الحمد لله وحده، والصلاة والسلام من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم،
أمـا بـعــد..
فقد قال المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز:
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} الكهف: 46
أى:
المال والبنون زينة يتزين بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ويتباهى بها على غيره. وهذا بيان في التعبير بديع ودقيق لحقيقتهما،
فهما زينة وليسا قيمة، ولا تُوزَنُ بهما أقدار الناس، إنما توزن أقدار الناس بالإيمان والعمل الصالح،
كما قال تعالى:
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الحجرات: 13..
ولذا جاء التعقيب منه سبحانه بقوله:
{وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا}.
أي:
وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره، الباقيات الصالحات، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة:
من حقوق الله، كالصلاة، والزكاة، والصدقة... إلخ،
و حقوق عباده، كصلة الرحم، وبر والدين، ... وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق...
كل هذا من الباقيات الصالحات، وهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون.
تأملوا معي كيف ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها، فذكر أن فيها نوعان:
نوع من زينتها، يتمتع به قليلا، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون،
و نوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي الباقيات الصالحات.
..
فالباقيات الصالحات؛ تبقى ثمارها للإنسان، وتكون عند الله تعالى خَيْرٌ من الأموال والأولاد، ثوابًا وجزاءً وأجرًا، وَخَيْرٌ أَمَلًا؛
حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما كان يرجوه في الدنيا من فوز بنعيم الجنة، أما المال والبنون فكثيرا ما يكونان فتنة.
وفتنة الأولاد إذا لم يحتاط ويحذر منها العباد؛ قد تصرفهم عن عبادة رب العباد؛
لذا فقد حذرنا تبارك وتعالى منها في قوله سبحانه:
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} التغابن: 15.
إذن فالأولاد فتنة، كما أن من بعضهم أعداء للعبد المؤمن؛ وقد يكون ذلك بسبب تقصير الوالدين أو أحدهما،
وأحد هذه العداوات والفتن، بل من أشرها، عـقــــوق الــوالــديــــن.
..
هذا العقوق بالوالدين لا شك وأن له سبب، وأغلب الأسباب تكمُنُ في عقوق الآباء والأمهات لأبنائهم، بعدم الإحسان إليهم وعدم بِرِّهم!!
فإلى كُلُّ أبٍ فاضِلٍ وأُمٍّ فاضِلَة
..
أيها الوالد الكريم.. هل تبرّ أبنائك قبل مُطالبتك لهم ببرك والإحسان إليك؟،
وأيتها الأم الكريمة.. هل تقدمين لأبنائك ما يجعلهم يُدركون قيمة الإحسان إلى الوالدين، فينعكِس ذلك على مُعاملتِهم لكِ؟
أيُّـهَــا الـوَالِـدَيـْـنِ المُـؤْمِـنَـيـْـنِ.. هل تبرُّون أبنائكما ولا تعقُّونَهُما؟!
إنها البداية لكل من رزقه الله بالبنون
فالبنون -وهم من زينة الحياة الدنيا- بحُسنِ تربيتهم يزدادون زينةً وبهاءً لوالديهما وللمجتمع، لكنَّها زينة تختلف،
وقد تكون زينتهم مُعينَةً للوالدين على التقرب إلى الله أكثر، بالأعمال الصالحة التي هي الباقيات الصالحات.
إنها التربية الدينية الحقّة؛ كما أمر ربنا تبارك وتعالى، وكما أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم.
إنها التربية يا إخواني وأخواتي ويا أبنائي وبناتي
.. يا من رزقكم الله بالأبناء..
فـالـتــربـيــــة
ليست بتلبية حاجاتهم من مأكل ومشرب وقضاء حوائجهم، أو تعليمهم بر الوالدين فقط؛ إنما هي أسمى و أرقى من هذا،
فالتربية تكون برعاية الأبناء رعاية دينية على كتاب الله و هدي نبيه عليه الصلاة والسلام،..
الـتـــربـيــــة
هي العناية بالأبناء من جميع النواحي:
الجسدية و العقليـة والروحية والوجدانية ، كل هذا وفق منهج الله.
والمنهج واضحٌ وبيِّن، والطريق إليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
فأنت أيها الوالد الفاضل الكريم عليك واجب وفرض في بيتك،
..
وكذلك أنت أيتها الأم الفاضلة عليك أداء نفس الواجب والفرض؛
.....
..ألا إنَّــه الـــرِعَــــايَــــة..
..
كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتهِ ، وهو مسئولٌ عنهم . والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلِها وولدهِ ، وهيَ مسئُولَةٌ عنهُم" [1]
لكن الأولاد فتنة، وقد يكون بعض الأزواج والأولاد معًا أعداءً للرجل في حياته الإيمانية!!
..
لذا فقد حذر الله المؤمنين تحذيرًا واضحًا جليًا، في قَولِه عَزَّ مِنْ قَائِل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} التغابن: 14.
..
وهذا خطابٌ مُوجهٌ للمؤمنين، بدأت به الآيات الكريمة بالنداء بصفة الإيمان لحضِّهم على الاستجابة لما فيها من توجيهات سامية وإرشادات عالية.
لأنَّ الإيمان الحق يَحْمِلُ صاحبه على طاعة الله عز وجل.
..
أتم الله علينا وإياكم نعمة حقيقة الإيمان بتوفيق منه، سبحانه العزيز الرحمن.
..
والمعنى:
يا من آمنتم بالله حق الإيمان، إن بعض أزواجكم وأولادكم، يعادونكم ويخالفونكم في أمر دينكم وفي أمور دنياكم،
فاحذروا أن تطيعوهم في أمر يتعارض مع تعاليم دينكم، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وَإِنْ تَعْفُوا -أيها المؤمنون- عنهم وتتركوا عقابهم بعد التصميم عليه وَتَصْفَحُوا عنهم، وَتَغْفِرُوا ما فرط منهم من أخطاء،
يكافئكم الله تعالى على ذلك مكافأة حسنة، فإنَّ الله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يعفون ويصفحون ويغفرون.
..
فالنهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، لا يعني الغِلظَة عليهم وعقابهم؛
لكنَّ الله أمر بالحذر منهم مع الصفح والعفو عنهم.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات، منها ما رُوِىَ عن ابن عباس رضى الله عنهما، أن رجلا سأله عن هذه الآيات، فقال:
هؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أولادهم وأزواجهم أن يتركوهم ليهاجروا.
فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي بالمدينة-؛ رأوا الناس قد تفقَّهوا في الدين، فهمُّوا أن يعاقبوهم -أي: يعاقبوا أولادهم وأزواجهم-،
فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
ثم تلي هذه الآية قوله تعالى:
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} التغابن: 15
والمراد بالفتنة هنا:
ما يَفتِن الإنسان ويشغَلُهُ ويُلهِيهُ عن المداومة على طاعة الله تعالى.
أى:
إنَّ المبالغة في الاشتغال بأموالكم وأولادكم أيها المؤمنون؛ تؤدى إلى التقصير في طاعة الله تعالى، وإلى مخالفة أمره.
فالإِخبار ب { فتنة } للمبالغة. والمراد: أنهم سبب فتنة، سواء سعوا في فعل الفَتْن أم لم يسعوا؛ فإن الشغل بالمال والعناية بالأولاد فيه فتنة.
لكنَّ فتنة الأولاد أخطر من فتنة الأموال على كثير من العباد؛ فإنهم مبخلة مجبنة،
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ ، مَجْبَنَةٌ ، مَجْهَلَةٌ ، مَحْزَنَةٌ " [2]
ومعنى قوله: "مبخلــة" ، أي: أنَّ الولد سبب للبخل بالمال،
ومعنى قوله: "مجهلة" ، لكونه يحمل على ترك الرحلة في طلب العلم والجدِّ في تحصيله لاهتمامه بتحصيل المال له.
ومعنى قوله: "مجبنة" ، أي أن الولد سبب لجبن الأب؛ فإنه يتقاعد من الغزوات بسبب حب الأولاد والخوف من الموت عنهم.
ومعنى قوله: "مجهلة" ، لكونه يحمل على ترك الرحلة في طلب العلم والجدِّ في تحصيله لاهتمامه بتحصيل المال له.
ومعنى قوله: "مجبنة" ، أي أن الولد سبب لجبن الأب؛ فإنه يتقاعد من الغزوات بسبب حب الأولاد والخوف من الموت عنهم.
ومعنى قوله: "محزنة" ، لأنه يحمل أبويه على كثرة الحزن لكونه إن مرض حزنا، وإن طلب شيئاً لا قدرة لهما عليه حزنا.
ومن خطورة فتنة الأولاد ما قد يحدث بسببهم من مشاكل تمتد خارج البيت؛
..
..
..
فاحذر أيها الوالد الكريم من حبك الزائد لهم، والذي قد يعميك عن الصواب ويصم أذناك عن الحق؛
فلا تُفرِّط في الإيمان بسببهم، ولا يصرفونك عن المشي إلى الصلاة، ولا تنجرف معهم وتُقرِّهم على ما هم عليه من القبائح،
أو تُرضيهم بتوفير أسباب هلاكهم من المُلْهِيات المُحرَّمات، ولا تنأى بهم عمَّا يُصلِح قلوبهم وأعمالهم.
..
فاتقوا الله أيها الآباء في أولادكم، ولا تلهوا بهم عن هول يوم معادكم، واعملوا دائما بقول الله تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} طه: 132،
..
وقوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم: 6.
ووقايتهم من النار إنما تكون بأمرهم بالصلاة، وتربيتهم على أنواع الطاعات، وتأديبهم إذا لم يجد فيهم النُصح والإرشاد على ما قد يرتكبونه من المخالفات،
والأخذ على أيديهم، ودلِّهم على الحق؛ لصيانتهم من اقتحام المُحرمات.
..
ومن هنا يوفق الله كل أبٍ فاضل إلى تحقيق المنهج الإلهي في رعايته لأهل بيته.
فمَنْ حَادَ عَنْ هَذَا المَنْهَج وبَعُدَ وابْتَعَد؛ لا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ، ولا يُحَاسِبَ أبْنَائَهُ عَلَى التَقْصِيِرِ في حَقِّهِ!!
وتأملوا معي في قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}
لمَّا ذَكَر الله العداوة أدخل فيه ( مِنْ ) للتبعيض، لأنهم كلهم ليسوا بأعداء،
ولم يذكُر ( مِنْ ) في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، لأنهما لا يخلوان من الفتنة،
وتَرك ذِكْرُ الأزواج في الفتنة، لأنَّ مِنهُنَّ من يَكُنَّ صلاحًا وعونًا على الآخرة.
إذن فالأولاد بوجهٍ عام فِتنةً لوالِدَيْهِم، وفي بعضِ الأحوال يكُونُ بعضُهُم أعداءً لهُم!!
لكن هذا لايعني الحذر منهم دون أداء حقوقهم والوفاء بها كما أمر الله تعالى وكما يحب ويرضى، والآيات الدَّالة على ذلك كثيرة؛
نقف معًا عند بعضها، بما فيها من معانٍ هامةٍ، ذكرها المولى تبارك وتعالى في قوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ
إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء: 1
وهذه الآية من الآيات الجليلة الدالَّة على عظمة الله تعالى وقدرته أنْ خَلَقَ الناس من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، ثم منح الزوجين الأولاد والذرية،
وتلك نعمة من الله تعالى يستحق عليها الشكر الكثير الجزيل، والثناء الدائم؛ لأنَّ الذرية أمل البشرية منذ وُجِدَت،
وستبقى كذلك حتى تقوم الساعة للمحافظة على بقاء الجنس البشري، وإنَّ الأزواج يتطلعون بسرعة عقب الزواج إلى الذرية الطيبة،
ويستبشرون بأول مولود يُرزقون به، ثم تقرّ أعينهم بالبنين والبنات بعدما يُرزَقُون بهم، ويتمنَّون لهم الأماني الكثيرة، بأن يكونوا الأفضل دائما،
بل يتمنّون أن يكون أبنائهم أفضل حالًا منهم.
..
فالأولاد هبة من الله تعالى نَصَّ عليها القرآن الكريم، وربطها بمُلكِ السموات والأرض والتصرف فيهما كما يشاء ، فقال تعالى:
{لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} الشورى: 49
..
وهذه الهبة الربانية أمانة في عُنقِ الوالدين: ليرعوا حق الله فيهم، ويُحافظوا عليهم ويُطبِّقوا عليهم شريعته وأحكامه،
هذا حق للولد على والده، وبعبارة أخرى فهي واجبات على الوالد، وهذا أهم واجب على الآباء والأمهات تجاه الأولاد،
ولهذا يؤكد القرآن الكريم هذا الشأن عند الوالدين فيأمرهم برعاية الأولاد، ويوصيهم بالحفاظ عليهم، فيقول تعالى:
{ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } النساء: 11
..
هذه الآية في سورة النساء، والآيات التي تليها، والآية التي هي آخر السورة؛ هُنَّ آيات المواريث المُتضمِنة لها،
لكن دعونا نقف عند أول الآيات وقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللهُ)
أي:
أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصَّاكُم الله عليهم، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتُعلِّمونَهُم وتؤَدِّبونَهُم وتكفُّونَهُم عن المفاسد،
وتأمُرونَهُم بطاعة الله ومُلازَمَةِ التقوى على الدوام، كما قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}
..
فالأولاد عند والديهم مُوصَى بهم، فإمَّا أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يُضيعوها؛ فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.
..
وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين -مع كمال شفقتهم- على أولادهم.
ثم ذكر كيفية إرثهم فقال:{ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }...إلى آخر وباقي آيات المواريث.
فحقوق الأولاد على الوالدين أوصى بها الله تعالى عباده المؤمنين -مع تحذيره سبحانه للآباء من فتنة الأولاد وعداوة بعضهم-،
كما أوصى بحقوق الوالدين على الأولاد.
ومما سبق نستخلص نموذجًا رائدًا ورائعًا لمنهج الإسلام في تربية الأولاد في البيت،
ذلك المنهج الذي يُعين كل أبٍ وأمٍّ على أداء حقوق أولادهما وبرِّهما؛ لينالا برَّ أولادهما وحسن معاملتهما..
وذلك من خلال بعض العناصر الأساسية الآتية:
حسن اختيار الزوجة
يجب على الوالد أن يبدأ بتربية ولده قبل الولادة، وهذا ما أرشد إليه الإسلام عن طريق اختيار الزوجة،
لأن خطيبة اليوم التي يقصدها الشاب هي زوجة الغد، وأم المستقبل، ومربية الأطفال والأجيال، والأم هي المدرسة الأولى التي تحتضن الطفل،
فحسن اختيار الزوجة من أجل الأولاد أكثر أهمية من بقية العوامل التي تُطلَب المرأة لأجلها، وهو ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تخيَّروا لنُطَفِكم ، فانكِحوا الأكفاءَ و أَنكِحوا إليهم " [3]
وقوله صلى الله عليه وسلم:
" تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ " [4]
فالأم هي المربية للأطفال ، والحاضنة للأطفال ، والأمينة على الذرية ، والمُكلَفة بالإشراف عليهم.
رعاية الوليد، والبدء بالتربية والتوجيه من الصِغَر
متى تمت الولادة بدأت التربية منذ اللحظة الأولى من حياة الوليد، وهذا ما أرشد إليه الدين الحنيف، وهي آداب إسلامية وسنن نبوية، ومنهج رباني،
وأهم هذه الآداب على سبيل المثال؛ الآذان والإقامة وحسن اختيار الاسم وتكريم الطفل بالعقيقة لإعلان السعادة والفرح والبشر بمقدم الطفل.
..
وتكون رعاية الطفل من الصغر: وذلك في مأكله ومشربه، وجسده، وثيابه، ليكون صحيح العقل، سوي الجسم، سليم الحواس،
فإن حياة الإنسان كُلٌّ لا يتجزأ، وإن حياته الجسمية في الصغر مؤشرا إلى حالته في الكبر، وإن العقل السليم في الجسم السليم.
والإسلام يريد منا أن نربي أولادنا على القوة والنشاط.
..
ويبدأ الوالدان التربية بوضع الخطة الحكيمة والمنهاج السديد لتربية الأولاد، وذلك بأن يبذل الأب من ماله ووقته على تربية أولاده،
فيُعلِّمهم الأدب الحسن ويُلقِّنهم الخلق الإسلامي الفاضل ويُدرِّبهم على السلوك القويم..
.
فيكون الأولاد ذرية صالحة في الدنيا ويكونوا أجرا وثوابا في صحيفة الوالدين للآخرة، ويمتد بهم العمل الصالح بعد الوفاة ويتحقق فيهم الحديث الشريف:
" إذا ماتَ الإنسانُ انقَطعَ عنه عملُهُ إلَّا من ثلاثٍ : صَدقةٌ جاريةٌ . وعِلمٌ يُنتَفعُ بِهِ ، وولدٌ صالحٌ يدعو لَهُ " [5]
التعريف بالحلال والحرام
يجب تعريف الأولاد بالحلال والحرام في جميع التصرفات مع تنمية العقيدة وتعليم العبادات والأخلاق والمحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
والاقتداء به، مع الاعتزاز بتاريخ الصحابة والسلف عامة.
ويتم ذلك بالتعليم والتعليق على مواقف التاريخ و ضرب الأمثلة الحية والقصص الإسلامية والقراءة الواعية والتزود بالثقافة مع التطبيق العملي؛
ليقوم في نفس الطفل صورة كاملة وصحيحة عن الإسلام.
والشائع اليوم أن الآباء يهملون أولادهم في هذه المرحلة مُتوهمين أنهم صِغار وأن التعاليم الإسلامية غير مطلوبة منهم؛ كالصلاة والحجاب وغيرها،
ثم ينحرف الشاب وتخرج الفتاة عن حياء الإسلام، فيصرخ الآباء والأمهات ويستغيثون بعد فوات الأوان!!
تعويدهم على ممارسات العبادات
وهي فرع من التعريف بالحلال والواجب؛
فيقوم الوالد بتعويد أولاده على ارتياد المساجد وأداء الصلاة في البيت والمدرسة والتدريب على الصيام والصدقة،
والإحسان إلى الجار والفقير، ومعاونة العاجز واحترام الكبار والمسنين. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ سِنِينَ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ "[6]
قال العلماء:
وهكذا في الصوم وغيره ، حتى يتمرنوا ولكي يبلغوا وهم مستمرون على العبادة والطاعة ومُجانبَة المعصية وترك المُنكر.
..
فالتعليم في الصِغر كالنقش في الحجر، ومن شبَّ على شيء شاب عليه، والحكمة من النَّص على الصلاة أنها عماد الدين ويُقاس عليها غيرها.
..
ووسيلة الوالد التربوية تكون باصطحاب الأولاد إلى المسجد ومشاركتهم في تنفيذ الأحكام الشرعية في البيت والعمل
وأن يُكلِّفهم بها ويُحبِّب لهم الطاعات، ويُرغِّبهم بأجرها ويُحذِّرهم من المحرمات وأن يُجالِسهم في أوقات متعددة دون الاكتفاء بإصدار الأوامر،
وان يستمر بالتذكير اليومي لقوله تعالى:
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } طه: 132.
التسوية بين الأولاد
وذلك في الرعاية والمحبة والاهتمام بالهدايا ماديا ومعنويا حتى القبلات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادَكُمْ فِي النُّحْلِ، كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ وَاللُّطْفِ " [7]
والنُّحْلُ أي: العَطَاء.
الـقـــدوة الـحـسـنــــة
إنَّ منهج الإسلام في تربية الأولاد يحُضَّ الوالدان على أن يكونا قدوة حسنة في التربية؛ لأن التقليد وسيلة ناجحة عند الصغار خاصَّة،
ومع الوالدين بشكلٍ أخَصّ؛ فالطفل يبدأ بتقليد والديه ومن يحيط به و يُقلِد من يُحب ويتقمص شخصية من يستحوذ على فِكِره،
ويظهر ذلك جليا عند الأطفال في العبادة والأخلاق والسلوك، وتتمثّل القدوة الحسنة بالفكر والسلوك معا،
فإن تعذَّر على الأب جانب الفكر والمعرفة؛ استعان بالأيدي الأمينة والمُربي الواعي والمُوَجِّه الحكيم؛ كما يُفعل في تعليم الصنعة والحرفة.
الاعتماد على الله تعالى
وهو من أهم العناصر، وذلك بالتوجه إلى الله والاستعانة به وسؤاله التوفيق في حفظ الذرية الطيبة، وهذا هو منهج الأنبياء كما ذكره القرآن الكريم كثيرا،
قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } إبراهيم: 40...
..
فإن التزم المسلم منهج الإسلام في تربية الأولاد، ثم ساء الولد وفسد؛ فتلك مشيئة الله وإرادته، وهذا أمر نادر بإذن الله تعالى.
..
ونحن علينا العمل وعلى الله سبحانه النتائج، وهذا هو المنهج الأصلي الذي سار عليه سلفنا وخلَّفوا الأجيال الطيبة.
وخِــتـَـــامـَــــًا
إن تطبيق هذه الحقوق للأولاد على الوالدين عمليا قد تحققت في التاريخ الإسلامي، وظهرت الأجيال المُتعاقِبة الفاضلة، وخَلَّفت أمتنا العلماء والأبطال،
والأئمة والقادة والمفكرين والمجاهدين نتيجة لتربية الوالدين في البيت والالتزام بالمنهج التربوي الإسلامي الفريد، ومخالفة هذا المنهج هو ما يُهدِّد الأُمَّة اليوم.
..
فعلى الآباء والأمهات أن يُعنوا بأبنائهم عنايةً فائقةً، وأن يرتقوا بعقولهم ولا يمتهنوها بالسخافات وبكل ما لا يليق بعقل المسلم الجَادّ،
وأن يغرسوا في أولادهم حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب القرآن، وحب الصحابــة والصالحين،
وحب العلم والعلماء، وحب الأخلاق الحميدة، ويعودوهم بذل المعروف والخير للآخرين، وإغاثة الملهوف، والتأدب مع الناس.
..
وليحرص الآباء والأمهات على ألَّا يُصاحب أولادهُم إلَّا الصالحين، فالقرين بالمقارن يقتدي، و المرء على دين خليله، والأخلاقُ تُعدِي.
بهذا و بحسن الأخذ بالأسبــاب ، و إخلاص النية لله من قبل ، و بحسن التوكل عليه ، ثم بتوفيقه سبحانه،
ننشئ جيلاً صالحاً سوياً جادّاً يَعْمُرُ الكوْنَ وفق منهج واضح و صحيح ، بتوفيق الله.
وأخيــــــرًا.. أقول للآباء الأفاضل و للأمهات الفضليات:
إن أحسستم بالعجز، فارفعوا أكفَّ الضراعة إلى الله و قولوا:
اللَّهُمَّ إنَّا قَدْ عَجَزْنَا عَنْ تأدِيـبِ أوْلَادِنَــا ، فَأدِّبْـهُمْ لنَـــا.
..
و لا تنسوا أن تدعوا لأولادكم أمامهم و من ورائهم، لا أن تدعوا عليهم،
..
هكذا تُعينوهُم على بِرّكُم .. هكذا تُعينوهُم على بِرّكُم
..
فاحرصوا كل الحرص عليهم و أعينوهم على بِرِّكُم، و لا تكونوا سببًا لدخولهم جهنم،
أعاذنــــا الله و إياكم منها.
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
_______________________________
المراجع، ومصادر النقل بتصرف:
تفسير الوسيط للشيخ طنطاوي رحمه الله.
تفسير السعدي رحمه الله.
تفسير ابن عاشور رحمه الله.
شروح الحديث: موقع إسلام ويب.
من خطبة: الفتن في الأموال والأزواج والأولاد والأسماع، للشيخ: عبد الله القصير-موقع: المنبر.
من مقال: (بر الوالدين .. أم .. بر الأبناء)-موقع: صيد الفوائد.
من بحث (حقوق الأولاد على الوالدين في الشريعة الغرّاء)-موقع: الملتقى الفقهي.
----------------------
[1] متن الحديث، في صحيح الأمام مسلم (1829):
"ألا كُلّكُم راعٍ . وكلّكُم مسئولٌ عن رعيّتهِ . فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ ، وهو مسئولٌ عن رعيّتهِ .
والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتهِ ، وهو مسئولٌ عنهم . والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلِها وولدهِ ، وهيَ مسئُولَةٌ عنهُم .
والعبدُ راعٍ على مالِ سيّدِهِ ، وهو مسئُولٌ عنهُ . ألا فكلُّكُم راعٍ . وكلكُم مسئولٌ عن رعيتهِ"
[2] صححه الإمام الألباني في: صحيح الجامع (1990).
[3] صححه الإمام الألباني في: صحيح الجامع (2928).
[4] رواه الإمام البخاري (5090).
[5] صححه الإمام الألباني في: صحيح الترمذي (1376).
[6] صححه الإمام الألباني في: سنن أبي داود (495).
[7] صححه الإمام الألباني في: صحيح الجامع (1046).
تعليق