"ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ" [النساء:17]
لماذا يتوبون من قريب؟
لأنهم ذاقوا حلاوة القرب من الولي الحميد، لأنهم عرفوا مدى غلاوة وعظم أن تكون المناجاة له بلا أي أسوار أو عوائق أو حواجز تمنع التواصل.
إنهم أدركوا كيف أنه مالك الضر والنفع وأن بيده ملكوت كل شيء، عاشوا في ظل رضاه ووده وحبه وكرمه وعفوه وفيض غوثه ولحظات فرجه واستجابته لصرخات أرواحهم.
فلما عاينوا أن الحياة معه هي الحياة وأن الفراق معه هو الخوف والحزن والضياع، امتنّ عليهم بأن تابوا من قريب، لم ينتظروا ولم يقبلوا ولم يتحملوا أن يكونوا في غير مرضاته أو أن تراهم عينه على غير ما يحب ويريد، فعادوا من قريب عادوا مهرولين دموعهم تملأ قلوبهم وأصواتهم يملأها التضرع والتوسل.
أنابوا إليه وانطرحوا على بابه طالبين منه العفو والسماح والغفران، يقولون له مهما زيّن الشيطان لنا فإن حلمك أوسع ومهما زيّن لنا الشيطان فإن رضاك أغلى، ومهما زين لنا الشيطان فإن من يحلل عليه غضبك فقد هوى.
عادوا إليه من قريب يتضرعون إليه قائلين "وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" الأعراف:23.
ما كان لهم أن يبتعدوا أكثر أو تمرّ عليهم الساعات ثم الأيام فضلاً عن الشهور والسنوات وهم في صفّ عدوه يوالون من تحداه وتكبر عليه.
ما كان لهم أن يقابلوه في كل صلاة ينطرحوا بين يديه في ذلّ وخشوع، بينما قلوبهم مصرّة على معصيته والإتيان بما حرّم والتوغل في حرماته.
فكان ردّه الكريم في عليائه
{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:17].
يعودون من قريب ينيبون سريعًا يؤوبون منطرحين على أعتاب المغفرة والرحمة والعفو، متبرأين من جهالتهم خائفين من السوء الذي جنته أيديهم يودون لو أن بينهم وبينه أمدًا بعيدًا، وأنى لهم هذا بغير نظرة العطف والمنّة من مليكهم ومولاهم ونصيرهم وحبيبهم.
يقولون له بقلوبهم عدنا سريعًا ورجعنا من قريب وهذا أيضًا من منّتك ومن فيض كرمك وعطائك وحلمك وصبرك.
عدنا إليك بإذنك ولأنك رضيت يتوسلون إليه أن يتوب عليهم ليتوبوا فيقبل توبتهم إنه هو العليم الحكيم.
رأوا بأعينهم كيف أن كل عباداتهم لم تنقذهم من الوقوع في براثن عدوهم، رأوا أنهم إنما يتنفسون ويعيشون ويقومون ويقعدون وينجون من الخذلان لأنهم في عين مليكهم وبارئهم، فأخبتت له قلوبهم واستكانت واستسلمت عازمة على عدم العود مهما بلغ التزيين ومهما تتابعت الوعود ومهما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وحتى لو ضاقت عليهم أنفسهم لن يبحثوا عن سلواهم فيما يغضبه ويسخطه لأنه هو أهل التقوى وهو أهل المغفرة.
منقول
تعليق