجو منه، فإنْ رجوت من فلان فقد يعطيك أو يخذلك، فإنْ قُلْتَ: عسى أنْ أعطيك فقد قربت الرجاء؛ لأنني أرجو من نفسي، لكن الإنسان بطبعه صاحب أغيار، ويمكن أن تطرأ عليه ظروف فلا يَفِي بما وعد.
فإنْ قُلْت: عسى الله أن يعطيك، فهو أقوى الرجاء؛ لأنك رجوتَ مَنْ لا يُعجِزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولا تتناوله الأغيار إذن: فالرجاء فيه مُحقَّق لاَ شَكَّ فيه.
والمقام المحمود، كلمة محمود: أي الذي يقع عليه الحمد، والحمد هنا مشاع فلم يَقُلْ: محمود مِمَّنْ؟ فهو محمود مِمَّنْ يمكن أن يتأتّى منه الحمد، محمود من الكل من لَدُنْ آدم، وحتى قيام الساعة.
والمراد بالمقام المحمود: هو مقام الشفاعة، حينما يقف الخَلْق في ساحة الحساب وهَوْل الموقف وشِدّته، حتى ليتمنى الناس الانصراف ولو إلى النار، ساعتها تستشفع كُلُّ أمة بنبيها، فيردّها إلى أنْ يذهبوا إلى خاتم المرسلين وسيد الأنبياء، فيقول: أنا لها، أنا لها.
لذلك أمرنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء: "وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته" ولا شَكَّ أنه دعاء لصالحنا نحن.
نداء الايمان
الاسراء٧٨_٧٩
(أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً )٧٨-الإسراء
فالصلاة هي الفريضة الثابتة المتكررة التي لا تسقط عن المسلم بأي حال، وفيها إعلانُ ولاء للإيمان بالله كل يوم خمس مرات
وهي أيضاً تنتظم كل أركان الإسلام؛
لأنك في الصلاة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبدل أنْ كنتَ تقولها مرة واحدة ها أنت تقولها عدة مرات في كل صلاة، وهذا هو الركن الأول.
كما أنها تشتمل على الصوم؛ لأنك تصوم في أثناء الصلاة فتمتنع عن شهوتَيْ البطن والفرج، وكذلك عن أيِّ فعل غير أفعال الصلاة، وعن الكلام في غير ألفاظ الصلاة. إذن: في الصلاة صيام بالمعنى الأوسع للصوم.
وفي الصلاة زكاة؛ لأن المال الذي تكتسبه وتُزكِّيه ناتج عن الحركة، والحركة فرع الوقت، وفي الصلاة تُضحّي بالوقت نفسه، فكأن الزكاة في الصلاة أبلغ.
وكذلك في الصلاة حج؛ لأنك تتوجّه فيها إلى كعبة الله، وتستحضرها في ذِهْنك وأمام ناظريْكَ.
لذلك استحقت الصلاة أن تكون عماد الدين، مَنْ أقامها فقد أقام الدين، ومَنْ هدمها فقد هدم الدين، ومن هنا جاءت الصلاة في أول هذه الأحكام، فقال تعالى: { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ .. } [الإسراء: 78] أي: أدِّها أداءً كاملاً في أوقاتها.
والصلاة لها مَيْزة عن كل أركان الإسلام؛ لأن كل تكليفات الإسلام جاءت بواسطة الوحي لرسول الله إلا الصلاة، فقد فُرِضَتْ بالمباشرة مما يدلُّ على أهميتها، وقد مثَّلنَا لذلك - ولله المثل الأعلى - بالرئيس الذي يتصل بمرؤوسه تليفونياً ليأمره بشيء، فإذا كان هذا الشيء من الأهمية بمكان استدعاه إليه وأفهمه ما يريد.
وهكذا كانت الصلاة، فقد فُرِضَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالمباشرة لما لها من أهمية بين فراض الدين، ثم تولى جبريل عليه السلام تعليم رسول الله الصلاة، وعَلَّمها رسول الله للناس، وقال: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي" .
وقوله تعالى: { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ .. } [الإسراء: 78].
الحق سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا مواقيت الصلاة. و(الدلوك) معناه: الزوال من حركة إلى حركة، ومنها قولنا: فلان (المدلكاتي) أي: الذي يتولّى عملية التدليك، وتتحرك يده من مكان لمكان.
والمراد بدلوك الشمس: مَيْلها عن وسط السماء إلى ناحية الغرب، والإنسان يرى الأفق الواسع إذا نظر إلى السماء، فيراها على شكل قوس ممتدّ وعلى حَسْب نظره وقوته يرى الأفق، فإنْ كان نظره قوياً رأى الأُفُقْ واسعاً، وإنْ كان نظره ضعيفاً رأى الأفق ضيّقاً؛ لذلك يقولون لقليل التفكير: ضيِّق الأفق.
وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السماء تراها على شكل نصف دائرة، وأنت مركزها، وساعةَ أنْ ترى الشمس عمودية عليك، فهذا وقت الزوال، فإذا ما انحرفتْ الشمس ناحية المغرب يُقَال: دلكت الشمس. أي: مالت ناحية المغرب، وهذا هو وقت الظهر.
والمتأمل في فَرْض الصلاة على رسول الله يجد أن الظُّهْر هو أول وقت صَلاَّه رسول الله؛ لأن الصلاة فُرِضَتْ عليه في السماء في رحلة المعراج، وكانت بليل، فلما عاد صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الظهر، فكانت هي الصلاة الأولى.
ثم يقول تعالى: { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ .. } [الإسراء: 78] أي: أقِم الصلاة عند دُلوك الشمس إلى متى؟ إلى غَسَق الليل أي: ظُلْمته
وفي الفترة من دُلوك الشمس إلى ظُلمة الليل تقع صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولا يبقى إلى صلاة الصبح، فقال عنها سبحانه وتعالى: { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء: 78]
ونتساءل هنا: لماذا ذكر قرآن الفجر ولم يَقُلْ صلاة؟
قالوا: لأن القرآن في هذا الوقت حيث سكون الكون وصفاء النفوس، فتتلقى القرآن نديّاً طريّاً وتستقبله استقبالاً واعياً قبل أن تنشغل بأمور الحياة { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء: 78].
أي: تشهده الملائكة. إذن: المشهودية لها دَخْل في العبادة، فإذا كانت مشهودية مَنْ لا تكليف عليه في الصلاة جعلها الله حيثية، فكيف بمشهودية مَنْ كُلِّف بالصلاة؟
والحق سبحانه وتعالى جعل في صلاة الجماعة استطراقاً للعبودية، ففي صلاة الجماعة يستوي كل الخَلْق حيث يخلعون وجاهتهم، ويخلعون أقدارهم على أبواب المسجد، كما يخلعون أحذيتهم، فالرئيس بجانب المرؤوس والوزير بجانب الخفير.
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُوطِّن الإنسان لنفسه مكاناً في المسجد، يجلس فيه باستمرار؛ لأن الأصل أنْ يجلس المصلي حيث ينتهي به المجلس، فيجلس الناس بأولوية الحضور كل حَسْب مكانه ومبادرته للصلاة، فلا يتخطى الرقاب، ولا يُفرق بين اثنين.
ونرى بعض المصلين يسارع إلى الصفِّ الأول مثلاً، ويضع سجادته ليحجزَ بها مكاناً، ثم ينصرف لحَاجته، فإذا ما تأخر عن الصلاة أتى ليتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكانه، فإذا بالناس يضيِقون من هذا التصرُّف، ويُنحُّون سجادته جانباً ويجلسون مكانها، إنه تصرُّف لا يليق ببيوت الله التي تُسوِّي بين خَلْق الله جميعاً، وتحقق استطراق العبودية لله، فأنت اليوم بجوار فلان، وغداً بجوار آخر، الجميع خاضع لله راكع وساجد، فليس لأحد أن يتعالى على أحد.
ونرى كذلك استطراق العبودية واضحاً في مناسك الحج، حيث يأتي أحد العظماء والوجهاء فتراه عند الملتزم خاضعاً ذليلاً باكياً متضرعاً، وهو مَنْ هو في دُنْيا الناس.
إذن: فوقت الفجر وقت مبارك مشهود، تشهده ملائكة الليل، وهم غير مُكلَّفين بالصلاة، فالأفضل من مَشْهدية الملائكة مَشْهدية المصلِّين الذين كلَّفهم الله بالصلاة، وجعلهم ينتفعون بها.
ومن هنا كانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
ويجب أن نلتفت إلى أن الحق سبحانه ربط الصلوات الخمس بالوقت، وبآية كونية تدلُّ عليه هي الشمس، فكيف العمل إذا غابت، أو حُجِبَتْ عنَّا بغيْم أو نحوه؟
إذن: على الإنسان المؤمن أن يجتهد ويُعمِلَ تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته، وفعلاً تفتقتْ القرائح عن آلات ضبط الوقت الموجودة الآن، والتي تُيسِّر كثيراً على الناس؛ لذلك كانت الطموحات الإنسانية لأشياء تخدم الدين وتوضح معالمه أمراً واجباً على علماء المسلمين، على اعتبار أن مَا لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً )٧٩-الإسراء
الهجود: هو النوم، وتهجَّد: أي أزاح النوم والهجود عن نفسه، وهذه خصوصية لرسول الله وزيادة على ما فرض على أمته، أنْ يتهجَّد لله في الليل، كما قال له ربه تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } [المزمل: 1-4].
فهذه الخصوصية لرسول الله وإنْ كانت فَرْضاً عليه، إلا أنها ليست في قالب من حديد، بل له صلى الله عليه وسلم مساحة من الحرية في هذه العبادة، المهم أن يقوم لله تعالى جزءاً من الليل، لكن ما عِلَّة هذه الزيادة في حَقِّ رسول الله؟ العلة في قوله تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5].
وكأن التهجُّد ليلاً، والوقوف بين يدي الله في هذا الوقت سيعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة والطاقة اللازمة للقيام بهذه المسئولية الملقاة على عاتقه، ألاَ وهي مسئولية حَمْل المنهج وتبليغه للناس.
وفي الحديث الشريف "أن رسول الله كان كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة" ، ومعنى حَزَبه أَمْر: أي: ضاقت أسبابه عنه، ولم يَعُد له فيه منفذ، فإنْ ضاقت عليه الأسباب فليس أمامه إلا المسبِّب سبحانه يلجأ إليه ويُهْرع إلى نجدته { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [المزمل: 6].
لأنك في الوقت الذي ينام فيه الناس ويخلدون إلى الراحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة، تقوم بين يدي ربك مناجياً مُتضرِّعاً، فتتنزل عليك منه الرحمات والفيوضات، فَمَنْ قام من الناس في هذا الوقت واقتدى بك فَلَهُ نصيب من هذه الرحمات، وحَظٌّ من هذه الفيوضات. ومَنْ تثاقلتْ رأسه عن القيام فلا حَظَّ له.
إذن: في قيام الليل قوة إيمانية وطاقة روحية، ولما كانت مهمة الرسول فوق مهمة الخَلْق كان حظّه من قيام الليل أزيد من حظهم، فأعباء الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، والعِبْءُ الثقيل يحتاج الاتصال بالحق الأحد القيوم، حتى يستعين بلقاء ربه على قضاء مصالحه.
ومن العجيب أن ينصرف المسلمون عن هذه السُّنة، ويتغافلون عنها، فإذا حزبهم أمر لا يُهْرَعون إلى الصلاة، بل يتعللون، يقول أحدهم: أنا مشغول. وهل شغل الدنيا مبرر للتهاون في هذه الفريضة؟ ومَنْ يدريك لعلك بالصلاة تُفتح لك الأبواب، وتقضى في ساعة ما لا تقضيه في عدة أيام.
ونقول لهؤلاء الذين يتهاونون في الصلاة وتشغلهم الدنيا عنها، فإنْ صَلُّوا صَلُّوا قضاءً، فإن سألتَهم قالوا: المشاغل كثيرة والوقت لا يكفي، فهل إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته، هل سيجد وقتاً لهذا؟ إنه لا شكَّ واجدٌ الوقت لمثل هذا الأمر، حتى وإنْ تكالبتْ عليه مشاغل الدنيا، فلماذا الصلاة هي التي لا تجد لها وقتاً؟!
وقوله تعالى: { نَافِلَةً لَّكَ .. } [الإسراء: 79].
النافلة هي الزيادة عما فرض على الجميع (لك) أي: خاصة بك دون غيرك، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله عنه: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 15-16].
والمحسن هو الذي دخل مقام الإحسان، بأن يزيد على ما فرضه الله عليه، ومن جنس ما فرض؛ لذلك جاءت حيثية الإحسان: { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 17-18].
وهذا المقام ليس فرضاً عليك، فلك أن تصلي العشاء وتنام حتى صلاة الفجر، لكن إنْ أردت أن تتأسَّى برسول الله وتتشبّه به فادخُلْ في مقام الإحسان على قَدْر استطاعتك.
ثم يقول تعالى: { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [الإسراء: 79].
تحدثتْ الآية في أولها عن التكليف، وهذا هو الجزاء، و{ عَسَىٰ } تدل على رجاء حدوث الفعل، وفَرْق بين التمني والرجاء، التمني: أن تعلن أنك تحب شيئاً لكنه غير ممكن الحدوث أو مستحيل، ومن ذلك قول الشاعر:
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو ليِ فَأنْظِمُهَا
فالشاعر يتمنى لو أصبحت الكواكب بين يديه فينظمها قصائد مدح فيمن يمدحه، وهذا أمر مستحيل الحدوث.
وقوله:
أَلاَ لَيْتَ الشَّباب يعُودُ يَوْماًفَأُخبرُه بِمَا فَعَلَ المشيِبُ
أما الرجاء فهو طلب فعل ممكن الحدوث.
ويقع تحت الطلب أشياء متعددة؛ فإنْ طلب المتكلم من المخاطب شيئاً غير ممكن الحدوث فهو تمنٍّ، وإن طلب شيئاً ممكن الحدوث فهو ترجٍّ، وإنْ طلب صورة الشيء لا حقيقته فهو استفهام كما تقول: أين زيد؟ وفَرْقٌ بين طلب الحقيقة وطلب الصورة.
فإنْ طلبتَ حقيقة الشيء، فأمامك حالتان: إما أنْ تطلب الحقيقة على أنها تُفعل فهذا أمر، مثل: قُمْ: فإنْ طلبتها على أنها لا تفعل فهذا نهي: لا تَقُمْ.
إذن: { عَسَىٰ } تدل على الرجاء، وهو يختلف باختلاف المرجو منه، فإنْ رجوت من فلان فقد يعطيك أو يخذلك، فإنْ قُلْتَ: عسى أنْ أعطيك فقد قربت الرجاء؛ لأنني أرجو من نفسي، لكن الإنسان بطبعه صاحب أغيار، ويمكن أن تطرأ عليه ظروف فلا يَفِي بما وعد.
فإنْ قُلْت: عسى الله أن يعطيك، فهو أقوى الرجاء؛ لأنك رجوتَ مَنْ لا يُعجِزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولا تتناوله الأغيار إذن: فالرجاء فيه مُحقَّق لاَ شَكَّ فيه.
والمقام المحمود، كلمة محمود: أي الذي يقع عليه الحمد، والحمد هنا مشاع فلم يَقُلْ: محمود مِمَّنْ؟ فهو محمود مِمَّنْ يمكن أن يتأتّى منه الحمد، محمود من الكل من لَدُنْ آدم، وحتى قيام الساعة.
والمراد بالمقام المحمود: هو مقام الشفاعة، حينما يقف الخَلْق في ساحة الحساب وهَوْل الموقف وشِدّته، حتى ليتمنى الناس الانصراف ولو إلى النار، ساعتها تستشفع كُلُّ أمة بنبيها، فيردّها إلى أنْ يذهبوا إلى خاتم المرسلين وسيد الأنبياء، فيقول: أنا لها، أنا لها.
لذلك أمرنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء: "وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته" ولا شَكَّ أنه دعاء لصالحنا نحن.
نداء الايمان