إنْ كان القرآن المكي في تأثيره على قلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يشبه الماء الذي ينزل من السماء فيحيي الله به الأرض بعد موتها؛ فإنَّ القرآن المدني يشبه الاعتناء بهذه الأرض النابتة بالتهذيب والتنظيف والتصريف والترتيب، ورسم معالم الجمال في البساتين والمزارع والحدائق. فالماء شرط الحياة، والتحسين والتكميل يأتيان بعد انبثاق الحياة.
ولقد كان القرآن المدني يدأب على معالجة الثغرات في النفوس التي آمنت، وتحسين إيمانها، وتكميل سموِّها، فما مات النبي صلى الله عليه وسلم وما انقطع الوحي إلا بعد اكتمال النموذج الإيماني.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأجلاء يعيشون حياة مكشوفة للناس، مسطورة في القرآن، وكانت الآيات تتنزل ببعض فعالهم وماجرياتهم بغرض التوجيه والتصويب.
من ذلك ما أخرجه الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عيرٌ من الشام، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبقَ إلا اثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية من سورة الجمعة: {وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}[الجمعة: ١١][1]. وفي رواية لمسلم: فيهم أبو بكر وعمر.
وعند الشافعي رحمه الله بسنده مرسلاً: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكانت لهم سوق؛ كانت بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل والسمن، فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوه، وكان لهم لهو يضربونه فنزلت»[2].
وعند الطبري بسنده إلى جابر رضي الله عنه قال: «كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرون بالكَبَر والمزامير، ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله: {وَإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إلَيْهَا}[3].
الروايات تتحدث عن واقعة - ربما تكررت - مذمومة، وهي انفضاض بعض المؤمنين إلى صارف من صوارف الدنيا؛ بينما الخطبة قائمة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة الجمعة، وربما ذلك كان بسبب الجوع والفاقة[4] مما جعلهم يتهافتون إليها، إلا عدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمر.
أدب المدينة:
أعني بالمدينة: مدينة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي يعتبر أهلها قسيمين للأعراب القاطنين حولها. ولكل قسمٍ حقوقه وواجباته ومرتبته في الفضل. فالذين يقطنون المدينة هم المهاجرون والأنصار، وتقع عليهم مسؤوليات الجماعة المؤمنة وواجبات الانتماء والالتزام والطاعة، وفيهم فئة قليلة منافقة أخبر الله عنهم بقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْـمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: ١٠١]. أما القبائل التي فضَّلت البقاء خارج المدينة فهم الذين عناهم القرآن بلفظة {الأَعْرَابُ} في عدد من الآيات والسور، كالفتح والتوبة والحجرات. قال الله تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 97 وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 98 وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 97 - ٩٩]، ففي هذه القبائل مؤمنون وكفار ومنافقون، لكنهم ولتفضيلهم البقاء في أماكنهم وعدم الانضمام إلى أهل المدينة فإنهم يفقدون امتيازات أهل المدينة في أمورٍ تتعلق بالمواساة والنصرة ونحو ذلك.
على أية حال.. لم يكن القرآن يعوِّل على الأعراب التزامهم بأدبيات الجماعة المؤمنة، إنما كان المعوَّل على أهل المدينة. وحين قفل النبي صلى الله عليه وسلم عائداً من تبوك {وَجَاءَ الْـمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90]، وكان المنافقون من أهل المدينة يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم بأعذار يختلقونها يزعمون أنها هي سبب قعودهم عن غزوة تبوك، أما ثلاثة الأنصار فقد تعامل معهم الرسول بلون مختلف، لما يقع عليهم من أعباء الالتزام والجندية، فمكثوا خمسين ليلة حتى حكم الله تعالى فيهم بالتوبة عليهم ووصفهم بالصادقين. هذا مثال واحد على التفريق بين أهل المدينة والأعراب، مؤمنين ومنافقين.
ويعتبر «التزام التواجد» من أهم الآداب الواجبة على أهل المدينة، وهو في الحقيقة أدب الجماعة المتفرد، الذي به يُعرف انتماء الفرد من عدمه. والقرآن يشير إليه في أكثر من موضع، ففي سورة النور قال الله تعالى: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِىنَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّـمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 62]، قال ابن إسحاق في عرضه لغزوة الخندق: «فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [يعني المشركين] وما أجمعوا له من الأمر؛ ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيباً للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجالٌ من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة، من الحاجة التي لا بد له منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله، رغبة في الخير واحتساباً له»[5]. وقد أفاض أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {وَإذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور: 62]. قال ابن كثير: «وهذا أيضاً أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عن الانصراف، لاسيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة، أو اجتماع لمشورة ونحو ذلك. أمرهم الله تعالى ألا ينصرفوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته. وإنَّ من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين»[6]. وابن كثير رحمه الله على أنَّ الفرد في جماعة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له الانصراف إلا بإذن قائده صلى الله عليه وسلم ، وابن عطية يوسع مفهوم «الأمر الجامع» و«الإمام» فيقول: «والأمر الجامع يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، فأدب الإسلام اللازم في ذلك - إذا كان الأمر حاضراً - ألا يذهب أحدٌ لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذنٍ ارتفع عنه الظن السيئ، والإمام الذي يُرتقب إذنه في هذه الآية هو إمام الإمرة.وظاهر الآية إنما يقتضي أنْ يُستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوَّة؛ فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمرٍ من أمور الدين»[7].
أما الطاهر ابن عاشور فهو يصف حال المنافقين حيال «الأمر الجامع» فيقول: «كان من أعمال المنافقين أنْ يحضروا هذه المجامع ثم يتسللوا منها تفادياً من عملٍ يشق أو سآمة من سماع كلام لا يهتبلون به، فنعى الله عليهم فعلهم هذا، وأعلم بمنافاته للإيمان وأنه شعار النفاق؛ بأنْ أعرض عن وصف نفاق المنافقين واعتنى باتصاف المؤمنين الأحقاء بضد صفة المنافقين، قال تعالى: {وَإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]، ولذلك جاء في أواخر هذه الآيات قوله:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63][8]. كما أشار إلى قاعدية مفهوم الآية، فقال: «وهذه الآية أصل من نظام الجماعات في مصالح الأمة، لأنَّ من السنة أنْ يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع»[9].
لقد كانت حادثة الجمعة التي انصرف فيها الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وتركوه قائماً إلا قليلاً منهم والتعقيب عليها في القرآن الكريم إحدى طرائق التربية على هذا الأدب المدني، والذي احتاج إلى عدد من المعالجات لعظم شأنه ولأهميته.
وبهذا يتضح لك أنَّ المنافقين على الضد من هذا الأدب، أما الأعراب فليس هذا من أدبهم.
يُتَّبَعْ مع هذا العنصر :
دواعي الانصراف:
تعليق