إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تأملات تربوية في سورة يـوسف / الدكتور عثمان قدري مكانسي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تأملات تربوية في سورة يـوسف / الدكتور عثمان قدري مكانسي

    تأملات تربوية في سورة يـوسف (1)



    1- التخطيط واتخاذ الأسباب : العمل الارتجالي لا يُؤتي أُكُلَه كما لو كان مُعَدّاً إعداداً جيداً ومدروساً دراسة وافية ، معروفة أبعادُه وجدواه ومراحلُه .
    وكل عمل أو فكرة تخطر على البال لا بد أن تُخطط له تخطيطاً جيداً تراعي فيه الهدف منه وبدايتَه وإتمامَه وإيجابياتِه وسلبياتِه ، وإلا كان عملاً عشوائياً قد ينجح وقد يفشل . واحتمالات فشله أكبر .. وإن نجح فنجاحه مرحليّ أو غير مكتمل .
    وسورة يوسف تضع بين أيدينا نماذج من التخطيط الذي يؤدي إلى الوصول إلى الهدف المنشود ، سواء كان طيباً أم خبيثاً ، منها :


    - ما فعله إخوة يوسف حين شعروا أن أباهم يحبه أكثر مما يحبهم ، ويفضله عليهم ، فدبت الغَيرة في نفوسهم وقرروا التخلص منه ، فماذ يفعلون ؟! .. تدارسوا الأمر بينهم وقلّبوا الوجوه ، فقال بعضهم : " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخْلُ لكم وجهُ أبيكم ، وتكونوا من بعده قوماً صالحين " .. تفكير شيطاني سهل لهم فكرة القتل ، فبعد جريمتهم يعودون أتقياء أنقياء! .. وكأن القتل لا يترك في القلب نكتة سوداء تؤرق صاحبَها إلى أن يموت .
    وقال بعضهم : " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين " .. وهذه الفكرة أخف من القتل ، وإن كانت في حق الأخوّة قاسية جداً .. قلبوا وجوه الأمر فرأوا أن إلقاءه في الجب أسلمُ لهم ، ولن يؤرقهم كما لو أنهم قتلوه ... ثم جاءوا أباهم يقنعونه أن يسمح لهم باصطحاب يوسف في رحلة برية يتريّضون ويصطادون . وأكدوا له حرصَهم على أخيهم .. فلما أظهر الأب تخوّفه أن يتركوه – وهو صغير – فيعدو عليه الذئب في غفلة منهم فيأكله أقسموا أنهم لن يتركوه ، وإلا كانوا خاسرين، ليست فيهم صفات الرجولة والنباهة ... وكأن يعقوب عليه السلام لقّنهم حجّة هم بحاجة إليها يتعللون بها عند أبيهم ... وهكذا كان .
    " قالوا : يا أبانا ، مالك لا تأمنّا على يوسف ! وإنا له لناصحون ،
    أرسلْه معنا غداً يرتع ويلعب ْ ، وإنا له لحافظون .
    قال : إنني ليَحزُنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه
    غافلون .
    قالوا لئن أكله الذئب – ونحن عصبة – إنا إذاً لخاسرون "
    وحبكوا قصتهم ، ورتبوا مكرهم " وجاءوا أباهم عشاءً يبكون ،
    قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا ،
    فأكله الذئب ، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ."
    فقد :
    1- جاءوا أباهم عشاءً فلا يرى الغدر في عيونهم ، والكذب في أقوالهم .
    2- بدأوا يبكون ، فشعر بالخطب الجسيم قبل أن يُلقوه على سمعه .
    3- هيّأه بكاؤهم لتقبل المصيبة ، التي سيسمعها منهم .
    4- تلطفوا له بالقول " يا أبانا " ولهذا فائدتان :
    الفائدة الأولى أن هذه الكلمة للاستعطاف ليرق قلبه لهم فلا يعاقبهم .
    الفائدة الثانية : إيهامه صدقهم وحرصهم على أخيهم .
    5- أسمعوه العذر الذي سمعوه منه في اعتذاره عن إرسال يوسف معهم " أكله الذئب "
    6- أنت لا تصدقنا مع أننا صادقون .
    7- جاءوا بقميص يوسف ملطخاً بدم للتأكيد على أكل الذئب له .

    لكن هذا التخطيط المحكم نقضه خطأ كبير وقعوا فيه دون أن يشعروا حين "
    وجاءوا على قميصه بدم كذب .
    قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ،
    والله المستعان على ما تصفون ."

    كان القميص ملوثاً بدم لكنه لم يكن ممزقاً ، فالذئب الذي أكله كان ذكياً ! إذ جعله يخلع قميصه قبل أكله كي يستفيد منه إخوته! ... لقد كان التخطيط ناقصاً فيه ثغرة فضحتهم وعرف الأب ذلك ، فقال : هذا مكر دفعه إليكم نفوسكم الخبيثة .
    - وهذه امرأة العزيز تراود يوسف عن نفسه حين بلغ مبلغ الرجال ، وكان جميلاً وسيماً ، تتفجر الدماء من عروقه ، ويطفح وجهه إشراقاً ، فيأبى ذلك ويقول : " معاذ الله ، إنه ربي أحسن مثواي ، إنه لا يُفلح الظالمون . " فزوْجُها أكرمَ يوسفَ وتعهده بالرعاية ، فكيف يسيء إليه في عرضه وشرفه؟ ! لا يفعل ذلك إلا الخائنون الذين يجازون الإحسان بالسوء ، ويوسفُ ليس منهم .
    وانتشر الخبر بين نساء المدينة


    1- امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه .

    2- امتنع عليها وأذلّ كبرياءَها .

    والأمران وصمة عار عليها ، فأرادت أن تلجم أفواههنّ ، فماذا فعلتْ؟
    1- دعتهنّ إلى قصرها .


    2- أكرمتهنّ بالطعام والفاكهة .

    3- أمرت يوسف أن يخرج عليهنّ ، فخرج .
    4- رأينه فائق الجمال ملَكاً يمشي على الأرض ، فدُهشن لهذا الجمال الأخّاذ .
    5- لم يشعرن إلا والدماء تسيل من أصابعهنّ ، فقد أخذهنّ الإعجاب بجماله والدهشة لوسامته كل مأخذ فجرحن أيديَهنّ .
    6- شعرت بالانتصار عليهنّ ، فعاتبتهنّ على ما قلن في حقها من تجريح لكرامتها وكبريائها .
    7- حين رأت نفسها منتصرة عليهنّ ازدادت وقاحتها ، وباحت بمكنون صدرها لهنّ ، وأصرّت على تعلقها به والرغبة في وصاله ، وسيفعل ذلك شاء أم أبى ، وإلا كان السجن مصيره .
    وهذه خطة جهنّمية لا يفعلها إلا صاحب الكيد الذكي . "
    فلما سمعت بمكرهنّ أرسلت إليهنّ وأعتدت لهنّ متكأً ،
    وآتت كل واحدة منهنّ سكّيناً ، وقالت اخرج عليهنّ .
    فلما رأينه أكبرْنه وقطّعن أيديَهنّ .
    وقلن حاش لله ، ما هذا بشراً ، إن هذا إلا ملك كريم .
    قالت فذلكنّ الذي لمتنّني فيه . ولقد راودتُه عن نفسه فاستعصم .
    ولئن لم يفعل ما آمره ليُسْجنَنّ ، وليكونً من الصاغرين ."
    - ثم تأمل معي كيف خطط يوسف عليه الصلاة والسلام للخروج من السجن . بل كيف خطط الله تعالى له :
    1- " وقال الملك ائتوني به " وذلك بعد أن فسر حلم الملك في سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات .
    2- فهل أسرع يوسف عليه السلام للخروج من السجن إلى قصر الملك دون أن يظهر الحق ؟ إنه لا يريد أن يعفو عنه أحد إنما يريد أن يخرج من السجن ببراءته من كل اتهام ينقص قدره ، " فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديَهنّ ؟ إن ربي بكيدهنّ عليم . "
    3- وعاد الرسول إلى القصر يخبر الملك أن يوسف مظلوم يريد أن يخرج من سجنه بريئاً والدليل عند النساء اللاتي دعتهنّ امرأة العزيز إلى قصرها قبل سبع سنوات فدعاهن الملك قائلاً " .. : ما خطبُكن إذ راودْتُنّ يوسفَ عن نفسه؟ "
    4- فأقررْن بصدقه وبراءته حين " قلْنَ : حاش لله ، ما علمنا عليه من سوء . "
    5- وهنا اعترفت امرأة العزيز بخطئها إذ " قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق . أنا راودتُه عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين . "
    6- في المرة الأولى طلب الملك أن يراه فقط : أما حين ظهرت براءته عرف قدره وأكرمه وجعله مستشاره الخاص . فقد قال في الأولى " ا يتوني به " وزاد في الثانية " أستخلصه لنفسي "
    7- فلما رآه وكلمه عليه السلام أعجب الملك به – فلا بد من الاختبار .
    " فلما كلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين . "
    8- وهنا حين يكون المرء بريئاً وقدره عظيما يسعى أن ينتفع الناس بعلمه وقدراته ، فالمسلم خير وبركة للناس أجمعين . ومن رأى في نفسه المقدرة على خدمة الناس فليقدم نفسه دون خجل ولا مباهاة "
    قال اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم ."
    وهكذا كان تخطيط الله تعالى له فأخرجه من السجن إلى الصدارة .
    - وتعال معي نقف على التخطيط في استقدام يوسف أخاه" بنيامين" إلى مصر :
    من بلاد الشام – فلسطين – .
    1- جاء إخوة يوسف للميرة لا يدرون أن القدر ساقهم إلى من ألقوه في الجب ، ثم باعوه بثمن بخس لمن رآه فيه – على رواية من روى أنهم هم الذين باعوه للقافلة - " وجاء إخوة يوسف ، فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون . " وهل يخطر ببالهم أن الذي بيع هو السيد الذي يعطي الناس ويعدل بينهم ؟!
    2- لما أراد أن يرى أخاه الشقيق – ولم يكن معهم – أظهر تعجبه من كثرتهم ، وهم عشرة رجال . فقالوا : عند أبيهم رجل آخر ، فقال عند ذلك : جيئوا به لأراه ، فإن لم يجئ فلا كيل لكم عندي . " ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . " وعلى هذا فإنهم - حسب ماظنوا – سيأتون العام القابل ومعهم أخوهم . وسيطلبون من أبيهم أن يصاحبهم أخوهم . وإلا خسروا الميرة ما دام هذا الوزير على رأس عمله . " قالوا سنراود عنه أباه ، وإنا لفاعلون ." ونلمح الإصرار في قولهم " وإنا لفاعلون " لينالوا حصتهم السنوية وليقوم بنيامين بالجهد الذي يقومون به ، فلمَ يظل مكرّماً عند أبيهم دونهم ؟!
    3- لكن يوسف لن يصبر على غياب أخيه بنيامين ، وسيسرّع عودتهم فماذا فعل ؟ أمر فتيانه أن يضعوا ثمن ما أخذوه في رحالهم ، وحين يصلون ويفتحون متاعهم سيرون الثمن . ولأنهم من بيت النبوّة فلن يعتبروه غنيمة بل يعيدوه إلى يوسف سريعاً ، ولن يكون سفرهم لإعادة الثمن فقط إنما يغتنمون الفرصة ويعودون بميرة جديدة ، ولكنه لن يُمدهم بها إلا إذا كان أخوه بنيامين معهم .. إذن هي خطة محكمة تجعل يوسف عليه السلام يحظى بأخيه سريعاً .. "
    وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ،
    لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم ،
    لعلّهم يرجعون . "
    4- وهكذا سارت الخطة فنرى أبناء يعقوب يقولون لأبيهم :
    " يا أبانا مُنع منا الكيل ،
    فأرسل معنا أخانا نكتل ،
    وإنا له لحافظون . "
    5- وزاد الطلب إصراراً حين فتحوا متاعهم ورأوا الثمن فيها فقالوا يرغّبون أباهم :
    " يا أبانا ما نبغي ؟ هذه بضاعتنا رُدّت إلينا ،
    ونمير أهلنا ، ونحفظ أخانا ،
    ونزداد كيل بعير ، ذلك كيل يسير . "
    6- ويطلب الأب المفجوع بابنه يوسف - والخائف على ابنه الثاني بنيامين أن يضيع مثل أخيه - العهودَ والمواثيق أن لا يعودوا إلا غانمين بإذن الله تعالى إلا أن يُحاط بهم ، وهذا الاستثناء استسلام لله تعالى وإقرار بأنه سبحانه يفعل ما يشاء ، وأن الغيب لا يعلمه سواه وأن يحافظوا على أخيهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .
    7- وأن لا يدخلوا من باب واحد خوفاً من الحاسدين ... ويعطونه المواثيق والعهود وينطلقون ببركة الله إلى مصر عاقدين العزم أن يكونوا عند حسن ظن أبيهم بهم . ونبه يعقوب عليه السلام أبناءه إلى أن الأمر كله بيد الله تعالى إلا أن على الإنسان أن يحتاط ويسلك سبيل الحذر ، وما قدر الله تعالى كائن لا محالة .
    والرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستعاذة من الحسد ، فيقول : " أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ، ومن كل عين لامّة " كما يعلمنا أن نتعوذ من الشر كله " أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق " ونزلت المعوّذتان : الفلق ، والناس تؤكدان ذلك :
    " قل: أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ، ومن شر غاسق إذا وقب ، ومن شر النفاثات في العقد ، ومن شر حاسد إذا حسد ".
    " قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجِنّة والناس ".
    ويقول الرسول الكريم في هذا الصدد:" علامَ يقتل أحدكم أخاه ؟! ألا بـَرّكـْتَ ( بارك الله فيك) إن العين حق ، توضّاْ له "
    8- وأخبر يوسف أخاه بنيامين أنه يوسف وأخبره بالخطة التي اعتزم أن ينفذها ليبقى عنده – ليطمئن ويكون عوناً له - ثم يأتي بالجميع إلى مصر فتتحقق رؤياه التي أخبر بها أباه " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه ، قال : إني أنا أخوك ، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون "
    9- ولا بد من سبب وجيه يبقي أخاه عنده ، فليظهر أنه سرق المكيال ، ومن سرق المكيال يصبح عبداً للمسروق منه ، وهكذا كان " فلما جهّزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ".
    10- وتعال معي إلى الأدب في الاتهام فقد انطلقت القافلة لا يدري أحد ما يكون بعد انطلاقهم سوى يوسف وأخيه ... إنّ هناك من يناديهم بما ليس فيهم " أيتها العير إنكم لسارقون "
    11- عادوا مستغربين هذا الاتهام الخطير مستفهمين بأدب جم " ماذا تفقدون ؟ " ولم يقولوا : ماذا سرقنا . وعلى المنادي أن يقول إنا افتقدنا ، فإذا وجدوا ما فقدوه في رحالهم قالوا لهم : أنتم سارقون . أما أن يتهموهم مباشرة فليس الاتهام دون دليل من الأخلاق . وقال المنادون " نفقد صواع الملك " فتعلموا الأدب من أبناء يعقوب .
    12- وزيادة في التعمية أظهروا أنهم لا يعرفون كيف فقدوه ، وجعلوا لمن يدلهم على السارق حمل بعير – هدية ومكافأة – " ولمن جاء به حمل بعير "
    13- فلما أنكر إخوة يوسف هذه التهمة لم يكن بد من تفتيش متاعهم . على أن يرضوا بمعاقبة السارق إن كان منهم بما تحكم شريعة يعقوب حيث يصبح السارق رقيقاً للمسروق منه " قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ؟ قالوا جزاؤه من وُجد في رحله فهو جزاؤه . كذلك نجزي الظالمين " وعلى المسلم أن يحكم بشرع الله الذي أنزل إليه . فأقر أبناء يعقوب بذلك .
    14- ولكي لا يشك إخوته في العملية بدأ بتفتيش متاع إخوته ، وترك تفتيش بنيامين للأخير " فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه "
    15- وحين استخرج الصواع من وعاء أخيه بدا له أن إخوته مازالوا يكرهونه وأخاه بنيامين حين اتهموا يوسف ظلماً وهو أمامهم لا يعرفونه بأنه سارق أيضاً " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " فكان من حسن تخطيطه وجمال صبره أن تماسك فلم يعرّفهم بنفسه ، ولم يعاقبهم على كذبهم وادّعائهم . بل قال جملة تنم عن شديد حزنه وألمه "أنتم شر مكاناً ، والله أعلم بما تصفون "

    وهكذا بدأت القصة محبوكة خيوطها بإتقان أدى - بعد ذلك - إلى اعتراف الإخوة بخطئهم أمام يوسف ثم أمام أبيه ، وانطلق الجميع إلى مصر ليعيشوا في كنف الوزير الصالح يوسف بن يعقوب عليهما السلام .




    يتبع



    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    صيد الفوائد


  • #2
    تأملات تربوية في سورة يوسف (2)



    1- أنزل الله تعالى القرآن على العرب بلسانهم كي يفهموه ويعقلوه " إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم
    تعقلون " فهو سبحانه يريد أن يعلمنا :
    أ‌- أن على الداعية أن يكلم الناس بما يفهمون كي يستفيدوا منه ، ويقيم الحجة عليهم .
    ب‌- أن يتحملوا المسؤولية الملقاة على عاتقهم في نشر الدعوة ، فالعرب محركها الرئيسي ، والداعون الأوائل المعتمد عليهم في إيصال الدعوة إلى البشرية .
    2- في قوله تعالى " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين " " أمور مهمة ، منها :
    أ – أن القرآن من عند الله تعالى وليس من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس من المعقول أن يدّعي أحد معرفة الغيب ثم يخاطب نفسه بأنه كان من الغافلين !
    ب – أن الناجح في دعوته ومهمته يختار أحسن القول ، وأوضحه في حديثه " .. أحسن القصص .. " . ليجذ ب المدعوين ويشوقهم إلى دعوته .
    3- إن الإنسان يستشير المحب القريب إلى النفس العطوف الذكي فيما يلم به من أمور ، ويستأنس لرأيه ، فيوسف يخبر أباه بما رأى في رؤياه الغريبة ، فيأتيه جواب الخبير محذراً من الحاسدين الكائدين " ... لا تقصص رؤياك على إخوتك " فما سبب الحذر أيها الأب الحبيب؟ يأتيه الجواب سريعاً " فيكيدوا لك كيداً " وما الحسد إلا نتاج الغيرة والشعور بالدونية ، والرغبة في الاستئثار بالخير ، فما هذه الرؤيا إلا الدليلَ على النبوة التي كان كل من إخوة يوسف يترقب أن يرثها عن أبيه يعقوب ، فإذا بأخيهم الصغير يحوزها دونهم . وسوف يقربه الله تعالى ويرفع مقامه ، " ويعلمه من تأويل الأحاديث " كي يكون المعلم القائد إلى الخير " ويتم نعمته عليك " ومقام النبوّة من أعظم النعم ، وسيحمل الرسالة التي حملها أبوه يعقوب ، وجده إسحاق ، وأبو الأنبياء إبراهيم جدُّ أبيه .... يا لها من مكانة عظيمة وصل إليها يوسف الصدّيق!!
    وإخوته الذين ينتظرون مثل هذه المكانة – ولا يستحقونها - سيأكل الحسد قلوبهم ويكرهونه ، ويناصبونه العداء ، يؤزهم الشيطان ويؤلبهم عليه ،ومن كان الشيطان قائده ومحركه زرع فيه البغضاء والكيد لكل خيّر .. أليس الشيطان العدوَّ الأول الواضح العداوة للإنسان ؟ " إن الشيطان للإنسان عدو مبين " .
    4- أما النفس فهي ثلاثة أنواع :
    أ- النفس المطمئنة : وهي التي يمتاز بها السابقون إلى الخيرات ، هي النفس التي كان يقينها بالله يعمر القلب والفكر ، ويترجمها العمل الصالح وخشية الله تعالى والسعي إلى مرضاته ، هذه النفس لا يستطيع الشيطان الدنوّ من صاحبها فإنه يحترق من وهج الإيمان المنبعث منه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للفاروق رضي الله عنه – وما أدراك من الفاروق – "يا عمر ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك "
    ب- النفس الأمارة بالسوء : وهي التي أسلمت للشيطان قيادها فهو يقودها حيث شاء ، ولا يتعب في إفسادها ، ولعلها مفسدة كالشيطان نفسه ، وصاحبها يعمل عمل الشيطان في الوسوسة والغواية " قل أعوذ برب الناس ،ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس "
    ج- النفس اللوامة : وهي التي يحاول الشيطان غوايتها ، فإن ظن أنه تمكن منها ، وشعرت أنها زلت استغفرت الله وتابت إليه ، فهذه أشد على الشيطان من الأخريين ، يقول : يا ويلتاه ، ضاع جهدي فيها هدْراً ، وقد أقسم الجليل بها " لا أقسم بيوم القيامة ،ولا أقسم بالنفس اللوامة . "
    وقد زينت نفوس إخوة يوسف السيئة – إذ ذاك – أن يتخلصوا منه ، ورأى أبوهم يعقوب الغدر في عيونهم حين قدموا عليه ليلاً بعد أن غدروا بأخيهم ، فقال لهم يستنكر تخطيطهم السيء " بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً "
    5- لِمَ " ...كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين " ؟ إن من أراد مثالاً يُحتذى في الأخلاق والصبر فعليه بقصة يوسف . إن فيها العبر والعظات التي ينبغي على الداعية أن يتجمّل بها في حياته . والسؤال مفتاح العلم .. إن من رزقه الله قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً نال مراتب العلم .
    6- وتمر في ثنايا القصة كلمة " ضلال " وهي في هذه السورة لا تعني البعد عن الهدى والإيمان . إنها بمعنى الوقوع في الخطأ على الرغم من الهداية ، والحيدان عن التصرف السليم . فالأبناء يصفون حب أبيهم الزائد لابنه يوسف بالضلال " ... إن أبانا لفي ضلال مبين " وخطأ فادح واضح . كما أن الأب حين يقول " إني لأجد ريح يوسف ..." كان ردهم الاستنكار والتسفيه " تالله إنك لفي ضلالك القديم " والنسوة اللواتي سمعن عشق امرأة العزيز فتاها يوسف ، استنكرن منها أن تحب خادمها ، وكان على امرأة في مثل مكانتها أن تحب رجلاً من سادات القوم ، فنعتنها بالضلال – الخطأ- " ... امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ، قد شغفها حباً ، إنا لنراها في ضلال مبين " وكل من يخالف بعضهم في تصرفاته يُتّهم بالضلال والوقوع في الخطأ .
    7- إخوة يوسف – والكثير من الناس – يرون الأكثرية دائماً على صواب وغيرهم على خطأ ، وليس هذا بصحيح ، " إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا ، ونحن عُصبة ... " ويؤكد القرآن الكريم خطأ هذه النظرة مرة أخرى حين يقول :" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " وينتصر القليل بصوابه على الكثير بخطئه " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " لأنها على الحق والله تعالى معها في دفع الباطل ومحاربته . وبهذا تسفّه الأكثرية الآخرين وتستضعف عقولهم " إن أبانا لفي ضلال مبين "
    8- ثم يسعون - بناء على هذه القناعة- إلى أن يزيحوا الحق من الطريق بالسبل غير المشروعة بالقتل أو النفي أو التغييب " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يَخْلُ لكم وجه أبيكم ..." وهذه الطرق تنبئ عن الإفلاس وسوء التفكير وضعف النفس – ماهكذا تورد يا سعد الإبل –
    9- ثم نجدهم يصرّحون دون مواربة ، ولا خجل أنهم حين يصلون إلى هدفهم - وهو التخلص من يوسف - يصبحون صالحين وهم مخطئون كاذبون ، حين يرون الإجرام والطرق الملتوية في الوصول إلى المآرب متناسقة مع الفطرة السليمة ، وهيهات هيهات أن يجتمعا ، ولن تكون الميكيافيلية طريقاً إلى السعادة الحقيقية . ولم يكن سبيل الشر في يوم من الأيام وسيلة للوصول إلى تصحيح الخطأ .
    10- لن أتجاوز الأدب مع مقام النبوة –بإذن الله تعالى – حين أكرر الحقيقة الساطعة في التعامل مع الأبناء ، فلا يجوز التفريق في المعاملة بين ولد وآخر ، ألم يقل أحد المربين يصف حبه أولادَه
    وإنـمــا أولادنــا بـيــنــنــا .. أكبادنـا تمشي على الأرض
    لو هبّت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض
    وقد سُئِل أحدهم : أي أبنائك أحب إليك ؟ قال :( الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى ، والغائب حتى يعود ) .. إنه ينبغي معاملة الأبناء على قدم المساواة حتى لا يكره بعضُهم بعضاً ، ولكي يشعروا بمكانتهم عند أبويهم جميعاً ، فلا يحزن أحدهم ، ولا تضيق نفسه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للبشير بن سعد حين جاءه ليشهد على أن البشير نحل ابنه النعمان بعض ماله دون غيره من الأبناء( أفعلت هذا بأبنائك كلهم) ؟ قال لا، فقال صلى الله عليه وسلم ( فأشهد على هذا غيري )، ثم قال : ( أيسرك أن يكونوا في البر إليك سواء ) قال نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . أما يعقوب عليه السلام فقد مدحه المولى سبحانه وتعالى مع جده إبراهيم وأبيه إسحاق صلوات الله عليهم فقال في سورة (ص) : " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ، إنا أخلصناهم بخالصة : ذكرى الدار . وإنهم عندنا لمن المصطَفَيْن الأخيار " فلا نشك أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان نعم الأب الرحيم لأبنائه ، إلا أن أبناءه غير يوسف – عليه السلام - وأخيه كانوا منصرفين عن الحق في بعض تصرفاتهم ، مستمرئين الوقوع في الإثم ، وفي السورة دليلٌ ، من ذلك : أنهم لم يروا من اتخاذ القتل أو التغييب عيباً للوصول إلى غايتهم ، ورمَوا أخاهم في الجب يبغون هلاكه ، وكذبوا أمامه وهم لا يعرفونه حين وصفوه بالسرقة " إن يسرقْ فقد سرق أخ له من قبل " .
    11- الملفت للنظر توافقهم على السوء ولو بدرجات متفاوته ، فبعضهم أراد قتله وطرحَه أرضاً ، وبعضهم كان أقل سوءاً فطلب أن يُلقى في الجب يسترقـّه تجار القوافل المسافرون ، إلا أنهم بعد المداولة " أجمعوا " على طرحه في الجب " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " ونحن نعلم أن الأخوّة كنز ثمين يتراحم به الناس ، ويوسف عليه السلام حين رأى أخاه بنيامين آواه إليه و " قال : إني أنا أخوك ، فلا تبتئس بما كانوا يعملون " . لكنّ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء غطيا على عقولهم وأعميا أبصارهم .
    12- والأب العارف بالله ،النبي الكريم يعقوب يعلم أنهم كاذبون بما ادعوا من أكل الذئب ابنه يوسفَ فالرؤيا التي رآها يوسف لا بد أن تتحقق ، ولا بد للابتلاء أن يكون ، ورفع الدرجات للصابرين صبراً جميلاً ، وصفة " الجميل " تعني الثبات على تحمل الشدائد ، والكمال في الصفات : " فصبر جميل " وهناك الهجر الجميل ، والتسريح الجميل والصفح الجميل ..... وهي صفات محببة إلى الله تعالى وإلى خلقه . وكان مما صبّر الله تعالى يوسف وهو في الجب أنه سينبئ إخوته بفعلتهم الشنيعة هذه وهم لا يشعرون بذلك " وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " فعلم يوسف أنه في محنة سوف ينجيه الله منها ، فما عليه إلا أن يصبر .
    13- دعاء رائع دعا به يوسف عله السلام ، وهو في الجب ، - يُقال : إن جبريل عليه السلام علمه إياه ليفرج الله تعالى كربته وينقذه مما وقع فيه ، نذكره – على ما يقال في صحة قصته ونسبته إلى الإسرائيليات ، فهو توجه صادق إلى الله تعالى : (اللَّهُمَّ يَا مُؤْنِس كُلّ غَرِيب , وَيَا صَاحِب كُلّ وَحِيد , وَيَا مَلْجَأ كُلّ خَائِف , وَيَا كَاشِف كُلّ كُرْبَة , وَيَا عَالِم كُلّ نَجْوَى , وَيَا مُنْتَهَى كُلّ شَكْوَى , وَيَا حَاضِر كُلّ ملإ , يَا حَيّ يَا قَيُّوم أَسْأَلك أَنْ تَقـْذِف رَجَاءَك فِي قَلْبِي , حَتَّى لا يَكُون لِي هَمّ وَلا شُغـْل غَيْرك , وَأَنْ تَجْعـَل لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا , إِنَّك عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير). والدعاء مخ العبادة ، وعلامة العبودية لله تعالى وسبيل التذلل إليه . " وقال ربكم ادعوني أستجِبْ لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " .
    14- ولا ننسَ أنّ ما يُؤخذ بالقليل ، يُباع بالقليل ، فلما أخذه الواردون من البئر دون ثمن ، باعوه " بثمن بخس دراهم معدودة ، وكانوا فيه من الزاهدين " إن الآباء حين يبذلون قصارى جهدهم في تعليم أبنائهم الدين الحنيف ، ويربونهم عليه ، ويأطرونهم عليه ، فيكون الإسلام مدار حياتهم يتمسك الأبناء به ويجعلونه نبراسهم في كل أمورهم ، ويحافظون عليه حفاظ الشحيح على ماله والأم الرؤوم على ولدها . وحين يكون أثر الإسلام في نفوس الأبناء قشرة ضعيفة وغلالة رقيقة يهون عليهم ، فيضيّعونه غير آبهين ولا مهتمين بما يُحاك له ولهم

    تعليق


    • #3
      تأملات تربوية في سورة يوسف (3)
      الدكتور عثمان قدري مكانسي



      1- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمعاملة الخدم والعبيد معاملة إنسانية طيبة ، فهم بشر مثلنا ، لهم أحاسيس ومشاعر، يسعدون للكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة ، ويألمون للكلمة السيئة وسوء المعاملة بل إن النبي صلى الله علية وسلم أمرنا باللطف في نداء الخادم والحديث عنه فقال : "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ولا يقولن المملوك ربي وربتي وليقل المالك فتاي وفتاتي وليقل المملوك سيدي وسيدتي فإنكم المملوكون والرب الله عز وجل " فيدعو المالكُ مملوكه بـ : يا فتى ، وينادي المملوك ُمالكه : سيدي . كما أُمرنا أن لا نتميّز عنهم بطعام أو لباس " من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ومن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله " .
      ونرى العزيز الذي اشترى يوسف عليه السلام عاقلاً يأمر زوجته ان تحسن إليه ، فقد يرد إليهما الإحسان إحساناً حين يكبر في دلهما إياه وحسن تصرفهما إزاءه ، وقد يتبنيانه إذا رأيا فيه الصلاح والنجابة " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته : أكرمي مثواه ، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً " وهكذا هيأ الله تعالى ليوسف الحياة الطيبة مع هذا الرجل الأريب الذي ظهر لنا رجاحة عقله في أمور منها ماقاله آنفاً في الإحسان إلى يوسف ، وحين تبين له خطأ زوجته وانكشاف أمرها ، فعقـّب " إنه من كيدكنّ ، إن كيدكنّ عظيم " وحين طلب إلى يوسف أن يتجاوز الأمر ويتناساه فلا ينبغي أن يخرج الخبر إلى حيّز الإحراج والنيل من هيبة العزيز ، فأوحى بكلمة ( أعرض ) إلى صدق يوسف إذ لم يتهمه ، إنما طلب إليه بتعطف أن يتجاوز الأمر . كما وبخ المرأة وطلب منها الاستغفار لخطئها العظيم ، حين جعلها من ( الخاطئين ) لا الخاطئات فقط ، وهذا دليل على استعظامه الأمر وقوة توبيخه إياها " يوسفُ أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك ، إنك كنت من الخاطئين " كما أن كلمة ( الخاطئين ) توحي بأن الزنا ذنب كبير وفاحشة عظيمة ، أفعله الذكور أم الإناث .
      2- أعتقد أن في الآيات ما يؤكد أن يوسف الشاب لم يهم بها كما همّت به لأسباب ذكرت في معرض القصة تؤكد ذلك ، منها : أ- أنه الله تعالى وهبه حكمة تمنعه من السفاهة وعلماً بالحلال والحرام ، رفعه إلى رتبة الإحسان " ولما بلغ أشدّه آتيناه حكمة وعلماً وكذلك نجزي المحسنين " فالحكمة والعلم الحقيقيان حصن من الزلل، وأما الإحسان فأن تعبد الله كأنك تراه ، ومن كان يرى الله بقلبه وحاز الحكمة والعلم لم يهمّ ،
      ب- إذا أراد الله بالإنسان خيراً صرفه عن السوء والفحشاء ، فكيف إذا صرف الله تعالى السوء والفحشاء عن الإنسان؟! إنه إذاً لكريم على الله كثيراً
      ج- والمسلم السعيد يخلص لله في العبادة والالتزام ، حتى يصير مخلِصاً – ( اسم فاعل ) فإذا أخلص لله جعله الله من المخلَصين . فكيف إذا جعله الله ابتداءً مخلـَصاً ( اسم مفعول ) إنه لفضل عظيم من الله تعالى .
      د- ولولا تفيد امتناع حصول الشيء لوجود مضادِّه ، فلولا رؤية برهان ربه لهمّ بها ، فامتنع الهم لرؤية يوسف عليه السلام برهانَ ربه .
      " ولقد همّت به . وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه ، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلـَصين "
      هـ- واستباقهما الباب ، هي تلحق به لتمنعه من الخروج ، وهو يريد الهرب بنفسه ، فقدّت قميصه من دبر دليل على عدم الهم بها .
      3- ويكون إصدار الحكم الصحيح بعد المعاينة ، ولا يجوز للعواطف والانفعالات أن تؤثر في القاضي النزيه ، فالمرأة حين خافت على نفسها الفضيحة أمام زوجها أسرعت بالدافع الأنثوي السريع ( والهجوم خير وسيلة للدفاع ) تتهم يوسف بالرغبة في الفحشاء وسوء الأدب وأنه لم يراع حرمة من آواه وأحسن إليه فحاول هتك عرضه وشرفه ، ثم تسارع إلى اقتراح العقوبة المناسبة : إما السجن أو العذاب . كما أنها لخبثها ودهائها أقرت العقوبة بطريقة الاستفهام " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يُسجن أوعذاب أليم ؟ "
      وعلى المتهم البريء أن يدافع عن نفسه ، ولا يتخاذل أمام جبروت الظالم مهما كان الظالم ذا مكانة اجتماعية تفوقه ، أو له دلّ على المتهم ، فالحق يجب أن يظهر ، ومقارعة البهتان والظلم واجبة " قال : هي راودَتـْني عن نفسي " فلا بد إذاً من البينة التي تحق الحق وتبطل الباطل . وقد ظهرت البينة بتمزيق قميصه من الخلف ، أمسكت المرأة بقميصه بقوة تستبقيه وهو يسرع هارباً ، فتمزق من الخلف ، ولو كان يريدها وهي تأبى لتمزق القميص من الأمام .
      4- القميص أمره عجيب ، وعليه دارت رحى القصة :
      فقميصه (الأول) الذي حمله إخوته إلى أبيهم لم يكن ممزقاً ، فكشف كذبهم
      وعرّاهم وبين تآمرهم .
      وقميصه (الثاني )الذي مزّقته امرأة العزيز من الخلف برّأه بإذن الله وكشف
      دعوى المرأة الكاذبة .
      وقميصه (الثالث) الذي حمله أحد إخوته إلى أبيه كان – بإذن الله- سبب عودة
      البصر إلى أبيه ، وقدوم الجميع إلى مصر ليلتئم الشمل .
      5- لم تستنكر نساء الذوات أن تعشق المرأة منهن شاباً تقطف معه الثمرة المحرمة ، فهذا – في المجتمع الكافر – أمر عادي . إنما كان استنكارهن أن تتهاوى امرأة العزيز أمام خادم تملكه ، ومتى كانت نساء الطبقة الراقية يتعلقن بعبيدهنّ ، لقد أخطأت –إذاً – خطأ كبيراً ، وضلت ضلالاً بعيداً ... ولاكت ألسنتهنّ تعلقها بيوسف ، وافتضاح أمرها بينهن فصارت قصتهما مثار التفكه والتندّر . وأرادت ان ترغمهن وتقطع ألسنتهنّ ، فدعتهنّ إلى قصرها واستقبلتهنّ استقبالاً كريماً وقدمت لهن مالذ وطاب من جنيّ الفاكهة ، فلما انشغلن بذلك أمرت يوسف أن يدخل عليهنّ ، فلما رأين هذا الجمال الأخّاذ سحرهنّ وأخذ بألبابهنّ ، وطغى عليهن بهاؤه فجرحن أيديهنَ بالسكاكين دون أن يشعرن ، " وقلن حاشَ لله ، ما هذا بشراً ، إن هذا إلا ملك كريم "
      وهنا تغتنم امرأة العزيز الفرصة لتقول : إنكنّ رأيتنّه مرة واحدة فملك عقولكنّ وبهركنّ حسنه ، فلِمَ تلمنني فيه وهو بين يديّ كل صباح ومساء ، فأذوب في حبه ، وأحلم ليلي ونهاري بوصاله . ثم تجترئ – أمام تهافتهنّ -على طلب الفاحشة والإصرار عليها ، ويشاركنها بذلك فيطلبن منه ما طلبت . وزادت فحشاً حين هددته كرة أخرى بالسجن إن استعصم ، وأبى ، فينضممن إليها ويسألنه ذلك ، والدليل على ذلك قوله " وإلا تصرفْ عني كيدهن أصْبُ إليهنّ وأكنْ من الجاهلين " وقوله في تحقق الملك منهنّ حين سألهنّ : " ما خطبكنّ إذ راودْتُنّ يوسف عن نفسه ؟"
      6- ويتعلق يوسف عليه السلام بحبل من الله قوي ، ويسأله السلامة من الفاحشة ، وأن يصرف عنه كيدهنّ ، وينجيه منهن ومن فسادهنّ ، فينقذه الله تعالى مما هو فيه .
      وليس للمؤمن من عياذ إلا بالله ولا ملجأ إلا إليه ، ولا اعتماد إلا عليه . فهو – سبحانه –
      الحصن الحصين والملجأ الأمين . إلا أن يوسف وهو تحت ضغط التهديد بارتكاب الفاحشة أوالسجن ، قال : " ربّ ؛ السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه .." ولم يختر النجاة منهما جميعاً: وَقد حُكِيَ أَنَّ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام لَمَّا قَالَ : " رب السِّجْن أَحَبّ إِلَيَّ " أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ " يَا يُوسُف ! أَنْتَ حَبَسْت نَفْسك حَيْثُ قُلْت السِّجْن أَحَبّ إِلَيَّ , وَلَوْ قُلْت الْعَافِيَة أَحَبّ إِلَيَّ لَعُوفِيت " . فعلى المسلم أن يسأل الله تعالى العافية والنجاة من كل بلاء . " إنه هو السميع العليم "
      7- مما يتألم له الإنسان الحر أن المفسدين المتنفذين غالباً ما يضحون بالأبرياء ليتخلصوا من آثار مفاسدهم ومخازيهم . إننا لنشم رائحة فجور النساء ينضم إلى صفاقة امرأة العزيز ، فيملأ خياشيم الرجال بنـَتـْن خطيئاتهنّ ، ولا يرى هؤلاء لوأد هذه الفضيحة سوى تغييب الضحية البريئة في أحد السجون فترة من الزمن فتنساه النساء أو تتناساه ، ولا يرين إليه سبيلاً فييئسن منه . وهكذا يدفع الطاهر العفيف ثمن طهره وعفافه ، سجناً وألماً وغصة ، نرى هذا في عالمنا السياسي حيث يُلقى الحر في السجون والمعتقلات ، أو يحكم عليه بالموت لأنه أبى الدنية ورفض الذل والتمرغ في أوحال الخيانة والعمالة ، وفي حياتنا الاقتصادية ،إذ يتسنم المسؤولية حيتان المال ، يذللون القوانين لتكديسه في أرصدتهم، ويتخمون به على حساب الفقراء الذين لا يجدون ما يسد رمقهم . فإذا زكمت رائحتهم الأنوف وانكشف أمرهم تنصلوا من المسؤولية ودفعوا صغار عملائهم ضحايا لصوصيتهم ...
      8- يغتنم الداعية الفرص السانحة لإيصال دعوته للناس ، ويستمر في أداء مهمته في كل الظروف والأحوال . فيوسف عليه السلام كان داعية فيمن حوله حين كان حراً يتنقل بين القصور وفي الأسواق والتجمعات ، ولا يتوقف عن هذا حين يدخل السجن ، فيخدم هذا ويساعد هذا، ويخفف الأسى عن ذاك . حتى لقب بيوسف الصديق وعرف بالإحسان بين المسجونين...يسألونه ويستشيرونه ، ويستفتونه ، وهو يدعوهم إلى عبادة الله ويجيبهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
      يسأله فـَتـَيان عن رؤياهما ، ويجلسان بين يديه ينتظران التأويل ، فيعرض عليهما الإيمان بالله الواحد ونبذ الشرك ، وأن علمه الذي ينشره بن الناس من فضل الله تعالى الواحد الأحد، ويعرّفهم على سبيل الصالحين قبله .
      ولا بد من سلوك سبيل الإقناع في الدعوة ، وهذا ما فعله يوسف عليه السلام الداعية الذكي ، إذ بدأ يقارن بين الصواب وإيجابياته والخطأ وسلبياته ، " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " وينتقل إلى الحديث عن فساد الكون لوكان فيه أكثر من إله " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ويطنب في الحديث لأن الفتيين خاليا الذهن مما يقول فلا بد من تفصيل الفكرة والإسهاب فيها ، فيقول : بنجم الفساد عن تنافس الشركاء ، وتفرقهم بعد الخصام ، ولعل بعضهم أقوى من بعض فيعلو القوي على من هو أضعف منه " إذاً لذهب كل إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض ..."
      فإذا ما دعاهم إلى الإيمان بالله الواحد والتسليم له سبحانه يعرض لما يسألون ويوضح لهم ما يستفتون .
      9- ولعل يوسف عليه السلام حين قال للساقي الذي نجا وعاد إلى خدمة الملك " اذكرني عند ربك " وبين له أن في السجن مظلوماً لم يرتكب ذنباً . ولعل هذا القول من يوسف في بسط القول ، والبحث عن الحق ، فكانت العقوبة لسيدنا يوسف حين توسط للمخلوق بالمخلوق ( توسط للملك بالساقي ) فأنسى الشيطان الساقي ما طلبه يوسف عليه السلام منه ،
      ولم أرتح لمن قال : إن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله واللجوء إليه ، فليس للشيطان سبيل على الأنبياء .. إنه اجتهاد من يوسف أخطأه حين التمس النصرة من البشر ، فلبث في السجن سبع سنوات " فأنساه الشيطان ذكر ربه ، فلبث في السجن بضع سنين " .
      10 – من الأدب في إبداء الرأي أن الملك حين رأى سبع بقرات هزيلة تأكل سبع بقرات سمان ، وسبع سنابل يابسات تأكل سبع سنابل خضراستفتى العارفين وأصحاب المشورة فقال : " يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي " . وهذا يذكرنا بقول بلقيس : " يا أيها الملأ أفتوني في أمري " فماذا كان من أهل العلم والمشورة؟
      أ- اعترفوا بعدم العلم ، وهذا عين الصواب ، فما ينبغي لأحد أن يفتي بغير علم .
      ب- لكنْ لابد من إبداء الرأي ، فقالوا " أضغاث أحلام " .
      جـ- ولم يدّعوا أنْ لا تأويل لها ، ولعلهم أرادوا محوها من نفس الملك كي لا ينشغل بها .
      د- بعض الناس قالوا : إن الرؤيا أول ما تعبّر ، وليس صحيحاً ، فبعد أن قالوا : أضغاث
      أحلام أوّلها يوسفُ عليه السلام .
      11- ومن الأدب كذلك أن تعرف حق العلماء من التوقير والاحترام ، وهذا ما رأيناه عند الساقي حين التقى يوسف عليه السلام في السجن فكلمه بـ " يوسف أيها الصدّيق " ، إن إكرام العلماء من إكرام العلم . وقد نرى في قول الساقي " لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون " أن من معاني يعلمون " التعبيرللرؤيا ، فيعلمون قدر يوسف ، فيبحثون أمره وينصفونه " .
      12- الكرامة والعزة من صفات المسلم ... طلب الملك رؤية يوسف ، بل أمر بإخراجه من السجن وقال : " إيتوني به " وكان ليوسف أن يخرج من السجن فقد جاءته الفرصة السانحة . إلا أنه دخل السجن بتهمة شنيعة هو بريء منها ، ولن يخرج بعفو أحد ولوكان الملكَ . إنه يريد أن يخرج طاهراً عفيفاً بريئاً من كل تهمة شائنة . وتعجب الملك والناس ... ووقر في نفوسهم أن الرجل صادق ، فلا بد من البحث عن حقيقة سجنه وتعترف النساء بعد سبع سنين بالحقيقة " قلن حاشَ لله ، ما علمنا عليه من سوء " وأقرت امرأة العزيز بذنبها ، وشهدت بصدق يوسف عليه السلام " قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين " فيرتفع صوت الصدّيق يوسف وهو في السجن معلناً أنه الأمين الذي لم يخن من رباه وأمنه على عرضه وماله " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ، وان الله لا يهدي كيد الخائنين " وهنا يأمر الملك بإحضاره ليجعله مستشاره الشخصي " إيتوني به أستخلصْه لنفسي " فزاد على الجملة الأولى " أستخلصه لنفسي "
      ولما مثل بين يديه اختبره ، فكلمه ، فأعجب به فقربه إليه " فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين " المكين في مكانته ومنزلته ، الأمين في مشورته ورأيه .
      13- هل يجوز للمسلم أن يطلب الإمارة ؟ فهو إما أن يكون أهلاً لها أو لايكون ...
      فإن لم يكن أهلاً لها فهو خائن لله ولرسوله وللمؤمنين يريد ان يتبوّأ عملاً ، فيفسده .
      وإن كان أهلاً لها وطلبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري : " لا نستعمل على عملنا من أراده " وقال لعبد الرحمن بن سمرة " يا عبد الرحمن ؛ لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتَها عن مسألة وكلْتَ إليها ، وإن أُعطيتَها عن غير مسألة أُعنتَ عليها " وكان أبو موسى الأشعري من أهلها إذ كان أميراً على الكوفة لعمر رضي الله عنهما .
      أما يوسف عليه السلام فقد قال للملك :" اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " لأسباب منها : أ- أنه نبي ، والنبي قائد وأسوة ومعلم ، وهو أولى الناس بتحمل المسؤولية .
      ب- أنه المسلم الأول في مصر وليس هناك غيره يفعل فعله .
      جـ - أنه صاحب التأويل ، وهو أولى الناس بتنفيذ ما أوّله ... والله أعلم .
      ومع ذلك لاننسَ قول النبي صلى الله عليه وسلم " رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ، ولكنْ أخّر ذلك عنه سنة "
      عن القرطبي في تفسيره



      تعليق


      • #4
        تأملات تربوية في سورة يوسف (4)


        1- " وجاء إخوة يوسف ، فدخلوا عليه ، فعرفهم ، وهم له منكرون " . لا شك أنه عرفهم فهم رجال ، قد اكتمل نموهم حين ألقوه في الجب ، ولم يتغيروا كثيراً بعد ثلاثة عقود ، كما أنهم جاءوا معاً وعددهم عشرة ، يتكلمون العبرية – لسانَ اليهود – وكل هذا ملفت للنظر ، كما أنه يتوقع مجيئهم . أما يوسف فقد كان صغيراً ، وتغيرت ملامحه كثيراً حين اكتملت رجولته ، فلن يعرفوه ، كما أنهم اعتقدوا موته ، وانتهى أمره عندهم ، وما عادوا يفكرون فيه ، ولم يكونوا – لو أخذته قافلة - يتصورون أين سينتهي به المطاف لو بقي حياً ، ولئن استقر به المقام في مصر ، فلن يكون سوى عبد ذليل وخادم لايؤبه له ، ولن يخطر ببالهم أنه الوزير المتنفذ الذي بيده هذا السلطان كله ، وأن الله تعالى مكن له في الأرض ، فبات يُشار إليه بالبنان ، ويقصده الناس من قريب وبعيد كما يفعلون الآن .
        ولنتصور الآن الحديث بينه وبينهم بالمصرية ، ولعلهم يعرفونها أو هناك مترجم ، فيوسف لم يكن يريد أن ينبههم إلى أنه يعرف لغتهم فينتبهوا له ، ويروزوه :
        من أي البلاد قدمتم ؟
        من أرض كنعان .
        أراكم تتشابهون ، فهل أنتم من عشيرة واحدة أو بينكم قرابة؟
        بل نحن إخوة ، وأبونا واحد ، هو النبي يعقوب .
        أأنتم جميعاً ابن رجل واحد ؟
        نعم ، ولنا أخ آخر بين يدي والده لا يفارقه لحظة واحدة ، فهو متعلق به كثيراً .
        ويكرمهم يوسف عليه السلام ، فيجعلهم ضيوفه ، ثم يأمر فتيانه أن يملأوا أوعيتهم بالقمح ويزيدوهم في الكيل ، ويطلب منهم أن يأتوا بأخيهم في المرة القادمة فيَثبُت صدقُهم ، فإن لم يفعلوا فليسوا صادقين في ذلك ، وسيمنعهم من دخول مصر ويأبى أن يَميرهم ....
        وذكرنا قصتهم في المقال الأول من التأملات ، فلنعد إليها .
        2- قد يظن أحدهم أن أبناء يعقوب هم الأنبياء من الأسباط ، وهذا وهمٌ تـُسقطه القرائن ، بل الأنبياء من أحفاد أبنائهم ، إن النبي قدوة ، وهؤلاء ليسوا قدوة ، وخطؤهم كثير وكبير استمر معهم حتى صاروا كهولاً وهم حتى اللحظة الأخيرة يسيؤون إلى أخيهم يوسف ، ومن أساء إلى أخيه فلا بد أن تكون إساءاته للناس متواترة . " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " ويقول يوسف في نفسه متألماً " أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون " كما أننا نجد عدم احترامهم لأبيهم - وأبناؤهم مثلهم - فيلومونه لوماً أقرب إلى التوبيخ حين يخبرهم أنه يجد ريح يوسف " تالله إنك لفي ضلالك القديم " وهم يعترفون أمام يوسف بخطئهم اعتراف المحاط بهم حين يكشف لهم عن نفسه " تالله لقد آثرك الله علينا ، وإن كنا لخاطئين " ويسألون أباهم أن يعفو عنهم ويستغفر لهم " قالوا : يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا ، إنا كنا خاطئين " وهل يصبحون أنبياء حين يهرمون ويعجزون وهم الخاطئون ؟ ، وكلمة " الخاطئ " التي تكررت في سورة يوسف تعني : الخطأ العمد الذي يصر صاحبه عليه .
        3- الاستعطاف طريقة تربوية قد توصل للهدف على شرط أن يُقصد به الرجل الشهم المحسن . أما استعطاف اللئيم فذلٌ وخنوع يأباهما المسلم .
        نرى ذلك حين رغبوا في سبيل استنقاذ أخيهم أن يتبرع أحدهم أن يُسترَقّ مكانه ، فأبى يوسف عليه السلام ، فلا عقوبة إلا لمن يستحق العقوبة ، والقاعدة الشرعية تؤكد " ولا تزر
        وازرة وزر أخرى " وأعلن هذا قائلاً " معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده "
        4- يبدو أن الرجولة والخبرة في الحياة وتحمل المسؤولية زمناً طويلاً والعهودَ والمواثيق ،
        والخوف من الوقوع في الخطأ مرة أخرى تخفف من غلواء الفساد ،
        فهذا كبيرهم ( وقد يكون أكبرَهم عمراً أو مكانة ) يشعر بعظم المسؤولية . فلما خلصوا يتناجون ويقلبون الأمور لم يستحسن العودة إلى فلسطين خوفاً وخجلاً من لقاء أبيه حين يعود دون بنيامين ، ومن قبل فرّط في الحفاظ على يوسف وجارى إخوته في التخلص منه " قال كبيرهم : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ، ومن قبل ما فرطتم في يوسف " لقد طفح الكيل ، وما عاد يحتمل ، فقرر أن يظل في مصر قرب أخيه بنيامين حتى يأذن له أبوه أو يأتي الفرج من الله : " فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين " وهذا دليل على انفراط عِقد العُصبة ثمّ إنه قال : حتى يحكم الله لي . ولم يقل لنا
        ووثـَق الإخوة الذين ذهبوا أمرهم بالاستشهاد بالقافلة التي كانت معهم ، وبسؤال أهل مصر الذين شهدوا الحادثة ،
        5- الأمل بالله والوثوق به سمة المسلم إن قلب الأب كان مكلوماً فلم يصدقهم ، وكرر قوله السابق " بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ."
        فقد بـَعُد ثلاثة من أولاده عنه :
        أما أولهم : فيوسف الذي غاب عنه عقوداً وهو لا يعلم عنه شيئاً ، الولد الغائب الذي لا يدري أبوه أحي هو أم ميت ، أين يقيم ، وكيف يحيا غيبته أشد من غيبة غيره إلا أن يعقوب عليه السلام كان يعلم أن ابنه حي بسبب الرؤيا التي رآها يوسف ، وهو ينتظر تحقيقها ، فيجتمعُ به .
        وأما ثانيهم : فبنيامين الذي يقبع في أسر عزيز مصر ، يعرف أبوه مكانه إلا أنه لا يستطيع القدوم ، وأمره صعب لكنه أقل صعوبة من حال يوسف الغائب الذي لا يعلم عنه شيئاً .
        وأما ثالثهم : فالكبير المنفي طوعاً ، لا يجرؤ على العودة ولقاء أبيه
        إنها لمصيبة كبيرة علاجها اللجوء إلى الله تعالى والصبر عليها . " فصبر جميل ... "
        إلا أن المصيبة تصغر حين تكبر ، وتضعف حين تشتد ، فقال ، وثقته بالله ثابتة : عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً ، إنه هو العليم الحكيم " وقال معلماً أبناءه اللجوء إلى الله في كل شيء " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون " ويدفعهم إلى طرح اليأس والتشمير عن ساعد الجد والبحث في مصر نفسها ، فهناك الأخوان الغائبان يوسف وبنيامين يقيمان ، وقد دنت ساعة الفرج أما الكبير فقد عاد بعد أن أذن له أبوه بالعودة " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله " بل إنه ليجد ريح يوسف حين خرج أخوه بقميصه إلى الأب الحزين .
        6- العفو سبيل الصالحين حين يقبل على يوسف إخوتـُه للمرة الثالثة ، قد مسهم الضر من تضعضعٍ في العيش الأسْري ، وفقر واضح ، وانكسار بيّن " فلما دخلوا عليه قالوا : يا أيها العزيز ؛ مسنا واهلَنا الضر ، وجئنا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا ، إن الله يجزي المتصدقين " ويرى يوسف أنهم تعلموا الدرس يكلمهم بالعبرية – لغتهم – مؤنباً " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ؟ " وأرى كلمة " إذ أنتم " غيرَ قوله تعالى " إذ كنتم " فالثانية للماضي ، والأولى للماضي والحاضر . فما تزالون تخطئون ولا ترعوون .... ويذكر سبيل الإحسان ... إنها التقوى والصبر " إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين "
        وحين يطلبون الصفح يصفح عنهم دون لوم ولا عتاب . بل يدعو لهم بالخير ، وهذه قمة العفو والتسامح ، وهذا دأب الصالحين " لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين " وكذلك يفعل الأب حين يستغفر اللهَ لهم ، ويعفو عنهم .
        بل إن يوسف عليه السلام يبلغ القمة في الصفح والغفران حين يتناسى ما فعله إخوته به حين ألقوه في الجب ، ولا يذكرُه كي لا يشعروا بالحرج ، ولا يذكر إلا كربته في السجن ، ويعزو إلى الشيطان وحده ما كان بينه وبين إخوته " ... وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ، وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ."
        7- التواضع والتذلل إلى الله دأب الصالحين
        - الله تعالى أحسن به إذ أخرجه من السجن ، وجاء بأهله من البدو.
        - الله سبحانه مَن آتاه الملك ، وعلمه من تأويل الأحاديث .
        - يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .
        - إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون.
        - عسى الله أن يأتيني بهم جميعا .
        - وما أبرئ نفسي ،إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي. إن ربي غفور رحيم.
        - ذلك مما علمني ربي .
        ولن يكون المُلـْكُ والعلم للصالحين سبيلَ عظمة وتكبر ، إنما هو سبيل إلى التواضع والشكرِ للمنعم المتفضل . بل يدفع صاحبه أن يسأل الله تعالى أن يجعل ذلك مقدمة للجنة وبشرى الرضا في الآخرة " رب قد آتيتني من الملك ، وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطرَ السموات والأرض ؛ أنت وليي في الدنيا والآخرة . توفني مسلماً ، وألحقني بالصالحين . "
        ونحن معشر المسلمين نتعلم من يوسف عليه السلام أن الدنيا دار اختبار وأن الآخرة دار قرار ، اللهم توفنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ....


        تعليق

        يعمل...
        X