في سياق الآيات التي فصَّلت خطة المعركة بين أهل الإيمان والمشركين؛ لم تكتفِ الآيات بتوضيح إجراءات المعركة،
وإنما أضافت إليها عنصر الحذر والاحتياط. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا
جَمِيعَا} [النساء: 71]،
وقال عز وجل:{وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن
وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ
وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102].
الحذر من الأعداء - ولو كانت الظروف آمنة مسالمة - أول إجراء يمكن القيام به تجاههم. قال ابن عاشور رحمه الله:
«وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر. وهي أكبر قواعد القتال لاتقاء خدع الأعداء. ومعنى ذلك ألا يغتروا بما بينهم وبين العدو من
هدنة صلح الحديبية، فإنَّ العدو وأنصاره يتربصون بهم الدوائر، ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء»[1].
والحذر في أصله اللغوي يعني الاحتراز عن مخيف[2]. وهذا الاحتراز مطلق، أيْ قد يكون بالسلاح وقد يكون بغيره،
ولذا قال السعدي رحمه الله: «يشمل الأخذ بجميع الأسباب التي بها يستعان على قتالهم ويُستدفَع مكرهم وقوتهم؛ من
استعمال الحصون والخنادق، وتعلُّم الرمي والرُّكوب، وتعلُّم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يُعرَف مداخلهم
ومخارجهم ومكرهم، والنفير في سبيل الله»[3]. فالسعدي رحمه الله يضمِّن الحذر كلَّ ما يدفع مكرهم وقوتهم، وكلَّ ما
يجعل أهل الإيمان في حالة من القوة والجاهزية.
وكل إجراءات الحذر والحَيطة المأمور بها معلَّلة بقوله تعالى:{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَة} [النساء: 102]، فهم في تربص دائم بالمؤمنين! وهذا يعني أنَّ محبتهم للإيقاع بالمؤمنين وتمنيهم
القضاء عليهم كامنة في نفوسهم، فهم ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض عليكم يا أهل الإيمان! أفلا تعون ذلك؟
وهذه الحقيقة التي قررها القرآن الكريم حدثنا التاريخ عن ديمومتها وثبوتها في نفوس الذين كفروا.
والذين كفروا يتوقعون من أهل الإيمان أنَّهم يغفلون عن سلاحهم العسكري وعن متاعهم وممتلكاتهم، فهناك ما يؤشر
على احتمال وقوع الغفلة من أهل الإيمان، ولذلك ورد التحذير الثاني في سياق الأمر بإقامة الصلاة. قال ابن جرير
رحمه الله: «تمنى الذين كفروا بالله، لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم. يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي
تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها، فيميلون عليكم ميلة واحدة. يقول: فيحملون
عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم جملة واحدة، فيصيبون منكم غرَّة بذلك فيقتلونكم، ويستبيحون
عسكركم. يقول جلَّ ثناؤه: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا»[4].
والقرآن الكريم يحدثنا عن أمنية عظيمة للذين كفروا، إنها الميلة الواحدة! أيْ: مستأصِلة، لا يُحتاج معها إلى ثانية[5].
فهناك رغبة جامحة في استئصالكم يا أهل الإيمان، وحنين مدفون في الصدور، لا يطفئه إلا القضاء عليكم. وعلى القول
بأنَّ هذه الآيات نزلت في السنة السادسة من الهجرة، وهي السنة التي وقعت فيها هدنة صلح الحديبية، ووضع الناسُ
فيها السلاح، وانحازت القبائل إلى طرفي الصراع؛ فإنَّ هذا التحذير الذي جاء في وقتٍ آمن يدلُّ دلالة عميقة على عدم
الثقة بالأوضاع الآمنة؛ فإنها تخفي دموية لا نظير لها، هذا من جانب. ومن جانب آخر فإنها تدل على وجوب الإعداد
والحذر والجاهزية الدائمة لصدِّ العدوان ودفع الصائل، قال القرطبي رحمه الله: «وهذا يدلُّ على تأكيد التأهُّب والحذر
من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام؛ فإنَّ الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريطٍ في حذر»[6].
ليست المسألة مجرد عداء، إنها رغبة القضاء التام على أهل الإيمان، الرغبة التي تتوارثها الأجيال الكافرة تلو الأجيال..
إنها حقيقة قرآنية.
تالله! إنَّ العجب ليتملكني من هذا البيان القرآني الذي بيَّن وأوضح طريقة الاستعداد لمواجهة الأزمات المستقبلية،
وخفايا الأوضاع الآمنة وحقائقها، وكمون الشرِّ في نفوس الذين كفروا. كما يتملكني العجب من بعدنا عن هذا الهدي
القرآني: العظيمِ في تأسيسه لمعالجة المسألة، والرؤوفِ الرحيمِ بالمؤمنين منْ أنْ يؤخَذوا على غرَّة وغفلة.
ولقد صدق الله تعالى، ومن أصدق منه قيلاً! ففي المدة التي خضعت لبنود صلح الحديبية، وهي فترة الأمان ووضع
السلاح بين المشركين وحلفائهم وبين أهل الإيمان وحلفائهم.. في تلك المدة نقض المشركون عقد الصلح بقتال حلفائهم
لحلفاء أهل الإيمان، وقامت الحرب مجددًا وانتهت بفتح مكة الكبير.
يُتَبـــــع
تعليق