تأملات تربوية في سورة طه (1)
في هذه السورة الكريمة معان تربوية عديدة ورائعة . ولن نستطيع الإحاطة بها . ومن ذا يدّعي ذلك في القرآن – كلام الله سبحانه- الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بروائع الوصف والمعاني فقال : ... وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ... وحسبنا أن نقتطف منه ثماراً يانعة ووروداً ناضرة .
1- التحبب وإنزال الناس منازلهم : فكلمة " طه " لها معان كثيرة عددها المفسرون ، لكنني سأقف على معنيين اثنين يوضحان المقصود . فقد ذكر القرطبي في تفسيره الكبير " الجامع لأحكام القرآن " أن بعض العرب مثل – عك وطيّء- درجت على مناداة من تحب بكلمة طه ، ذكره عبد الله بن عمرو وقطرب . ودرجت بعض القبائل مثل – عكل – على مناداة الرجل العظيم المحترم بالكلمة نفسها طه ، ذكره الحسن البصري وعكرمة . وكأن الله سبحانه وتعالى –على فهمنا لهذين المعنيين – ينادي رسوله الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام يا حبيبي ، فهو حبيبه المصطفى وأيها الرجل الكريم ، فهو الرجل الذي كان النور الهادي إلى الله – وما يزال إلى يوم القيامة – ولو عدنا إلى الآيات التي تذكر كلمة رجل ومثناها وجمعها لرأيناها مدحاً كلها ما خلا سورة الجن في قوله تعالى " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً " والقرآن على هذا يعلمنا أن يكون خطابنا للآخرين لطيفاً محبباً ، وأن نحفظ لهم مكانتهم ونكرمهم ، فاحترام الناس وإنزالهم منازلهم يعود على الداعية بالحب والود ، ويفسح له في قلوب الناس القبول والطاعة ، وما كان الجفاء في يوم من الأيام سبيلاً إلى الدعوة " فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ..."
2- الإطناب : البلاغة كما يقول أهلها " مراعاة مقتضى الحال " فالإيجاز في الحديث حين يفيد الإيجاز . والإسهاب فيه حين يقتضي الأمر ذلك . وسورة طه مكية ، تهتم كأخواتها من السور المكية بتوضيح عقيدة التوحيد وتثبيتها في قلوب الناس ، فلا بد من الإسهاب الدقيق المركز . ومثاله في هذه السورة الكريمة الآيات الخمس ، من الآية الرابعة إلى الآية الثامنة
فالقرآن الكريم أنزله من أبدع الأرض والسماوات العلا .. من هو وما صفاته؟ إنه الرحمن الذي استوى على العرش فدانت له الخلائق كلها !!... وهو – سبحانه – الذي ملك كل شيء .. ملَك السماوات وملك الأرض وملك مابينهما وملك ما تحت الثرى ، فهل بقي شيء لم يسيطر عليه – سبحانه- ؟ كل ما علا وما سفل وما كان بينهما في قبضته فهل هناك مفرمنه إلا إليه ؟
أفر إليك منك ، وأين إلا *** إليك يفر منك المستجير
ثم إنه سبحانه مطلع على الظواهر والسرائر وعلى ما هو أخفى من السرائر . أتدرون ما أخفى من السرائر؟! ... إنها الخواطر التي تلمع في أذهاننا والأفكار التي تسطع في عقولنا ثم تمضي سريعاً في عالم النسيان ... نعم ننساها ولا نتذكرها ، لكنها في علم الله سبحانه وتعالى لا تغيب.... وكيف يغيب شيء - مهما قل وخفي - عن العليم الخبير !!
فإذا خالط الإيمان بشاشة قلوبنا ، وامتزج بأرواحنا وأنفاسنا نادينا مقرين بـ " الله لا إله إلا هو " وسألناه الخير مترنمين بأسمائه الحسنى وصفاته العليا..... وتعال نقرأ هذه الآيات الكريمة ليكتمل المشهد الحسي الروحي العجيب
" تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلا
الرحمن على العرش استوى
له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى
وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى
الله لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى "
3- حسن الربط بين المعاني : إ ن سرد الأفكار او الأحداث مسلسلة مرتبة يقيد المتلقّي بأمور عدة منها :
استيعاب الأفكار والأحداث دون انقطاع .
حسن المتابعة لما يُلقى عليه وحُسن التعامل معها .
قدرة المتلقي على الحكم السليم على ما يسمع .
الاستجابة لعدد أكبر من المعلومات والأفكار .
فبعد أن عشنا في جو الآيات السابقة جاءت قصة موسى عليه السلام توضح لقاءه بربه الكريم بإسلوب شائق غير منقطع يوضح العلاقة بين الخالق الرحيم والمخلوق الباحث عن الحق ، بين المعبود والعابد ، والرب الآمرالسيد والعبد المأمور المطيع. ... فكيف يصطفيه الله تعالى ويكلمه دون أن يكون بينهما آخرون ؟ لقد رأى ناراً هم بحاجة إليها عله يأتي منها بقبس أو يجد حولها من يدله على الطريق إلى مصر ، فقد أخطأه في هذا الظلام الشديد . فوجد درب الهداية وسبيل السلام وفتح له باب السعادة على مصراعيه ، فولج منه إلى الكرامة في الدنيا والآخرة ... ذهب إلى النور مقتبساً فعاد نوراً بذاته ، يهتدي بهديه المهتدون ، فقد رأى النور وكلمه . " عرفه بذاته القدسية " إني أنا ربك "
" أني أنا الله لا إله إلا أنا " وعلمه التأدب مع العظيم " فاخلع نعليك " وكأنه يقول له اترك الدنيا وزحرفتها الفانية فأنت مؤهل لأمر جلل " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى " ولا بد من الاستعداد لهذا التكليف الشاق والاستعانة بالعبادة والتزكية لتكون الصلة بالله قوية تعين على حمل الأمانة " فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " .وكرر موسى هذا حين طلب الاستعانة بأخيه فقال : " كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً " .
4- التسلح بالبراهين والأدلّة : لا بد حين تكلف إنساناً بمهمة أن تجهزه بما يناسب من مستندات ووثائق – إن كان الأمر يتطلب ذلك – وتوضحها له بمعلومات تساعده على إنجازها بشكل صحيح خال من الأخطاء أو بقليل منها ما كان إلى ذلك من سبيل . .. وهذا ما قدمه الله تعالى لأنبيائه في دعوتهم .
فقد كان لصالح الناقة وفصيلها ، ولسليمان الريح تجري بأمره حيث يشاء ، ولداود تليين الحديد ، ولإبراهيم جعل النار المحرقة حديقة غناء ، ولعيسى إحياء الموتى وإخبار الناس بما يدّخرون في بيوتهم ... وأيد الله تعالى موسى " في تسع آيات إلى فرعون وقومه " ذكر منها في سورة طه اثنتين : أولاهما انقلاب العصا حية تسعى ، وثانيهما وضع اليد في جيب الثوب وإخراجها بيضاء تلمع كالشمس في بريقها . وكان لكل نبي من المعجزات الباهرات ما يبهر المدعويين ويعجزهم .
5- التجريب : أسلوب تربوي عملي ، يفيد في أمور عدة نذكر اثنين منها :
الأول : أن تثبت الفكرة في النفس كقصة إبراهيم عليه السلام إذ أراد أن يزداد بصيرة في قلبه وعقله فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى . مع العلم أنه شديد الإيمان بربه وقدرته سبحانه ، فأجابه إلى ذلك في سورة البقرة الآية 260ولم يشك إبراهيم في قدرة الله ، ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ، ويدل عليه وروده بصيغة " كيف " وموضوعها السؤال عن الحال . ويؤيد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " ومعناه : نحن لم نشك ، فلأن لا يشك إبراهيم أولى . والثاني : تعويد المرء على شيء يخافه ليطمئن قلبه ، فيستعد لما قد يستجد، ومثاله ما ورد في هذه السورة حين سأله الله تعالى عما في يده ليجعلها إحدى معجزاته " وما تلك بيمينك يا موسى " فأجابه بما يدل على استعمالاتها الكثيرة . فأمره أن يلقيها ، " فألقاها فإذا هي حية تسعى " وقد جاء في سورة النمل أنه هرب خوفاً منها " فما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقّب " . وتصور معي أنه لم يجربها بين يدي الله تعالى فكيف يكون موقفه وهو داعية يلقيها لأول مرة أمام فرعون وملئه فيكون أول الهاربين مع أنهم- وإن خافوا - تماسكوا فلم يهربوا .... لن يكون الموقف لصالحه . ومع هذا فقد كان الموقف أمام السحرة رهيباً " فاوجس في نفسه خيفة موسى " فهدأه الله تعالى " قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى" .
6- الاستعانة بالصالحين : لقد هيأ الله تعالى لنبيه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام رجالاً يعتمد عليهم في نشر الدعوة يكونون عوناً له وأزراً . وانظر معي وصفهم في آخر سورة الفتح " محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجّدا ، يبتغون فضلا من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً " وهيأ الله تعالى لنبيه الكريم عيسى عليه السلام حواريين يؤازرونه في الدعوة ، ويعينونه في نشرها : " كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ؟ . قال الحواريون : نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمونا على عدوهم ، فأصبحوا ظاهرين " . وهذا موسى عليه السلام حين كلفه ربه أن يذهب إلى فرعون ناصحاً وداعياً سأل ربه أن يعينه بأخيه هارون " واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري ، وأشركه في أمري " . فأعانه به لأنه سبحانه يريد للدعوة أن تؤتي أكلها ، فلا بد من تيسير سبلها والإعداد لها " قال : قد أوتيت سؤلك يا موسى " .
7- ذكر الأفضال : ليشعر من تفضلت عليه أنك هيأت له الأسباب واعتنيت به وقدمت له الخدمات ليكون عند حسن ظنك فيما يفيده ويفيد أسرته ومجتمعه ، كأن يخاطب الأب ولده فيذكره بتربيته له وإيثاره عليه واعتنائه به وتدريسه ووو... ليكون ولداً باراً بوالديه محسناً لإخوته وأخواته وكفعل المحسنين دون منّة ولا تفاخر وتفضل وإلا نفرالمدعوّ ولم يدنُ مرة أخرى . فإجابة الله تعالى دعوة موسى في إرسال أخيه منّة ما بعدها منّة ، وهنا مننٌ كثيرة ذكرها الله تعالى لموسى ليدلل اعتناءه به وتزكيته له وتهيئته ليكون الرسول الداعية إلى الله : " ولقد مننّا عليك مرة أخرى " فحفظه أن يقتله فرعون . بل إنه ربّيَ في قصره وعلى عينه ، وأعاده إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن فلم يقبل إلا حليبها ، وتبعته أخته لتعود به إلى أمه ، وحفظه أن يقتص منه فرعون لقتله القبطي ، فهاجر إلى الشام ليعيش في بيت أحد الصالحين ويتزوج ابنته ويعمل عنده ليخف عنه الطلب ، ويقتبس الخير من الرجل الصالح ، ويعيش من كد يمينه وعرق جبينه لا أن يظل عالة على فرعون يعيش حياة هينة لينة ، ، فحياة الدعة لا تربي الدعاة ، ولن يرفع أحد رأسه ويصدع بكلمة الحق أمام ولي نعمته والمتفضل عليه . ومن أفضل المنّة أنه رباه على عينه واصطنعه لنفسه سبحانه .
8- احترام الكبير : من الآداب التي حض عليه الإسلام توقير الكبير. وقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال : " أن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم " . وقال : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف قدر كبيرنا " وقال كذلك صلى الله عليه وسلم : أُراني في المنام أتسوك بسواك ، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر . فناولت السواك الأصغر . فقيل لي : كبر . فدفعته إلى الأكبر منهما ". .. والأحاديث في هذا الباب وافرة . أما في القرآن الكريم فالآيات كثيرة في هذا الباب ، منها :أن يعقوب عليه السلام حين حضرته الوفاة سأل بنيه : " ما تعبدون من بعدي ؟ " فبماذا أجابوا ؟ " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً ونحن له مسلمون "سورة البقرة ، الآية 133 .أبوهم يعقوب وجدهم إسحاق وأبو جدهم إبراهيم . أما إسماعيل فعم أبيهم . ولأدبهم الذي درجوا عليه قدموا إسماعيل على جدهم لأنه أكبر منه واحتسبوه من جملة الآباء . والعم بمقام الأب . واقرأ معي هذا الترتيب الأدبي التربوي الرائع " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ..." .
وقد أمر الله تعالى موسى وهارون بتبليغ فرعون : لكن خطاب الرب كان لموسى مباشرة ولهارون عن طريق موسى " اذهب أنت وأخوك بآياتي ، ولا تنيا في ذكري " فكان الأمر للاثنين ولكن عن طريق موسى
كما أننا نتعلم الأدب حتى ممن ليسوا مسلمين إن نطقوا بالصواب ، فحين ذهبا إلى فرعون بأمر ربهما يدعوانه، فتكلما كما ورد في القرآن وأحسنا ، وجه فرعون لهما السؤال ولكنه طلب الجواب من موسى " قال : فمن ربكما يا موسى " . فكان موسى هو الذي يحاوره .
صيد الفوائد
يتبع
في هذه السورة الكريمة معان تربوية عديدة ورائعة . ولن نستطيع الإحاطة بها . ومن ذا يدّعي ذلك في القرآن – كلام الله سبحانه- الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بروائع الوصف والمعاني فقال : ... وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ... وحسبنا أن نقتطف منه ثماراً يانعة ووروداً ناضرة .
1- التحبب وإنزال الناس منازلهم : فكلمة " طه " لها معان كثيرة عددها المفسرون ، لكنني سأقف على معنيين اثنين يوضحان المقصود . فقد ذكر القرطبي في تفسيره الكبير " الجامع لأحكام القرآن " أن بعض العرب مثل – عك وطيّء- درجت على مناداة من تحب بكلمة طه ، ذكره عبد الله بن عمرو وقطرب . ودرجت بعض القبائل مثل – عكل – على مناداة الرجل العظيم المحترم بالكلمة نفسها طه ، ذكره الحسن البصري وعكرمة . وكأن الله سبحانه وتعالى –على فهمنا لهذين المعنيين – ينادي رسوله الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام يا حبيبي ، فهو حبيبه المصطفى وأيها الرجل الكريم ، فهو الرجل الذي كان النور الهادي إلى الله – وما يزال إلى يوم القيامة – ولو عدنا إلى الآيات التي تذكر كلمة رجل ومثناها وجمعها لرأيناها مدحاً كلها ما خلا سورة الجن في قوله تعالى " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً " والقرآن على هذا يعلمنا أن يكون خطابنا للآخرين لطيفاً محبباً ، وأن نحفظ لهم مكانتهم ونكرمهم ، فاحترام الناس وإنزالهم منازلهم يعود على الداعية بالحب والود ، ويفسح له في قلوب الناس القبول والطاعة ، وما كان الجفاء في يوم من الأيام سبيلاً إلى الدعوة " فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ..."
2- الإطناب : البلاغة كما يقول أهلها " مراعاة مقتضى الحال " فالإيجاز في الحديث حين يفيد الإيجاز . والإسهاب فيه حين يقتضي الأمر ذلك . وسورة طه مكية ، تهتم كأخواتها من السور المكية بتوضيح عقيدة التوحيد وتثبيتها في قلوب الناس ، فلا بد من الإسهاب الدقيق المركز . ومثاله في هذه السورة الكريمة الآيات الخمس ، من الآية الرابعة إلى الآية الثامنة
فالقرآن الكريم أنزله من أبدع الأرض والسماوات العلا .. من هو وما صفاته؟ إنه الرحمن الذي استوى على العرش فدانت له الخلائق كلها !!... وهو – سبحانه – الذي ملك كل شيء .. ملَك السماوات وملك الأرض وملك مابينهما وملك ما تحت الثرى ، فهل بقي شيء لم يسيطر عليه – سبحانه- ؟ كل ما علا وما سفل وما كان بينهما في قبضته فهل هناك مفرمنه إلا إليه ؟
أفر إليك منك ، وأين إلا *** إليك يفر منك المستجير
ثم إنه سبحانه مطلع على الظواهر والسرائر وعلى ما هو أخفى من السرائر . أتدرون ما أخفى من السرائر؟! ... إنها الخواطر التي تلمع في أذهاننا والأفكار التي تسطع في عقولنا ثم تمضي سريعاً في عالم النسيان ... نعم ننساها ولا نتذكرها ، لكنها في علم الله سبحانه وتعالى لا تغيب.... وكيف يغيب شيء - مهما قل وخفي - عن العليم الخبير !!
فإذا خالط الإيمان بشاشة قلوبنا ، وامتزج بأرواحنا وأنفاسنا نادينا مقرين بـ " الله لا إله إلا هو " وسألناه الخير مترنمين بأسمائه الحسنى وصفاته العليا..... وتعال نقرأ هذه الآيات الكريمة ليكتمل المشهد الحسي الروحي العجيب
" تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلا
الرحمن على العرش استوى
له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى
وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى
الله لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى "
3- حسن الربط بين المعاني : إ ن سرد الأفكار او الأحداث مسلسلة مرتبة يقيد المتلقّي بأمور عدة منها :
استيعاب الأفكار والأحداث دون انقطاع .
حسن المتابعة لما يُلقى عليه وحُسن التعامل معها .
قدرة المتلقي على الحكم السليم على ما يسمع .
الاستجابة لعدد أكبر من المعلومات والأفكار .
فبعد أن عشنا في جو الآيات السابقة جاءت قصة موسى عليه السلام توضح لقاءه بربه الكريم بإسلوب شائق غير منقطع يوضح العلاقة بين الخالق الرحيم والمخلوق الباحث عن الحق ، بين المعبود والعابد ، والرب الآمرالسيد والعبد المأمور المطيع. ... فكيف يصطفيه الله تعالى ويكلمه دون أن يكون بينهما آخرون ؟ لقد رأى ناراً هم بحاجة إليها عله يأتي منها بقبس أو يجد حولها من يدله على الطريق إلى مصر ، فقد أخطأه في هذا الظلام الشديد . فوجد درب الهداية وسبيل السلام وفتح له باب السعادة على مصراعيه ، فولج منه إلى الكرامة في الدنيا والآخرة ... ذهب إلى النور مقتبساً فعاد نوراً بذاته ، يهتدي بهديه المهتدون ، فقد رأى النور وكلمه . " عرفه بذاته القدسية " إني أنا ربك "
" أني أنا الله لا إله إلا أنا " وعلمه التأدب مع العظيم " فاخلع نعليك " وكأنه يقول له اترك الدنيا وزحرفتها الفانية فأنت مؤهل لأمر جلل " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى " ولا بد من الاستعداد لهذا التكليف الشاق والاستعانة بالعبادة والتزكية لتكون الصلة بالله قوية تعين على حمل الأمانة " فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " .وكرر موسى هذا حين طلب الاستعانة بأخيه فقال : " كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً " .
4- التسلح بالبراهين والأدلّة : لا بد حين تكلف إنساناً بمهمة أن تجهزه بما يناسب من مستندات ووثائق – إن كان الأمر يتطلب ذلك – وتوضحها له بمعلومات تساعده على إنجازها بشكل صحيح خال من الأخطاء أو بقليل منها ما كان إلى ذلك من سبيل . .. وهذا ما قدمه الله تعالى لأنبيائه في دعوتهم .
فقد كان لصالح الناقة وفصيلها ، ولسليمان الريح تجري بأمره حيث يشاء ، ولداود تليين الحديد ، ولإبراهيم جعل النار المحرقة حديقة غناء ، ولعيسى إحياء الموتى وإخبار الناس بما يدّخرون في بيوتهم ... وأيد الله تعالى موسى " في تسع آيات إلى فرعون وقومه " ذكر منها في سورة طه اثنتين : أولاهما انقلاب العصا حية تسعى ، وثانيهما وضع اليد في جيب الثوب وإخراجها بيضاء تلمع كالشمس في بريقها . وكان لكل نبي من المعجزات الباهرات ما يبهر المدعويين ويعجزهم .
5- التجريب : أسلوب تربوي عملي ، يفيد في أمور عدة نذكر اثنين منها :
الأول : أن تثبت الفكرة في النفس كقصة إبراهيم عليه السلام إذ أراد أن يزداد بصيرة في قلبه وعقله فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى . مع العلم أنه شديد الإيمان بربه وقدرته سبحانه ، فأجابه إلى ذلك في سورة البقرة الآية 260ولم يشك إبراهيم في قدرة الله ، ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ، ويدل عليه وروده بصيغة " كيف " وموضوعها السؤال عن الحال . ويؤيد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " ومعناه : نحن لم نشك ، فلأن لا يشك إبراهيم أولى . والثاني : تعويد المرء على شيء يخافه ليطمئن قلبه ، فيستعد لما قد يستجد، ومثاله ما ورد في هذه السورة حين سأله الله تعالى عما في يده ليجعلها إحدى معجزاته " وما تلك بيمينك يا موسى " فأجابه بما يدل على استعمالاتها الكثيرة . فأمره أن يلقيها ، " فألقاها فإذا هي حية تسعى " وقد جاء في سورة النمل أنه هرب خوفاً منها " فما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقّب " . وتصور معي أنه لم يجربها بين يدي الله تعالى فكيف يكون موقفه وهو داعية يلقيها لأول مرة أمام فرعون وملئه فيكون أول الهاربين مع أنهم- وإن خافوا - تماسكوا فلم يهربوا .... لن يكون الموقف لصالحه . ومع هذا فقد كان الموقف أمام السحرة رهيباً " فاوجس في نفسه خيفة موسى " فهدأه الله تعالى " قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى" .
6- الاستعانة بالصالحين : لقد هيأ الله تعالى لنبيه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام رجالاً يعتمد عليهم في نشر الدعوة يكونون عوناً له وأزراً . وانظر معي وصفهم في آخر سورة الفتح " محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجّدا ، يبتغون فضلا من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً " وهيأ الله تعالى لنبيه الكريم عيسى عليه السلام حواريين يؤازرونه في الدعوة ، ويعينونه في نشرها : " كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ؟ . قال الحواريون : نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمونا على عدوهم ، فأصبحوا ظاهرين " . وهذا موسى عليه السلام حين كلفه ربه أن يذهب إلى فرعون ناصحاً وداعياً سأل ربه أن يعينه بأخيه هارون " واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري ، وأشركه في أمري " . فأعانه به لأنه سبحانه يريد للدعوة أن تؤتي أكلها ، فلا بد من تيسير سبلها والإعداد لها " قال : قد أوتيت سؤلك يا موسى " .
7- ذكر الأفضال : ليشعر من تفضلت عليه أنك هيأت له الأسباب واعتنيت به وقدمت له الخدمات ليكون عند حسن ظنك فيما يفيده ويفيد أسرته ومجتمعه ، كأن يخاطب الأب ولده فيذكره بتربيته له وإيثاره عليه واعتنائه به وتدريسه ووو... ليكون ولداً باراً بوالديه محسناً لإخوته وأخواته وكفعل المحسنين دون منّة ولا تفاخر وتفضل وإلا نفرالمدعوّ ولم يدنُ مرة أخرى . فإجابة الله تعالى دعوة موسى في إرسال أخيه منّة ما بعدها منّة ، وهنا مننٌ كثيرة ذكرها الله تعالى لموسى ليدلل اعتناءه به وتزكيته له وتهيئته ليكون الرسول الداعية إلى الله : " ولقد مننّا عليك مرة أخرى " فحفظه أن يقتله فرعون . بل إنه ربّيَ في قصره وعلى عينه ، وأعاده إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن فلم يقبل إلا حليبها ، وتبعته أخته لتعود به إلى أمه ، وحفظه أن يقتص منه فرعون لقتله القبطي ، فهاجر إلى الشام ليعيش في بيت أحد الصالحين ويتزوج ابنته ويعمل عنده ليخف عنه الطلب ، ويقتبس الخير من الرجل الصالح ، ويعيش من كد يمينه وعرق جبينه لا أن يظل عالة على فرعون يعيش حياة هينة لينة ، ، فحياة الدعة لا تربي الدعاة ، ولن يرفع أحد رأسه ويصدع بكلمة الحق أمام ولي نعمته والمتفضل عليه . ومن أفضل المنّة أنه رباه على عينه واصطنعه لنفسه سبحانه .
8- احترام الكبير : من الآداب التي حض عليه الإسلام توقير الكبير. وقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال : " أن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم " . وقال : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف قدر كبيرنا " وقال كذلك صلى الله عليه وسلم : أُراني في المنام أتسوك بسواك ، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر . فناولت السواك الأصغر . فقيل لي : كبر . فدفعته إلى الأكبر منهما ". .. والأحاديث في هذا الباب وافرة . أما في القرآن الكريم فالآيات كثيرة في هذا الباب ، منها :أن يعقوب عليه السلام حين حضرته الوفاة سأل بنيه : " ما تعبدون من بعدي ؟ " فبماذا أجابوا ؟ " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً ونحن له مسلمون "سورة البقرة ، الآية 133 .أبوهم يعقوب وجدهم إسحاق وأبو جدهم إبراهيم . أما إسماعيل فعم أبيهم . ولأدبهم الذي درجوا عليه قدموا إسماعيل على جدهم لأنه أكبر منه واحتسبوه من جملة الآباء . والعم بمقام الأب . واقرأ معي هذا الترتيب الأدبي التربوي الرائع " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ..." .
وقد أمر الله تعالى موسى وهارون بتبليغ فرعون : لكن خطاب الرب كان لموسى مباشرة ولهارون عن طريق موسى " اذهب أنت وأخوك بآياتي ، ولا تنيا في ذكري " فكان الأمر للاثنين ولكن عن طريق موسى
كما أننا نتعلم الأدب حتى ممن ليسوا مسلمين إن نطقوا بالصواب ، فحين ذهبا إلى فرعون بأمر ربهما يدعوانه، فتكلما كما ورد في القرآن وأحسنا ، وجه فرعون لهما السؤال ولكنه طلب الجواب من موسى " قال : فمن ربكما يا موسى " . فكان موسى هو الذي يحاوره .
صيد الفوائد
يتبع
تعليق