السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المقدمة :
إن الإنسان عقيدة تمشي على الأرض، فهو لا يصدر إلا عما يعتقد، ولا يفعل إلا ما يؤمن به، وإن هو سلك على خلاف معتقده، لم يزل به القلق وتأنيب الضمير حتى يرده إلى سبيل عقيدته، صحيحة كانت أو باطلة.
وعلى قدر صحة عقيدة الإنسان وسلامتها أو بطلانها واعتلالها، يكون حسن خلقه واستقامة سلوكه أو سوء ذاك وانحراف ذا، تجاه الخالق والخلق على حد سواء. وعلى قدر الاستقامة أو الانحراف يكون طيب الآثار أو خبثها على جنس الإنسان، وعلى محيطه الكوني بما يحويه من عجماوات وجمادات.
لذا كانت منهجية القرآن الكريم في بناء الإنسان قد وجهت الاهتمام الأكبر نحو تصحيح العقيدة، باعتبارها الأصل الذي عنه تتفرع جميع مظاهر الحياة الإنسانية، والطغراء التي تترك طابعها على كل مناحي نشاطات الإنسان، صغيرة وكبيرة.
وفي هذا السياق، يأتي هذا المقال محاولة متواضعة، سبيلها الاشتغال المباشر على استخلاص الدروس العقدية واستنطاقها من النص المؤسس لها، وهو القرآن الكريم، من خلال اعتماد مفهوم الخشية أنموذجاً، باعتباره مفهوماً عقدياً أخلاقياً يجب أن يحكم العلاقة بين الإنسان ومولاه تعالى، وأن تحكم آثاره العلاقة بين الإنسان ونفسه وغيره.
ولتبين المعنى السياقي لمفهوم الخشية، ارتأيت أن علي طرح أربعة أسئلة، ثم محاولة الإجابة عنها، وكل ذلك بناء على استقراء المواضع التي ورد فيها الجذر «خشي» في القرآن الكريم، وتحليل سياقاته، والأسئلة الأربعة هي:
عناصر الموضوع :
1. ما محددات الخشية وما مظاهرها، أو ما صفات الإنسان الذي يخشى؟
2. مم يجب أن يخشى هذا الإنسان؟
3. مم يجب أن لا يخشى؟
4. ما جزاء الخشية، أو لماذا الخشية؟
1) محددات الخشية، أو صفات الإنسان الذي يخشى:
أولاً المعنى الوضعي للجذر «خشي» هو الخوف، وقد يستعمل مجازاً بمعنى العلم[1]. وذكر الراغب[2]رحمه الله في «المفردات» أن «الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها»[3].
أما المعنى السياقي للخشية، فبيانه ما يلي:
الذكرى من آيات الخشية:
ترتبط الخشية في كثير من السياقات القرآنية بالتذكر والاعتبار والانتفاع بالنذارة الموحاة، باعتبارها أظهر مميزات الإنسان الذي يخشى الله تعالى، والفضل في هذا راجع إلى سلامة قلبه المطبوع بوصف الإنابة، فهو دائم الرجوع إلى مولاه عز وجل كلما أحس ابتعاداً، بخلاف قلوب الذين يخشون غير الله المريضة.
يقول الله سبحانه: {فَذَكِّرْ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى 9 سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى: 9، 10].
ويقول سبحانه: {طه 1 مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى 2 إلَّا تَذْكِرَةً لِّـمَن يَخْشَى 3تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى} [طه: ١ - ٤].
ويقول سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
الخشية أفق للعلم:
ثم إن الإنسان لا يتخلق بالخشية وينتفع بخصائصها ما لم يكن لبيباً عالماً، فبالعلم يتبين الحق من الباطل، فيعرف ربه، وآلته في سبيله ذلك؛ عقله، والثمرة المرتجاة من العلم الحق هي خشية الحق جل وعز.
يقول الله سبحانه: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
ويقول سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْـحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ 19 الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْـمِيثَاقَ 20 وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْـحِسَابِ} [الرعد: 19 - 21].
الخشية قوة إيمان:
الخشية قوة إيمان لأنها خشية لله بالغيب، ولا إيمان إن لم يكن أولاً بالغيب، ولأنها زيادة في الإيمان، أما خشية غير الله فهي إلى الشرك أقرب، إن لم تكن هي نفسها شركاً.
يقول الله سبحانه: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: ١١].
ويقول سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
ويقول سبحانه: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 13].
• التقوى تجلية للخشية:
التقوى خشية وزيادة، وبيان هذا الأمر أن التقوى طاعة الله، ومعناها الحرفي وضع وقاية بين العبد وغضب ربه بطاعته، وهي بهذا الاعتبار، التجلية المثلى لخشية الله، فهي تعمل على تجلية الخشية التي هي عمل قلبي من خلال ضمها إلى أعمال أخرى ظاهرة كالإنفاق والمسارعة في الخيرات وإعمار المساجد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وجعل هذه المجموعة كاملة مضموماً بعضها إلى بعض، من صفات المتقين.
يقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ 48 الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 48، 49].
ويقول سبحانه: {إنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ 57 وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 58 وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ 59 وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ 60 أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْـخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61].
ويقول سبحانه: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52].
الخشية لازم الاهتداء:
عندما يهتدي الإنسان إلى مولاه تعالى، فإنه لا يملك إلا أن يخشاه، فإن لم يخشه ففي اهتدائه ريب.
يقول الله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى 15 إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْـمُقَدَّسِ طُوًى 16 اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى 17 فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى 18 وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 15 - 19].
ويقول سبحانه: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْـمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
قال الطبري (ت310هـ) رحمه الله: «يقول تعالى ذكره: إنما يعمر مساجد الله المصدق بوحدانية الله، المخلص له العبادة، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يقول: الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياء من قبورهم يوم القيامة، وأقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له، {وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ} يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه سوى الله، {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْـمُهْتَدِينَ} يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفاتهم أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحق وإصابة الصواب»[4].
2) مم يجب أن يخشى هذا الإنسان؟
الخشية حق خالص لله تعالى، لا يبذل لغيره كائناً من كان.
خشية الله جل جلاله:
يقول الله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150].
ويقول سبحانه: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا38 الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 38، 39].
قال الزمخشري (ت 538هـ) رحمه الله: «{حَسِيبًا} كافياً للمخاوف أو محاسباً على الصغيرة والكبيرة، فيجب أن يكون حق الخشية من مثله»[5].
خشية الرحمن سبحانه:
يقول الله سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْـجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ 31 هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ 32 مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ 33 ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْـخُلُودِ 34 لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 31 - 35].
ويقول سبحانه: {إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: ١١].
قال ابن عاشور رحمه الله: «والتعبير بوصف {الرَّحْمَنَ} دون اسم الجلالة لوجهين... الثاني: الإشارة إلى أن رحمته لا تقتضي عدم خشيته، فالمؤمن يخشى الله مع علمه برحمته، فهو يرجو الرحمة»[6].
خشية الساعة:
وخشية الساعة خشية لله تعالى، فليس في يوم القيامة ما يخشى إلا حسابه العسير وعقابه الشديد.
يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: ٣٣].
تابعونا مع :
3) مم يجب أن لا يخشى الإنسان؟
عدم خشية الظالمين
عدم خشية الناس
عدم خشية الكافرين
عدم خشية أهل الكتاب
عدم خشية الفقر
وتابعونا مع :
4) جزاء الخشية
المغفرة والأجر
الفوز بالجنة
الرضا
تعليق