عشارية القرآن
خالد أبو شادي
المقدمة
المؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حَسُن من فعله وما قَبُح منه، فما حذَّره مولاه حذِره، وما خوَّفه به من عقابه خافه، وما رغَّب فيه مولاه رغِب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحِرْزًا، ومن كان هذا وصفه نَفَع نفسه ونَفَع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كلُّ خير في الدنيا والآخرة
قال الله عز وجل: {أَفلاَ يَتَدَبَّرُوْنَ القُرْآنَ} [النساء من الآية:82] إنه الاستفهام التعجبي الاستنكاري من عدم تناول الدواء مع توفره وعظيم أثره وسرعة مفعوله، فلم يكتف الله بإنزال الدواء فحسب بل أنزل هذه الآية لحثِّ الناس على تناوله، ووالله لولا ذلك لكلَّت الأَلسُن عن تلاوته وغفلت القلوب عن أنواره، ألا ما أرحم الله بنا وأحرصه علينا.
يقول سيد قطب عن هذه الآية: "ويتساءل في استنكار: {أَفلاَ يَتَدَبَّرُوْنَ القُرْآن}، وتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرِّك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [النساء من الآية:82]، فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟ فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!".
بل يرى ابن القيِّم قراءة القرآن أنفع الأدوية وأنجعها في علاج القلب، فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعمَّ ولا أنفع ولا أعظم في إزالة الداء؛ من القرآن، فقال في كلام جليل كأنما أُوحي به إليه: "وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة والتي بها فساد القلب وهلاكه".
ويرى ابن القيم أيضاً أن كل ما على المسلم أن يفعله لعلاج قسوة قلبه: أن يقبل على القرآن فيقول: "ملاك ذلك كله: أمران: أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها، وتدبر وفهم ما يراد منه، وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك من كل آياته، تنزلها على داء قلبك، فهذه طريق مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى".
ولأهمية دواء القرآن داوم عليه الصالحون حتى في أحلك الظروف، فلما وقعت في رجل عروة بن الزبير الآكلة، فقال له الوليد بن عبد الملك: اقطعها. قال: لا، فترقَّت إلى ساقه، فقال الوليد: اقطعها وإلا أفسدت جسدك، فقُطعت بالمنشار وهو يسبِّح لم يمسكه أحد، فقال: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا} [الكهف من الآية:62]، ولم يدع وِرْدَه تلك الليلة!!
ولأهمية هذا الدواء حافظوا عليه حتى آخر لحظات الحياة، وتشبثوا به، وهم يودِّعون الدنيا، لعلمهم أنه ليس بعدها إلى هذا الدواء سبيل، وليس في الدار المنتقَل إليها قطرة واحدة منه، وهذا ما فهمه الجنيد وعمل بمقتضاه.
قال أبو محمد الجريري: كنتُ واقفا على رأس الجنيد في وقت وفاته، وكان يوم جمعة وهو يقرأ القرآن فقلت: له يا أبا القاسم، ارفق بنفسك قال: "يا أبا محمد، ما رأيتُ أحوج إليه مني في هذا الوقت وهو ذا تُطوى صحيفتي". أيكم سجد!!
ويكمل شهيد القرآن سيد قطب مشاركته في كتابنا ويحكي تأثره بسورة النجم محاولاً معرفة سِر سجود المشركين بعد قراءة الرسول لهذه السورة، وهم على شركهم كما ورد في الحديث الصحيح فيقول: "كنت بين رفقة نسمر، حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب يتلو سورة النجم، فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم، وكان صوت القارئ مؤثرًا وهو يرتِّل القرآن ترتيلاً حسنًا.
وشيئًا فشيئًا عشت معه فيما يتلوه؛ عشت مع قلب محمد في رحلته إلى الملأ الأعلى.
عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام، في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها؛ ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة عند سدرة المنتهى وجنة المأوى.
عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي، وتحلق بي رؤاي، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي، وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى.
ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض، وأمام الأجنة في بطون الأمهات، وعلم الله يتابعها ويحيط بها، وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة، الغيب المحجوب لا يراه إلا الله، والعمل المكتوب لا ينِدُّ ولا يغيب عن الحساب والجزاء، والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد، والحشود الضاحكة والحشود الباكية، وحشود الموتى، وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى، والنشأة الأخرى، ومصارع الغابرين، {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ . فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ} [النجم:53-54].
واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى . أَزِفَتِ الْآزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [ النجم:56-58].
ثم جاءت الصيحة الأخيرة، واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ . وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:59-61].
فلما سمعت: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]، كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقًا إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي لم أملك مقاومته؛ فظل جسمي كله يختلج، ولا أتمالك أن أثبته، ولا أن أكفكف دموعًا هاتنة، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة! وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح، وأن تعليله قريب؛ إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة، لم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها، ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع، وكانت مني هذه الاستجابة، وذلك سر القرآن؛ فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة، وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير؛ فيكون منها ما يكون!".
قلوب المستمعين ثلاثة
قال ابن القيِّم: "والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه.
الثاني: رجل له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة: إما لعدم ورودها أو لوصولها إليه، ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضرًا، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.
والثالث: رجل حي القلب مستعد تُليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب مُلقِ السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة، فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يُبصر، والثاني: بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه فكلاهما لا يراه، والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور وأتبعه بصره وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يراه".
ويكمل بنود هذا المشروع الإمام الآجري في كتابه (آداب حملة القرآن) ويستعرضها قائلًا: "فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حَسُن من فعله وما قَبُح منه، فما حذَّره مولاه حذِره، وما خوَّفه به من عقابه خافه، وما رغَّب فيه مولاه رغِب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحِرْزًا، ومن كان هذا وصفه نَفَع نفسه ونَفَع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كلُّ خير في الدنيا والآخرة".
لذا لابد لك أخي المريض أن تُعطي لهذا الكتاب قدره، وتنظر إليه من اليوم نظرة مختلفة، وتعامله بغير ما اعتدت عليه من قبل، وحين ينير الله بصيرتك ويرفع الغشاوة عن قلبك عندها فحسب ترى ما رأى محمد؛ إقبال من أن القرآن، مفتاح تغيير العالم بأسره، واسمعه حين يقول: "إنه ليس بكتاب فحسب، إنه أكثر من ذلك، إذا دخل في القلب تغيَّر الإنسان، وإذا تغيَّر الإنسان تغيَّر العالم".
وحين تُحرَم هذه البصيرة تفقد مصدر قوتك وبوصلة هدايتك ويصبح "لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة، فتُقرأ عليك سورة يس لتموت بسهولة، فواعجبًا! قد أصبح الكتاب الذي أُنزل ليمنحك الحياة والقوة يُتلى الآن لتموت براحة وسهولة".
تعليق