بلاغة (كنْ فيكون) بين الرفع والنصب
د. ضياء الدين الجماس
وردت عبارة (كنْ فيكون) في ثمانية مواضع في القرآن الكريم وقد وردت الروايات المتواترة في رفع ونصب كلمة (فيكونُ أو فيكونَ) باستثناء موضعين لم تقرأ فيهما إلا بالرفع ، فلنتدبر في الحكمة :
مواضع رفع فيكون دون نصبها، موضعان :
1- في سورة آل عمران 59 : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) .
2- في سورة الأنعام 73 : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوات وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)
مواضع رفع ونصب (فيكون) ستة مواضع :
1- في سورة البقرة : (بَدِيعُ السَّمَوات وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ 117 (فيكونَ – قرأها بالنصب ابن عامر الشامي)
2- في سورة آل عمران : (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ 47 ( فيكونَ – قرأها بالنصب الشامي)
3- في سورة النحل ) :إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ 40 ( فيكونَ – قرأها بالنصب الكسائي والشامي).
4-في سورة مريم : (مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ 35 ( فيكونَ - قرأها بالنصب ابن عامر الشامي
5- في سورة يس : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82 ( فيكونَ – قرأها بالنصب الكسائي والشامي.)
6- في سورة غافر: (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ 68 ( فيكونَ - قرأها بالنصب ابن عامر الشامي .ولتدبر الحكمة المحتملة وراء ذلك لا بد من معرفة دور الفاء المعنوي والإعرابي في العبارة كنْ فيكون:
1- للفاء معنى الترتيب على التعقيب في كل الأحوال ، أي أن فعل الأمر الإلهي (كن) تام ، يعقبه استئناف فعل الكينونة (يكونُ) حتماً دون أي تأخير. بل تجري الأمور فوراً وبسلاسة واستمرارية حتى تتم الحكمة من فعل الأمر الإلهي ،( أي
تكون الفاء استئنافية وجملة يكون إخبارية بمعنى (فهو يكون )، ولذلك يأتي الفعل يكون بصيغة المضارع دائماً ليدل على استمرار الحدوث حتى في المستقبل بعد بدء الحدث. ويصح هذا المعنى في جميع المواضع بلا استثناء ولا استثناء في حتمية وقوع تنفيذ الأمر الإلهي.
2- قد تكون الفاء حرف عطف على فعل مضارع منصوب ، ويتحقق ذلك في موضعين : النحل 40 (أن نقولَ... فيكونَ).وفي يس 82 ( أن يقولَ له.. فيكونَ) . وبذلك تفسر لنا سبب النصب في موضعين فقط.
3- قد تكون الفاء سببية ناصبة بأن المضمرة بعدها والتقدير( فأن يكونَ) للإشارة إلى سببية الحدوث بفعل الأمر الإلهي، وهي تصح إعرابياً في جميع المواضع على الإطلاق . ولكن لم ترد فيها الروايات المتواترة بالنصب في الموضعين اللذين أشرنا إليهما لحكمة إلهية تبين لي في تدبرها ما يلي.
أ*- إنَّ جميع الآيات الكريمة التي وردت فيها روايات النصب تسبقها عبارة التذكير
بالإرادة الإلهية أو القضاء الإلهي (إذا أراد شيئًا، إذا قضى أمرًا) . والقضاء أو الإرادة الإلهية إذا صدرت ييسر الله لها أسبابها ( ولذلك اشتهرت العبارة الفقهية – إذا أراد الله شيئًا يسر له أسبابه) لأن الله تعالى خلق كونه وكل ما خلق ونظمه وفق القوانين السببية التي وضعها هو سبحانه وتعالى. ولعل القراءة بالنصب إشارة إلى هذه السببية.
ب*- في الموضعين اللذين لم ترد فيهما قراءة النصب نلاحط أنَّ الفعل الإلهي فيها لا يحتاج للسببة فخلق آدم من تراب خارج قانون السببية الذي يحتاج لأب وأم ، فالله سبحانه وتعالى خلقه مباشرة دون سبب يعقله البشر ، وكذلك حال خلق السماوات والأرض من العدم سواء في بدء الخلق أو إعادته كما تبينه الآية الثانية. فنستنتج أن الفعل الإلهي يمكن أن يتم بآليتين هي الآلية السببية والآلية المباشرة دون سبب ظاهر فالله سبحانه وتعالى يفعل ما يريد ،كما يشاء ويريد، بخلق الأسباب أو بدونها لتظهر كمعجزات أمام العقل البشري.
أرجو أن يكون المعنى والحكمة قد اتضحت من سبب عدم ورود قراءة النصب في خلق آدم وخلق السماوات والأرض ابتداء بينما في الآيات الأخرى التي وردت فيها رواية النصب إشارة للخلق والإبداع وفق قوانين السببية التي وضعها الله تعالى وعلَّم الإنسان اتباعها ( وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا
فَأَتْبَعَ سَبَبًا)الكهف 84 و 85
والحمد لله رب العالمين.
تعليق