ليست مجرد حكاية قول،
وإنما هي تجسيد لحالة شريحة من القوم حين تخطف أبصارَهم بوارقُ القوة المادية،
وحين تأتي الموجة المالية فتغرق ما تبقى من غرس الإيمان في أرواحهم،
فينسوا الآخرة، وتمتد أعناقهم لمتاع الدنيا الزائل.
هذه العبارة تتكرر كثيراً، على مدى الأزمان والأحقاب،
إنها حالة تتكرر وليست حكاية بائدة،
فللمال سلطان على النفس، يسوقها في دروب التيه والبعد عن الله تعالى؛
إذا لم تفطن هذه النفس لما هي مُقْدِمة عليه،
وإذا لم تُراجع أمر الله تعالى فيها.
وحين يفقد القومُ البوصلةَ المالية الشرعية؛
فإنهم - ولا شك - سيسلكون تلك الدروب،
إما إفراطاً وإما تفريطاً.
لماذا أخفقت هذه الشريحة المؤمنة في امتحان المال والأعمال؟
وكيف صمدت شريحة أخرى أمام طوفان المادة الهادر؟
وما علاقة مال قارون بسلطان فرعون؟
ولماذا نزلت هذه الآيات في العهد المكي؟
وعدد من التساؤلات التي يثيرها الأسلوب الفريد للقرآن الكريم؛
مما تعتبر الإجابة عنها مادة ملهمة للدعاة والمربين في مسألة حياتية مهمة؛
وهي التأطير الإيماني للتعامل مع المال وطرق التكسب.
وسنحاول في هذه السطور إثارة ما يمكن أن يصلح محلاً للبحث والدراسة والتأمل والاستدراك.
قصة المال القاروني:
{إنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ 76 وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُفْسِدِينَ 77 قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 76 - 78].
سورة القصص عرَضت بابين من أبواب الصد عن دين الله تعالى:
باب السلطة الطاغية،
وباب المال الطاغي؛
فالسلطة الطاغية تمثلت في فرعون وملئه،
والمال الطاغي تمثل في قارون.
عرضت هذين البابين من أبواب الطغيان لمناسبتهما لحال المؤمنين في العهد المكي،
فإنَّ السلطة والمال كانا بيد قريش الخصم اللدود لدعوة الله تعالى.
وغالباً ما يستعين صاحب السلطة الطاغية بصاحب المال الطاغي ليكوِّنا حلفاً شريراً ضد أهل الدعوة.
قارون هذا كان إسرائيلياً وليس قبطياً بنص الآية،
وهو ابن عم موسى عليه السلام،
فجدُّهم واحد؛ كما عليه أكثر أهل العلم[1]،
إلا إنه كان على دين فرعون وملئه وكان ذا مال جزيل جداً[2].
وهذا في حدِّ ذاته فتنة لبني إسرائيل:
أن يكون منهم من يحمل راية العداء لدعوة الأنبياء،
ثم هو ليس رجلاً عادياً؛ بل هو صاحب وجاهة مالية أسبغت عليه شيئاً من الرفعة والسيادة المادية.
ذلك أنَّه تكبر وبغى وطغى بما آتاه الله من المال الوفير الكثير، الذي يدل على كثرته وصف الله تعالى له:
{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ}[القصص: 76]،
فإذا كانت المفاتيح قد أثقلت الرجال الأشداء
فكيف بقيمة ما فيها من المال والذهب؟!
وكان قومه الإسرائيليون المؤمنون يذكرونه بالله وبحقه تعالى عليه في هذا المال من الشكر والإيمان واستعماله في طاعة الله..
لا في البغي والعداء لنبي الله، لكنه لم يأبه لهذا النداء،
فقد أطغاه المال فظن أنه في مأمن من الهلاك والعذاب، واستعزَّ بذاته وعَزا ما آتاه الله تعالى إلى قدراته ومعارفه وذكائه.
وفي مشهدٍ يجلله الكبرياء والخيلاء خرج قارون على بني إسرائيل، في زينة عظيمة وتجمل باهر من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه[3]،
فلما رآه بنو إسرائيل المؤمنون انقسموا فريقين:
فريق يؤثر الحياة الدنيا ويبهره وهجها،
وفريق آتاه الله العلم النافع؛
فدار هذا الحوار المقتضب:
{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 79 وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّـمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِـحًا وَلا يُلَقَّاهَا إلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 79، 80].
لقد أفصح ضعاف الإيمان عن انبهارهم بالزينة التي خرج بها قارون،
بينما الذين أوتوا العلم لا تبهرهم هذه المباهج المؤقتة.
ثم أهلك الله قارون بحادثة غريبة،
حيث خسف الله تعالى به وبداره الأرض،
وزال ذلك الكبرياء والخيلاء،
وانقطع العداء والبغي والأذى عن موسى عليه السلام وقومه الإسرائيليين.
ولما عاين ضعاف الإيمان هلاكه ندموا على تلك الأمنيات
وذلك الاغترار بزينة المال
وحكى الله هذا الندم فقال:
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِـمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَـخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82].
تعليق