لفظ (الابتلاء) في القرآن الكريم
الشبكة الإسلامية
ترجع مادة (البلاء) إلى الجذر (بلوي) قال ابن فارس: الباء، واللام، والواو، والياء، أصلان: أحدهما: إخلاق الشيء، والثاني: نوع من الاختبار، ويحمل عليه الإخبار أيضاً. فمن الأول قولهم: بَلِيَ يَبْلَى فهو بال. والبِلَى مصدره، يقال: بَلِيَ الثوب بِلَىً وبَلاء، أي: خَلُق. وبقال: ناقة بِلْوُ سَفَر، مثل نِضْو سفر، وبِلْيُ سَفَر، أي: قد أبلاها السفر. ومن الثاني قولهم: بُلِيَ الإنسان وابْتُلِيَ، وهذا من الامتحان، وهو الاختبار، وبلوته: اختبرته، كأني أخلقته من كثرة اختباري له. وبلوتُ فلاناً: إذا اختبرته، وسُمي الغم بلاء من حيث إنه يَبْلي الجسم. ويكون البلاء في الخير والشر، قال سبحانه: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}[الأنبياء:35] فالله تعالى يُبْلِي العبد بلاء حسناً، وبلاء سيئاً، وهو يرجع إلى هذا؛ لأن بذلك يُخْتَبَرُ في صبره وشكره، غير أن الأكثر في (الشر) أن يقال: بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاء، وبلاء. وقولهم: أبليت فلاناً عذراً، أي: أعلمته وبينته فيما بيني وبينه، فلا لوم عليَّ بعد. وتقول العرب: أبلني كذا، أي: أخبرني، فيقول الآخر: لا أُبليك. ويقال: ابتليته، فأبلاني، أي: استخبرته فأخبرني.
قال الراغب الأصفهاني: "وإذا قيل: ابتلى فلان كذا وأبلاه، فذلك يتضمن أمرين: أحدهما: تعرف حاله، والوقوف على ما يُجْهَلُ من أمره. والثاني: ظهور جودته ورداءته، وربما قُصِد به الأمران، وربما يُقْصَد به أحدهما، فإذا قيل في الله تعالى: بلاه بكذا، وأبلاه، فليس المراد منه إلا ظهور جودته ورداءته، دون التعرف لحاله، والوقوف على ما يُجْهَلُ من أمره؛ إذ كان الله علَّام الغيوب، وعلى هذا قوله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}[البقرة:124].
وسمي (التكليف) بلاء من أوجه:
أحدها: أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان، فصارت من هذا الوجه بلاء.
الثاني: أنها اختبارات، ولهذا قال الله عز وجل: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم}[محمد:31].
الثالث: أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسارِّ ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر رضي الله عنه: (بُلِينا بالضراء فصبرنا، وبُلينا بالسراء فلم نشكر).
ولفظ (الابتلاء) بمشتقاته ورد في القرآن الكريم في ثمانية وثلاثين موضعاً (38) جاء في ثلاثين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}[الملك:2]، وورد في ثمانية مواضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله سبحانه في حق بني إسرائيل: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}[البقرة:49] ومثلها في الأعراف، وإبراهيم.
ولفظ (الابتلاء) بمشتقاته ورد في القرآن الكريم على معنيين اثنين:
الأول: الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان، ومنه قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات}[البقرة:124] أي: وإذا اختبر، وكان اختبار الله تعالى إبراهيم، اختباراً بفرائض فرضها عليه، وأمرٍ أمره به، وذلك هو (الكلمات) التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحاناً منه له، واختباراً. ونحو هذا قوله عز من قائل: {وابتلوا اليتامى}[النساء:6] يعني به: اختبروا عقول يتاماكم في أفهامهم، وصلاحهم في أديانهم، وإصلاحهم أموالهم. ومنه أيضاً قوله عز وجل: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}[الأعراف:168] يقول تعالى: اختبرناهم. وبحسب هذا المعنى كذلك قوله سبحانه: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات}[البقرة:155] أي: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم، وبسَنَةٍ تصيبكم، ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، فتنقص لذلك أموالكم، وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار، فينقص لها عددكم، وموت ذراريكم وأولادكم، وجدوب تحدث، فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب. ومثله قوله عز وجل: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}[الأنبياء:35] أي: ونختبركم أيها الناس {بالشر} وهو الشدة، نبتليكم بها، وبـ (الخير) وهو الرخاء والسعة، فنفتنكم به. و(الابتلاء) بمعنى الاختبار والامتحان ورد كثيراً في القرآن.
وقد قال الطبري عند قوله عز وجل: {وليبتلي الله ما في صدوركم} [آل عمران:154] قال: وإن كان (الابتلاء) في ظاهر الكلام مضافاً إلى الله الوصف به، فمراد به أولياؤه وأهل طاعته، وأن معنى ذلك: وليختبر أولياء الله، وأهل طاعته الذي في صدوركم من الشك والمرض، فيعرفوكم، فيميزوكم من أهل الإخلاص واليقين.
الثاني: الابتلاء بمعنى النعمة، من ذلك قوله تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا}[الأنفال:18] البلاء ها هنا النعمة، كي يُنْعِمَ على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم، ويُغْنِمَهم ما معهم، ويكتب لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الطبري: "ويعني بـ (البلاء الحسن) النعمة الحسنة الجميلة". ووفق هذا المعنى قوله عز من قائل مخاطباً بني إسرائيل: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}[البقرة:49] يعني بقوله: {بلاء} نعمة؛ والمعنى: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائناكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم، بلاء لكم من ربكم عظيم. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: {بلاء من ربكم عظيم} قال: نعمة. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}[الأعراف:141] أي: وفي سومهم إياكم سوء العذاب، اختبار من الله لكم، ونعمة عظيمة. وقوله عز وجل: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}[إبراهيم:6] قال الطبري: "قد يكون (البلاء) في هذا الموضع نعماء، ويكون: من البلاء الذي يصيب الناس من الشدائد".
أما قوله سبحانه في قصة إبراهيم عندما أُمر بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام: {إن هذا لهو البلاء المبين}[الصافات:106] فقد ذهب الطبري وابن عاشور إلى أن (البلاء) هنا بمعنى الاختبار، والمعنى: إن هذا التكليف الذي كلفناك هو الاختبار البين، أي: الظاهر دلالة على مرتبة عظيمة من امتثال أمر الله. وذهب ابن زيد إلى أن (البلاء) هنا بمعنى الشر، قال: "و(البلاء) في هذا الموضع الشر، وليس باختبار". وذهب القرطبي إلى أن (البلاء) في الآية بمعنى النعمة، أي: إن ما ابتلى الله به إبراهيم من أمره بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام هو النعمة الظاهرة.
وقوله عز شأنه في بني إسرائيل: {وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}[الدخان:33] الابتلاء هنا قد يراد به (النعمة) وقد يراد به (الشدة) فهو محتمل للمعنيين، قال الطبري: "أخبر سبحانه أنه آتى بني إسرائيل من الآيات ما فيه ابتلاؤهم واختبارهم، وقد يكون الابتلاء والاختبار بالرخاء، ويكون بالشدة" فيكون المعنى على حدِّ قوله سبحانه: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة}[الأنبياء:35].
مما سبق يتبين أن لفظ (الابتلاء) أكثر ما ورد في القرآن الكريم بمعنى الاختبار والامتحان، وورد بدرجة أقل بمعنى النعمة والمنحة، وجاء في بعض المواضع ما يحتمل المعنيين.
لفظ (غفر) في القرآن الكريم
الشبكة الإسلامية
أصل مادة (غفر) التغطية والستر، فكل ساتر شيئاً فهو غافره. ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنَّة للرأس: مِغْفَر؛ لأنها تغطي الرأس وتجنَّه. ومثله (غِمْدُ السيف) وهو ما تغمَّده فواراه. ومنه قول أوس بن حجر:
فلا أعتب ابن العم إن كان جاهلاً وأغفر عنه الجهل إن كان أجهلا
يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه.
وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات": "الغَفْر: إلباس ما يصونه عن الدنس، ومنه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء، واصبغ ثوبك، فإنه أغفر للوسخ".
و(الغفران) و(الغَفْر) بمعنى. يقال: غفر الله ذنبه غَفْراً، ومغفرة، وغُفْراناً. و(الغفران) و(المغفرة) من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب. و(الاستغفار) طلب ذلك بالمقال، والفعال. و(الغفران) تغطية الذنب بالعفو عنه. و(الغفيرة) الغفران.
ولفظ (غفر) ومشتقاته ورد في القرآن الكريم في ثلاثة وثلاثين ومائتي موضع (233) جاء في تسعة وعشرين ومائة (129) موضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله تعالى: {إن الله غفور رحيم} [البقرة:173] و(الغفور) اسم من أسماء الله سبحانه، وقد ورد اسم (الغفور) في القرآن الكريم في واحد وسبعين موضعاً، وهو أكثر ما تكرر في القرآن من مشتقات مادة (غفر) بصيغة الاسم. وجاء لفظ (غفر) في أربعة ومائة (104) موضع بصيغة الفعل من ذلك قوله تعالى: {يغفر لمن يشاء} [آل عمران:129] والفعل {يغفر} الأكثر تكراراً من مشتقات الفعل (غفر) بصيغة الفعل، حيث تكرر في ثلاثة وثلاثين موضعاً.
ولفظ (غفر) ومشتقاته ورد في القرآن الكريم على معان، منها:
الاستغفار نفسه وهو طلب المغفرة، جاء وفق هذا المعنى قوله تعالى في قصة النبي يوسف عليه الصلاة والسلام والمرأة التي راودته عن نفسها: {واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} أي: {واستغفري} أنتِ زوجَك، وسليه أن لا يعاقبك على ذنبك الذي أذنبتِ، وأن يصفح عنه، فيستره عليكِ.
ومثله قوله تعالى: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا} [نوح:10] أي: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم، وعبادة ما سواه من الآلهة، ووحِّدوه، وأخلصوا له العبادة، يغفر لكم، إنه كان غفاراً لذنوب من أناب إليه، وتاب إليه من ذنوبه. ومن هذا البابة قوله عز من قائل: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة:80] معناه: إن تسأل لهم أن تستر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها، وترك فضيحتهم بها، فلن يستر الله عليهم، ولن يعفو لهم عنها، ولكنه يفضحهم بها على رءوس الأشهاد يوم القيامة. و(الاستغفار) وفق هذا المعنى كثير في القرآن.
* الاستغفار بمعنى ترك الشرك، جاء على ذلك قوله عز وجل: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود:90] أي: استغفروا من ذنوبكم بينكم وبين ربكم، التي أنتم عليها مقيمون، من عبادة الآلهة والأصنام، وبَخْس الناس حقوقهم في المكاييل والموازين. ونحو هذا قول الباري سبحانه: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال:33] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون: "لبيك، لبيك، لا شريك لك"، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " «قد قد» !" فيقولون: "إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"، ويقولون: "غفرانك، غفرانك!" فأنزل الله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله، والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي الاستغفار.
وقال ابن عاشور: هو وعد بأن التوبة من الشرك تدفع عنهم العذاب، وتكون لهم أمناً، وذلك هو المراد بالاستغفار؛ إذ من البيِّن أن ليس المراد بـ {يستغفرون} أنهم يقولون: غفرانك اللهم ونحوه؛ إذ لا عبرة بالاستغفار بالقول، والعمل يخالفه، فيكون قوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} تحريضاً؛ وذلك في الاستغفار، وتلقيناً للتوبة، زيادة في الإعذار لهم على معنى قوله سبحانه: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء:147].
هذا، وقد قال القرطبي: إن (الاستغفار) هنا يراد به الإسلام، أي: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} أي، يسلمون، قاله مجاهد، وعكرمة.
- الاستغفار بمعنى الإيمان بالله، جاء بحسب هذا المعنى قوله سبحانه: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود:25] يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم. قال الطبري: "والاستغفار: هو الإيمان بالله في هذا الموضع؛ لأن هوداً صلى الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم، كما قال نوح لقومه: {اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} [نوح:3-4].
- الاستغفار بمعنى الصلاة، جاء وَفْق هذا المعنى قوله تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون} (الذاريات:18) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قوله: {وبالأسحار هم يستغفرون} قال: يصلون. وقال الضحاك في قوله سبحانه: {وبالأسحار هم يستغفرون} قال: يقومون فيصلون. وعن مجاهد {وبالأسحار هم يستغفرون} قال: يصلون.
- الاستغفار بمعنى الدعاء، جاء على ذلك قوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران:17] قال الطبري: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها. وعن قتادة: {والمستغفرين بالأسحار} قال: هم أهل الصلاة، يصلون بالأسحار.
- الاستغفار بمعنى الصفح والعفو، جاء على ذلك قوله سبحانه: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} [الجاثية:14] قال ابن عاشور: "قد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين، والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم، ولكن كان أكثر الآيات أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وكانت هذه أمراً له بأن يُبَلِّغ للمؤمنين ذلك، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه، وأحسوا بعزتهم، فأُمروا بالعفو، وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى". وقال الطبري: "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يُعْرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به، ويكذبونه، فأمره الله عز وجل أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ".
نَخْلُصُ على ضوء ما تقدم أن لفظ (غفر) بمشتقاته أكثر ما جاء في القرآن الكريم على معنى طلب المغفرة لأهل الذنوب والخطايا، وقد جاء على معان أُخَرَ؛ فجاء بمعنى ترك الشرك، وبمعنى الإيمان، وبمعنى الصلاة، وبمعنى الدعاء، وبمعنى الصفح والعفو. والله أجلُّ وأعلم.
لفظ (الناس) في القرآن الكريم
الشبكة الإسلامية
أصل مادة (الناس) (نوس) وهو أصل -كما في معجم مقاييس اللغة- يدل على اضطراب وتذبذب. وناس الشيء: تذبذب، ينوس. وقيل -كما ذكر الأصفهاني في مفردات القرآن- أن أصله (أُنَاس) فحذف فاؤه لما أُدخل عليه الألف واللام. وقيل غير ذلك. و(الناس) اسم للحيوان الآدمي. و(الناس) جمع لا واحد له من لفظه، ومفرده إنسان على المعنى. والجمع: ناس، وأناسي. والأناس لغة في الناس.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: نسي آدم عهد الله، فسُمِّيَ إنساناً، قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي}[طه:115].
قال الأصفهاني: "الناس قد يُذكر ويراد به الفضلاء، دون من يتناوله اسم الناس تجوّزاً، وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانيّة، وهو وجود العقل، والذِّكر، وسائر الأخلاق الحميدة، والمعاني المختصة به، فإن كل شيء عُدِمَ فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه كـ (اليد) فإنها إذا عُدمت فعلها الخاص بها فإطلاق (اليد) عليها كإطلاقها على يد السرير ورجله، فقوله: {آمنوا كما آمن الناس}[البقرة:13] أي: كما يفعل من وُجِد فيه معنى الإنسانية، ولم يقصد بالإنسان عيناً واحداً، بل قصد المعنى، وكذا قوله: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}[النساء:54] أي: من وُجِدَ فيه معنى الإنسانية، أيّ إنسان كان، وربما قُصد به النوع كما هو، وعلى هذا قوله: {أم يحسدون الناس}.
ولفظ (الناس) ورد في القرآن في أربعين ومائتي موضع (240)، جاء في جميع مواضعه بهذا اللفظ فحسب، ولم يرد له في القرآن أي اشتقاق آخر.
ولفظ (الناس) توارد في القرآن الكريم على عدة معان، نجملها وَفْق التالي:
* (الناس) بمعنى جنس الإنسان وسائر الناس، ولفظ (الناس) أكثر ما جاء في القرآن وفق هذا المعنى، من ذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم}[البقرة:21] وقوله سبحانه: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}[النساء:1] وفول عز وجل: {يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض}[فاطر:3] ومثله كثير.
* (الناس) بمعنى مشركي العرب، جاء على ذلك قوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة}[البقرة:150] قال مجاهد: هم مشركو العرب. قال ابن عاشور: "وقد شاع في القرآن تغليب اسم (الناس) عليهم" يريد مشركي العرب.
* (الناس) بمعنى المؤمنين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، جاء على ذلك قوله عز وجل: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء}[البقرة:13] قال ابن عباس رضي الله عنهما: وإذا قيل لهم: صدقوا كما صدق أصحاب محمد، قولوا: إنه نبي ورسول، وإن ما أنزل عليه حق، وصدقوا بالآخرة، وأنكم مبعوثون من بعد الموت، قالوا ما ذكرته الآية.
* (الناس) بمعنى النبي صلى الله عليه وسلم، جاء على ذلك قوله تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}[النساء:54] جاء في التفسير أن المراد النبي عليه الصلاة السلام.
* (الناس) بمعنى قوم بعينهم، جاء على ذلك قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} فـ {الناس} الأُول هم قوم كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أُحد إلى حمراء الأسد. و{الناس} الثاني، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش، الذين كانوا معه بأُحد. فقوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} لفظ عام، والمعنى مخصوص؛ لأن الناس كلهم لم يخبروهم، ولم يجمعوا لهم أنصاراً.
* (الناس) بمعنى بني إسرائيل خاصة، جاء على ذلك قوله عز وجل: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة:116] يعني بني إسرائيل خاصة.
* (الناس) بمعنى أهل مكة، جاء على ذلك قوله عز وجل: {وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس}[الإسراء:60] قال ابن عباس: (الناس) هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم، أي: إن الله سيهلكهم. ومثله قوله سبحانه في الآية نفسها: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} يعني أهل مكة.
* (الناس) بمعنى أهل الكفر والشرك، جاء على ذلك قوله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون}[النمل:82] قال القرطبي: يعني الكفار.
أما قوله تعالى فيما قصَّه علينا من قصة يوسف عليه السلام: {لعلي أرجع إلى الناس}[يوسف:46] أي: إلى الملك وأصحابه. ويحتمل أن يراد بـ {الناس} هنا الملك وحده؛ تعظيماً له.
وحاصل ما تقدم أن لفظ (الناس) أكثر توارده في القرآن الكريم بمعنى عموم الناس وجنس الإنسان، وورد بدرجة تالية بمعنى مشركي العرب عموماً، وبمعنى المؤمنين الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إبَّان دعوته، وورد أيضاً بمعنى عموم الكفار، وبمعنى النبي صلى الله عليه وسلم، وبمعنى أهل مكة، وبمعنى بني إسرائيل خاصة، وليس ما يمنع أن يكون هذا اللفظ قد ورد على معانٍ أُخر لم نحط بها علماً.
لفظ (النفس) في القرآن الكريم
الشبكة الإسلامية
جاء في معجم "مقاييس اللغة" أن (النون، والفاء، والسين) أصل واحد، يدل على خروج النسيم كيف كان، من ريح أو غيرها، وإليه يرجع فروعه. منه التنفس: خروج النسيم من الجوف. ونَفَّس الله كربته، وذلك أن في خروج النسيم رَوْحاً وراحة. والنفس: كل شيء يفرج به عن مكروب. وفي الحديث: «لا تسبوا الريح، فإنها من نفس الرحمن» (رواه ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني)، يعني أنها رَوْحٌ يُتَنَفْسُ به عن المكروبين.
ويقال للعين: نَفْس، أصابته نَفْسٌ، أي: عين. والنفْس: الدم، وإنما سمي الدم نفساً؛ لأن النفس تخرج بخروجه. والحائض تسمى النفساء، لخروج دمها. وَالنَّفْسُ قِوَامُها بالنَّفَسِ. ونَفْسُ الشيء: عينه، يؤكَّد به، يقال: رأيت فلاناً نفسه، وجاءني فلان بنفسه. والتنافس: أن يبرز كل واحد من المتبارزين قوة نفسه. وتَنَفُّسُ النهار عبارةٌ عن توسُّعِه. قال تعالى: {والصبح إذا تنفس} [التكوير:18]. وجمع (النَّفْس) أنفس ونفوس.
واختلفوا في النفس: هل هي الروح، أو هي غيرها؟ فقال كثير من الناس: إن الروح شيء غير النفس. وقال آخرون: بل هما شيء واحد. قال ابن اسحاق: النفس في كلام العرب يجري على ضربين: أحدهما: قولهم: خرجت نَفْسٌ فلان، أي: روحه، وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا، أي: في روحه·
والضرب الآخر: فيه معنى جملة الشيء وحقيقته، تقول: قتل فلان نفسه، وأهلك نفسه: أوقع الهلاك بذاته. وقال ابن بري: النفس: الروح، والنفس ما يكون به التمييز؛ فالأولى هي التي تزول بزوال الحياة، والثانية هي التي تزول بزوال العقل. والعرب جعلوا النَّفْس التي يكون بها التمييز نفسين: نفس تأمر بالشيء، ونفس تنهى عنه، وذلك عند الإقدام على أمر مكروه، فجعلوا التي تأمر نفساً، والتي تنهى كأنها نفسٌ أخرى.
ولفظ (النفس) بمشتقاته ورد في القرآن الكريم في ثمانية وتسعين ومائتي (298) موضع، جاء في موضعين بصيغة الاسم؛ أولاهما: قوله سبحانه: {والصبح إذا تنفس} [التكوير:18]. ثانيهما: قوله عز وجل: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين:26]. وجاء بصيغة الاسم في ستة وتسعين ومائتي (296) موضع بصيغة الاسم، منها قوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم} [غافر:17].
ولفظ (النفس) بمشتقاته ورد في القرآن الكريم على عدة معان، منها:
- (النفس) يعني أهل الإيمان والشريعة وأخوَّة الدين، من ذلك قوله تعالى في حادثة الإفك: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} [النور:12] قال ابن عرفة: "أي: بأهل الإيمان، وأهل شريعتهم"· ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} [آل عمران:164] قال ابن إسحاق: لقد منَّ الله عليكم، يا أهل الإيمان، إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم.
وثمة من قال: إن المراد بالآية هنا العرب - كما قال الطبري - أي بعث في العرب نبيًّا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم؛ فلا يفقهوا عنه ما يقول. ونحوه أيضاً قوله عز وجل: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [براءة:128]. ومن ذلك قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29] أي: ولا يقتل بعضكم بعضاً؛
قال الطبري: "لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه...وكذلك تفعل العرب، تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها". ومثل ذلك قوله عز وجل: {ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات:11] فلامز أخيه كلامز نفسه؛ قال القرطبي: "وفي قوله: {أنفسكم} تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره؛ لأنه كنفسه". ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} [النور:61] قال الطبري: "معناه: فإذا دخلتم بيوتاً من بيوت المسلمين، فليسلم بعضكم على بعض". ومنه أيضاً قوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} [النور:12] قال القرطبي: "قال: {بأنفسهم} لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة؛ لأنهم أهل ملة واحدة".
- (النفس) يعبر عنها عن الإنسان، من ذلك قوله سبحانه: {واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة} [البقرة:48] أي: لا يغني إنسان عن إنسان يوم القيامة، فكل إنسان منوط بعمله وبما قدمت يداه، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر. ونحوه أيضاً قوله عز وجل: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45] أي: الإنسان بالإنسان. وعلى هذا المعنى قوله عز من قائل: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة:32] أي: من قتل إنساناً بغير وجه حق، فكأنما قتل الناس جميعاً. ووَفْق هذا المعنى قوله تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} [الزمر:56].
- (النفس) تطلق على آدم عليه السلام، ومنه قوله تعالى: {الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء:1] قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم عليه السلام. وقال سبحانه: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} [الأنعام:98].
- (النفس) بمعنى الروح، من ذلك قوله تعالى: {والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم} [الأنعام:93] قال البغوي: "أي: أرواحكم كَرهاً؛ لأن نفس المؤمن تنشط للقاء ربها". ومنه أيضاً قوله سبحانه: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} [الزمر:42]. روى الطبري عن سعيد بن جبير، قال: يُجمع بين أرواح الأحياء، وأرواح الأموات، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيُمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجسادها.
- (النفس) تطلق على ذات الله تعالى، قال سبحانه: {ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} [آل عمران:28] وقال عز وجل: {ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد} [آل عمران:30] أي: يحذركم إياه، فالمراد بها ذاته المتصفة بصفاته جل وعلا.
- (النفس) بمعنى البعض، منه قوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة:85] أي: يقتل بعضكم بعضاً. ومنه أيضاً قوله عز وجل في قوم موسى عليه السلام: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} [البقرة:54] قال القرطبي: "قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا".
- (النفس) بمعنى نفس الإنسان ذاته، جاء على هذا المعنى قوله عز وجل: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم} [النساء:66] المعنى: ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، المحتكمين إلى الطاغوت، أن يقتلوا أنفسهم وأمرناهم بذلك، ما فعلوا ما أمرناهم به.
- (النفس) بمعنى القلب، من ذلك قوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق:16] قال البغوي: "نعلم ما يحدِّث به قلبه، ولا يخفى علينا سرائره وضمائره". ومنه قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} [النجم:23].
- وتأتي (النفس) بمعنى (العندية) قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة:116] قال القرطبي: معناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك.
وقد تحصل مما تقدم، أن لفظ (النفس) بمشتقاته أكثر ما جاء في القرآن بمعنى أهل الإيمان وأُخوَّة الدين، وجاء بدرجة تالية بمعنى الإنسان عموماً، وجاء بدرجة أقل بمعنى آدم عليه السلام، وبمعنى الروح، وبمعنى ذات الله تعالى، وبمعنى الإنسان ذاته، وبمعنى القلب، وبمعنى العندية.
تعليق