ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}
أقوال العلماء في تفسير الآية موضوع المقال:
لابن القيم رحمه الله في تفسيره كلامٌ نفيسٌ حول الآية موضوع المقال، ولأهميته سأعرضه باختصار وتصرف؛ قال رحمه الله: "في هذه الآية عدة حِكَمٍ وأسرار، ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علِم أن المكروهَ قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيَه المضرَّة من جانب المسرَّة، ولم ييأس أن تأتيَه المسرة من جانب المضرة؛ لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد، ومن الحِكَمِ والأسرار ما يلي:
• أنه لا أنفعَ للعبد من امتثال أمر ربه، وإن شقَّ عليه في الابتداء؛ لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات، ولذَّات وأفراح، وإن كرِهته نفسه، فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضرُّ عليه من ارتكاب المنهي، وإن هَوِيَتْهُ نفسه، ومالت إليه، وأن عواقبه كلها آلام وأحزان، وشرور ومصائب، وخاصة العاقل يتحمل الألم اليسير لِما يعقُبه من اللذة العظيمة، والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لِما يعقبها من الألم العظيم، والشر الطويل.
• أنها تقتضي من العبد التفويضَ إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقتضيه له؛ لِما يرجو من حسن العاقبة.
• أنه إذا فوَّض العبدُ الأمرَ إلى ربه، ورضِيَ بما يختاره له، أمدَّه فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عُرضة اختياره لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
•أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته وهلاكه فيه، وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئًا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره، فلا أنفع له من ذلك.
وقال السعدي رحمه الله: "إن العبد المؤمن إذا أحب أمرًا من الأمور فقيَّض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له، فالأوفق له في ذلك أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع؛ لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأقْدَرُ على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، فاللائق بكم أن تتمشَّوا مع أقداره، سواء سرَّتكم أو ساءتكم".
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "وهذا أيضًا كثيرًا ما يقع؛ يحب الإنسان شيئًا ويُلِحُّ فيه، ثم تكون العاقبة سيئة، نعم، والإنسان بمثل هذه الآية الكريمة يُسلِّي نفسه في كل ما يفوته مما يحبه، ويصبر نفسه في كل ما يناله مما يكرهه، كل شيء ينالك وأنت تكرهه فإنك تصبر نفسك: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وكل شيء يفوته ونفسك تطلبه تُسليها فتقول: ﴿ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وهذا هو الواقع، ولو أن الإنسان تأمل ما يجري لحياته اليومية، لَوجَدَ في ذلك شيئًا كثيرًا".
الملامح التربوية المستنبطة من الآية موضوع المقال:
أولًا: إن الله تعالى حكيم بالغُ الحكمة، ورحيم بعباده بالغُ الرحمة، فالأمر المكروه الذي يصيب العبد وامْتَعَضَتْ نفسه منه، وأصابها بسببه شيء من الهمِّ والضيق والكرب، حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت، قد يأتي من ورائه خيرٌ كثيرٌ، لا يعلم مداه إلا الله، فالكريم إذا أعطى أدهش؛ قال الشنقيطي رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، لم يصِف هذا الخير هنا بالكثرة، ووصفه بها في قوله: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]"، وجميلٌ تعليقُ محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره المنار على هذه الآية الكريمة، قال: "ومن الخير الكثير - بل أهمُّه وأعلاه - الأولاد النجباء، فرُبَّ امرأة يَمَلُّها زوجها ويكرهها، ثم يجيئه منها من تَقَرُّ به عينه من الأولاد النجباء، فيعلو قدرها عنده بذلك، ومنها أن يصلح حالها بصبره، وحسن معاشرته، فتكون أعظم أسباب هنائه في انتظام معيشته، وحسن خدمته، لا سيما إذا أُصيب بالأمراض، أو بالفقر والعَوز".
ثانيًا: تأكيدًا للملمح السابق بأن الله تعالى كريم بالغ الكرم، إذا أعطى أدهش، يعوِّض بالكثير بما لا يُتوقَّع في حالة عدم الجزع، وتفويض الأمر إليه سبحانه، والرضا بأقداره التي ملأت القلب ضيقًا وكربًا حال وقوعها؛ فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((*ما *من *مسلمٍ *تُصيبه *مصيبةٌ فيقول ما أمره الله: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، اللهم أجِرْني في مصيبتي، وأخْلِفْ لي خيرًا منها، إلا أخْلَفَ الله له خيرًا منها، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة؟ أولِ بيتٍ هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [صحيح مسلم، باب ما يُقال عند المصيبة، رقم: 918]، ولذلك شواهد كثيرة في حياتنا الاجتماعية، فمن نظر وتأمل أحوال الناس عند الرضا بما يقع عليهم من مصائب، كانت حال وقوعها كالجبال على رؤوسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فاسترجعوا - قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون - وفوَّضوا أمرهم إلى ربهم سبحانه، فعوَّضهم الخير الكثير، وكما قيل: المعوِّض كريم.
ثالثًا: إن حياة الإنسان وما يصيبه فيها في مجملها قائمة على سنة الابتلاء، فمن أدرك هذه السنة وفَقِهها بكل جوانبها، فقد أزال عن نفسه غَبَشًا قد يتسبَّب في تنغيص حياته، وقد أشار القرآن الكريم في مواضع شتى إلى سنة الابتلاء؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]؛ قال البغوي رحمه الله: "﴿ وَنَبْلُوكُمْ ﴾ نختبركم بالشر والخير؛ بالشدة والرخاء، والصحة والسُّقم، والغِنى والفقر، وقيل: بما تحبون وما تكرهون، ﴿ فِتْنَةً ﴾ ابتلاءً؛ لننظر كيف شكركم فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون، ﴿ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾".
رابعًا: إن المسلم المتسلِّح بالإيمان يتميز عن غيره في التعامل مع سُنَّة الابتلاء خيرِهِ وشرِّهِ؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شَكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صَبَرَ، فكان خيرًا له))؛ [صحيح مسلم، رقم: 2999]؛ قال ابن عثيمين رحمه الله: "وكل إنسان فإنه في قضاء الله وقدره بين أمرين: مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن على كل حال ما قدَّر الله له، فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيرًا له، فنال بهذا أجرًا، وإن أصابته سراء من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل، شَكَرَ الله، وذلك بالقيام بطاعة الله عز وجل، فيشكر الله؛ فيكون خيرًا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا، نعمة الدنيا بالسراء، ونعمة الدين بالشكر، هذه حال المؤمن، فهو على خير، سواء أُصيب بضراء، وأما الكافر فهو على شر - والعياذ بالله - إن أصابته الضراء لم يصبر بل يتضجَّر، ودعا بالويل والثُّبور، وسبَّ الدَّهْرَ، وسبَّ الزَّمَنَ، بل وسب الله عز وجل ونعوذ بالله، وإن أصابته سراء لم يشكر الله، فكانت هذه السراء عقابًا عليه في الآخرة"؛ [انظر: شرح رياض الصالحين، باب الصبر، 1/ 197].
خامسًا: لما كان الإيمان حصنًا حصينًا، وركنًا ركينًا في مواجهة أمواج بحر الحياة العاتية، التي غالبًا ما تنغِّص على العبد حياته، وتُصيبه بالهم والضيق؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]؛ قال الشوكاني رحمه الله: "الكَبَد: الشدة والمشقة، والإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا، ومقاساة شدائدها حتى يموت؛ قال الحسن رحمه الله: يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة"، وجدير بالذكر الإشارة هنا إلى الوسائل المهمة لتقوية الإيمان؛ وقد ذكر ابن باز رحمه الله جملةً منها:
• تدبُّر القرآن الكريم والعناية بقراءته، والإكثار من ذلك، فمن تدبَّرَ القرآن قوِيَ إيمانه، واستقام دينه.
• العناية بالأحاديث وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاق الصحابة والأخيار، يسمع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله، وأعمال أصحابه، ونشاطهم في الخير، وخوفهم من الله عز وجل، حتى يتأسَّى بالأخيار يعمل كأعمالهم، ويجتهد في ذلك.
• محاسبة النفس وأن الموت يأتي بغتة، ماذا عمِل؟ ماذا قدَّم لآخرته؟ حتى يعُدَّ العُدَّة قبل أن يهجُم عليه الأجل؛ فإن محاسبة النفس والنظر فيما أعده العبد للآخرة مما يقوِّي إيمانه، ومما يعينه على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يعينه على البِدار بالتوبة إلى الله من سيئات أعماله وتقصيره.
• صحبة الأخيار؛ فيستفيد من أخلاقهم وعلمهم، ويذكرونه بالآخرة، ويعينونه على ذلك.
• حضور حلقات العلم يلتمسها ويحضرها ويستفيد منها، وكذلك يصغي عند سماع الخطب، خطب الجمعة وغيرها، حتى يرِقَّ قلبه ويَقْوَى إيمانه.
سادسًا: إن الإنسان كلما ارتقى في العلم والمعرفة بشرع الله تعالى والفقه في الدين، كان ذلك مظنة القدرة على مواجهة الابتلاء خيره وشره، فمن يعلم ليس كمن لا يعلم؛ وصدق الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]؛ قال السعدي رحمه الله: "﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9] ربَّهم، ويعلمون دينه الشرعيَّ، ودينه الجزائي، وما له في ذلك من الأسرار والحِكَمِ، ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9] شيئًا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء"؛ [انظر: مقال: ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9] للكاتب على موقع الألوكة].
سابعًا: إن المتبصِّر في دين الله تعالى وشرعه يحرص على تقوى الله تعالى، فيأتي ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه، فيعتني بأداء الفرائض وفي مقدمتها المحافظة على الصلوات الخمس جماعة، ويُكْثِر من النوافل بأنواعها، وفي مقدمتها قراءة القرآن الكريم، ولزوم الأذكار الشرعية في يومِهِ وليلِهِ، وكلما كان الإنسان من الله أقربَ بالمحافظة على أداء الفرائض، والإكثار من النوافل، كان من الله في حفظ ورعاية، وكانت حياته مستقرة في سعادة وسلامة، وعافية في أمر دينه ودنياه، بل في أحواله كلها؛ وصدق الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]؛ قال ابن كثير رحمه الله: "هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه، من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت".
ثامنًا: في كلام دقيق لابن القيم رحمه الله، قال: "فمن صحَّت له معرفة ربه، والفقه في أسمائه وصفاته، علِمَ يقينًا أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع، التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل *مصلحة *العبد *فيما *يكره *أعظم *منها *فيما *يحب؛ *فعامة *مصالح *النفوس *في *مكروهاتها، *كما *أن *عامة *مضارِّها *وأسباب *هَلَكَتِها *في *محبوباتها"؛ [الفوائد، ص: 133]، وفي سياق آخر قال رحمه الله: "ولو رُزِق من المعرفة حظًّا وافرًا، لعدَّ نعمة الله عليه فيما يكرهه أعظم من نعمته عليه فيما يحبه، كما قال بعض العارفين: يا بنَ آدم، نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب؛ وقد قال تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]"؛ [مدارج السالكين، ص: 540].
تاسعًا: هناك ملمح مهمٌّ؛ وهو أن بعض الناس قد يحصل له ما يكره، ويتقبله في بداية الأمر قبولًا طيبًا، ويحرص على الدعاء لرفع البلاء، ولكن لأمرٍ يريده الله تتأخر الإجابة، فيبدأ يشعر بالضعف واليأس، فيجد الشيطان فرصة مواتية، ومدخلًا مناسبًا يدخل منها، فيقنط المبتلى من رحمة الله، وهذا أمر جِدُّ خطير، ويخشى من عواقب لا تُحمَد عقباها، وقد جاءت الشريعة السمحة بالتحذير منه؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]؛ قال الطبري رحمه الله: "ومن ييأس من رحمة الله إلا القوم الذين قد أخطؤوا سبيل الصواب، وتركوا قصد السبيل في تركهم رجاء الله، ولا يخيب من رجاه؛ وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، قال الطبري رحمه الله: لا يقنط من فَرَجِهِ ورحمته، ويقطع رجاءه منه ﴿ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]؛ يعني: القوم الذين يجحدون قدرته على ما شاء تكوينه"، ويؤكد ابن عثيمين رحمه الله إلى خطورة القنوط من رحمة الله فيقول: "إن القنوط من رحمة الله من كبائر الذنوب، ولا تقنط من رحمة الله ولو تأخرت إجابة الدعاء، فأنت لا تدري ما هو الخير، ما أمرك الله تعالى بالدعاء، إلا وهو يريد أن يستجيب لك؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]"؛ [شرح رياض الصالحين، 292/4].
عاشرًا: يحتاج الإنسان بصفة دائمة أن يعتنيَ بتفقُّد أحواله وعلاقته مع خالقه سبحانه الذي أحسن إليه، فقد يكون في بعض الأحيان أنَّ ما أصابه في نفسه أو أهله أو ماله بسبب تقصيره في جنب الله تعالى، وانحرافه على المنهج الشرعي القويم، فالله جل جلاله عدلٌ وليس بظلَّام للعبيد؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]؛ قال السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وفيما يحبون ويكون عزيزًا عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو الله عنه أكثر، فإن الله لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون".
الحادي عشر: يمر الإنسان في حياته بمواقفَ وقراراتٍ مهمة في بعضها، قد يكون فيها تحديد مصير، فالواجب الاعتناء بالأسباب المشروعة قبل الإقدام على أي موقف، أو اتخاذ قرار، وفي مقدمة ذلك الحرص الشديد على الجمع بين الاستخارة، واستشارة أهل الخبرة والتخصص، ولا ينبئك مثل خبير، وكل ذلك مما ندبت إليه الشريعة السمحة، فإذا حصل بعدها ما يكره يجد لنفسه تبريرًا مريحًا، يخفف عنه قبول وطأة المكروه.
الثاني عشر: من لوازم مواجهة مواقف الحياة خيرها وشرها، البعدُ عن التشاؤم عند حصول المكروه، والواجب فتح أبواب التفاؤل والأمل على مصاريعها، والشريعة الإسلامية السمحة كرهت التشاؤم، وندبت إلى التفاؤل، وهذا منهج شرعي أصيل، ومن أجمل المواقف المعبِّرة عن التفاؤل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قولُه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو في غار ثور بمكة المكرمة، والمشركون على مقربة منهم للظَّفَر بهما، فحكى القرآن الكريم آية عظيمة قمة في التفاؤل، وحسن الظن بالله تعالى: ﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40]؛ وعلق محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره المنار على هذا الموقف، مؤكدًا أهمية استشعار المؤمن عظمةَ الله وقدرته وقت الشدائد، فقال: "﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]؛ أي: لا تحزن؛ لأن الله معنا بالنصر والمعونة، والحفظ والعصمة، والتأييد والرحمة، ومن كان الله تعالى معه بعزته التي لا تُغلَب، وقدرته التي لا تُقهَر، ورحمته التي قام ويقوم بها كل شيء، فهو حقيقٌ بألَّا يستسلم لحزن ولا خوف".
د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
شبكة الالوكة