الله سبحانه وتعالى جعل القرآن معجزة باقية إلى يوم القيامة، ولذلك وضع فيه الدليل تلو الدليل على ما يتحدى به غير المؤمنين ليرد على ادعاءاتهم، ولقد قيل ان عصر المعجزات انتهى، ولكن معجزات القرآن لا تنتهي حتى تقوم الساعة، ومعاني الآيات لا تتضح في عصر واحد.
بل كل عصر نصل إلي معنى لم نكن قد وصلنااليه، والقرآن معجزة ومنهج، المنهج وهو ما رسمه الله لنا كطريق للعبادة والحياة ثم تفسيره وبيانه كاملا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعبادات والمعاملات وغيرهما فيما يتصل بـ " افعل" و " لا تفعل" بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصلوات المفروضة فيه مثلا خمس لا تزيد ولا تنقص إلى يوم القيامة، وكذلك الأحكام وكل ما يتعلق بمنهج السماء، كلها أشياء حسمت وبينت تماما، ولكن المعجزة في القرآن الكريم هي التي بقيت لتعطي كل جيل معنى اعجازيا لم يصل اليه الجيل الذي قبله.
ولو أن معجزة القرآن توقفت عند نزول القرآن لجمد القرآن فلم يعد يعطي شيئا جديدا، ولكن لأن هذا الكتاب معجزة باقية متجددة، فهو يعطي لكل جيل عطاء جديدا، وهكذا نجد في كل عصر عطاء للقرآن لم يكن موجودا في العصر الذي قبله.
فإذا قرأنا مثلا الآية الكريمة:{ الم1غُلِبَتِ الرُّومُ 2فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ3} الروم 1_3.
وجدنا أن أدنى حين نزل القرآن كانت " كما قلنا" بمعنى المكان القريب من أرض العرب، ولما تقدم العلم واستطاع الإنسان أن يصوّر سطح الأرض بالأقمار الصناعية، وجد أن مكان المعركة بين الروم والفرس هو أكثر الأماكن انخفاضا على سطح الأرض،
وإذا قرأنا الآية الكريمة:{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ} الأنفال 42.
نجد أن الله سبحانه وتعالى قد حدد ثلاثة مواقع: موقع المؤمنين وهم قريبون إلى المدينة المنورة، وموقع الكفار وهم بعيدون عن مكة المكرمة، أي أن المؤمنين أقرب إلى مدينتهم وأهلهم، والكفار بعيدون عن مدينتهم وأهلهم، ثم قال تعالى:{ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ }. الأنفال 42.
والركب هو قافلة أبو سفيان التي أفلتت من المؤمنين.
والمعروف أن أبا سفيان لكي يفلت من المؤمنين غيّر مساره واتخذ طريق الساحل وهنا يجب أن نلتفت إلى قول الله تعالى:{ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ }.أي موقع منخفض عنكم.
والمعروف أن ساحل البحر هو أكثر الأماكن انخفاضا في الأرض، ولذلك تقاس كل الارتفاعات بسطح البحر، فيقال: هذا المكان يعلو ألف متر مثلا عن سطح البحر أو مائة متر أو غير ذلك.
إذن فسطح البحر المقياس الذي اتخذه العالم كله بيساوي صفرا في الارتفاع، تقاس عليه كل الارتفاعات في الدنيا، ولذلك قوله تعالى:{ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ } يلفتنا إلى هذه الحقيقة، ولكن القرآن الكريم لم يكتف بأن يبين هذا، بل بين لنا أن هناك بقعة على سطح الأرض هي أكثر انخفاضا على سطحها، وهي التي دارت عليها المعركة بين الفرس والروم.
وإذا قرأنا القرآن الكريم، نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد لفتنا إلى مصدر العلم للبشرية كلها، فقال سبحانه وتعالى:{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} البقرة 31.
وهكذا حدد القرآن الكريم في إعجاز مذهل مدخل العلم إلى البشر، فأنت حين تريد أن تعلم طفلك عندما يبدأ يميز الأشياء، لا بد أن تعلمه الأسماء أولا، فتقول له: هذا كوب، وهذا قلم وهذا كرسي، وهذا طعام الى غير ذلك.
ونحن نقول إذا لم نعلم الطفل هذا فإنه لا يستطيع أن يفهم شيئًا ولكنه إذا تعلم الأسماء أصبح بعد ذلك قادرا على استيعاب العلم، ولذلك ففي الدنيا كلها وبالنسبة للبشرية كلها، لا بد أن نبدأ بأن نعلم أطفالنا أسماء الأشياء، ثم بعد ذلك تختلف نظم التعليم من دولة إلى أخرى ومن طريقة إلى طريقة، ولكنها كلها لا بد أن تبدأ بتعليم الأسماء، وهكذا نعرف أن بداية العلم من الله سبحانه وتعالى.
فقد بدأ الحق جل جلاله بتعليم الانسان الأسماء، وما زالت هذه البداية موجودة حتى الآن في كل نظم التعليم، الأسماء أولا، فإذا تعلم الطفل الأسماء بدأ يستوعب أي شيء آخر، ونحن لا نعلم الطفل الأسماء في المدرسة فقط.
ولكن هذا هو علم الفطرة، تبدأ الأم مع طفلها قبل أن يذهب الى المدرسة، والأم المتعلمة وتلك التي لم تنل حظا من التعليم، كلتاهما تبدأ بتعليم ابنها الأسماء، لأن علم الفطرة تكون منه البداية دائما، ثم بعد ذلك يتطور ويتبدل، ولا يمكن أن يتم التفاهم بين الأم وطفلها ولا بين طفل وطفل آخر إلا إذا تعلما الأسماء أولا، والعلم في الدول المتقدمة والدولة المتخلفة أيضا لا بد أن يبدأ بالأسماء باعتبارها أساس التفاهم في الحياة، ولكن هناك اعجاز آخر بالعلم البشري لا بد أن نلتفت إليه، وهو يحمل إلينا الدليل اللغوي على وجود الله.
الشيخ الشعراوى عليه رحمة الله
تعليق