الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبة وسلم،
أما بعد..
فإنَّ تدبر القرآن يُزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكُب النور، ويُحرِك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويُنشئ حياةً للرُوحِ تنبِضُ بها وتُشرِق وتستنير.
وكثيرًا ما نجد أن بعض الآيات القرآنية خُتِمَت بقوله تعالى:
{لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، {أَفَلا يَعْقِلُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ،
فالقرآن الكريم يدعونا إلى التفكُّرِ في آيات الله.
..
إنَّ العيش مع آيات الله يجعل المسلم يعرف أن هذه الحياة مزرعة ودار حرث، وأنَّ ما زرعه سوف يحصده، فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع,
وأنَّ هذه الحياة إنما هي دار ممر لا دار مقر، وأنَّ كل ما فيها من لذات إنَّما هو لعب ولهو وغرور، وأنَّ الحياة الحقيقية هي في الآخرة،
فهذا يجعل المسلم لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أوتي. [1]
لذا فإنَّ تدبرنا للقرآن هو أفضل طريق للاستفادة منه والتأثر بما فيه من حضٍّ على فعل الخيرات، ومن ثَمَّ العمل بها.
تلك مقدمة لموضوعنا الأساسي؛ الذي يدور حول: مفهوم الانفاق في سبيل الله، وصوره، وثمراته؛ من خلال تدبر آيات الإنفاق في القرآن الكريم.
فالآيات الدالة على ذلك متعددة وكثيرة، سنتعرض بأمر الله وبعونه إلى بعضٍ منها؛ كمثالٍ لمزيدٍ من الفهم والتأمُّل،
رزقنا الله وإياكم بنعمة تدبر القرآن الكريم وفهمه والعمل بما جاء فيه.
فما هو الإنفاق في سبيل الله، وما تعريفه؟
الإنْفَاقُ إيجازًا هو: بَذْلُ المال ونحوِه في وجهٍ من وجوه الخير.
والإنفاق يكون بإخراج المال الطيب في الطاعات والمباحات، بما فيه المنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يُرغَب في صِلَته،
وأيضًا يكون بالتقرُّب لله بنفع الفقراء وأهل الحاجة من طعام أو لباس، وتسديد نوائب المسلمين.
ولماذا نتطرق لموضوع الإنفاق من خلال تدبر آياته في القرآن؟
والجــــواب:
أولا: لأن تدبر القرآن واجب فرضه الله علينا؛ فقد جاء الأمرُ بالتَّدبر -كمِثالٍ واستِدلال- في سور:
النِّساء (آية: 82)، و المؤمنين (آية: 68)، و ص (آية: 29)، و محمد (آية: 24)،
ثمَّ إنَّ تدبر القرآن فيه اسْتِجلَاب لطُمأنينَة القلب، كما قال تعالى:
{أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
ثانيا: لربط واقعنا بالقرآن والسنة، لما لهما من أثّرٍ على حياة الفرد والأمة،
ونحن أحوج ما نكون إلى هذا التأثير الطيب المبارك على مجتمعات أمتنا الإسلامية التي غاصت في مستنقعاتِ الأَثَرَةِ والأنانيةِ وحُبِّ الذَّات،
وزاد فيها إعراض الكثير من المسلمين عن الفقراء والمساكين وكل ذي حاجة؛ إلا من رحم ربي ممن يبذلون أنفسهم في سبيل الآخرين،
ويُنفقِون من أموالهم التي رزقهم الله بها، فينفقونها في سبيل الله بكل محبَّة ومودَّة، كما أمرنا الله تعالى في آيات عديدة من أي الذكر الحكيم.
جعلنا الله وإياكم منهم
ثالثا: لأنَّ تدبر القرآن يؤدي بنا إلى فهم أمور كثيرة تنفعنا وتعيننا على الحياة في سبيل الله،
فنخوض-مع أنفسنا ومع الآخرين- مصاعب الحياة؛ بأمواجها المُتلاطمة وبكلِّ تقلُباتِها وكل مشاقِّها،
لنصل إلى بر الأمان بعون الله المستعان، وكما قِيل:
الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله. [2]
فأقولُ مُعقِّبًا؛ بل إنَّ الحياة في سبيل الله أصعب بكثير من الحياة الرغدة بكل ما فيها من عيش مُريحٍ ومُنَعَّم ومُتْرَف،
فحياةٌ بلا هدف وبعيدة كل البعد عن منهج الله نهايتها العذاب في الآخرة عياذا بالله،
لكنَّ الحياة في سبيل الله -وإن صَعُبت- تفتح أبواب الخير لصاحبها بكل ما فيها من معانِ الخير والنعيم الدُّنْيَوِيّ والأُخْرَوِيّ؟،
وقد ينال الشهادة بأمر الله من عاش حياته في سبيل الله؛ إذا صدقت نيته وكانت خالصة لوجه لله؛ فالحياة مع القرآن هي الحياة الحقيقية،
التي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة.. قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ ،
فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا ، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا وَأَسْبَابِهِمَا وَغَايَاتِهِمَا وَثَمَرَاتِهِمَا ، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا ... اهـ [3]
فبالتدبر تكون النجاة بإذن الله، وبالتدبر يكون العيش في سبيل الله، وعلى هذا النحو؛ فإنَّ الإنفاق جزء من عيش الحياة في سبيل الله.
وأخيرًا؛ فإن التدبر بوجه عام فيه تسلية للنفس وتثبيتها، ثم حثِّها على المسارعة بالخيرات،
ومن ثَمَّ تحقيق الفهم الصحيح والواضح من مراد كل آية، ثم العمل بها.
وموضوع الإنفاق في سبيل الله والحديث عنه تكَلَّم فيه علماؤنا الأجلاء -جزاهم الله خيرا-، وليس لمثلي أن يتكلم فيه؛
لكن بفضل من الله وتوفيقه اجتهدت في البحث عن آيات الإنفاق، وتحديدا الآيات التي تشمل كلمة (يُـنـفِـقُـــــونَ)،
فاقتطفت بعضًا مما وجدته في بعض الآيات المتتابعة -من حيث ترتيب السور في المصحف الجامع- بما يشير إلى تلك المعاني:
1- تصنيف المنفقين في سبيل الله وصفاتهم.
2- أوجه الإنفاق وصوره.
3- ثمرات الإنفاق في سبيل الله.
2- أوجه الإنفاق وصوره.
3- ثمرات الإنفاق في سبيل الله.
4- جزاء المنفـق رياء ونفاقا، والممسك بخلًا وشُحَّا.
5- حال المؤمن الغير مستطيع للإنفاق.
5- حال المؤمن الغير مستطيع للإنفاق.
وتعالوا معًا نسير مع السياق القرآني وتتابعه؛ لنتدبر تلك الآيات بفتح من عند الله علينا جميعًا وبحوله وقوته:
1- تَصْنِيفُ المُنفِقِينَ في سَبيِلِ اللهِ وصِفَاتُهُم
فبعد فاتحة الكتاب، تأتي فواتح سورة البقرة بوصف الله تعالى لعباده المُتَّقِين -الذين اهتدوا بالقرآن، فامتثلوا لأوامره جلَّ وعلا واجتنبوا نواهيه-؛
بثلاث صفات رئيسية من جملة خمس صفات، ذكرها المولى تبارك وتعالى في الآيتين (3 ، 4) بقوله تعالى:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}
وتلك الصفات الثلاث الرئيسية عليها مدار عمل الإنسان كله في حياته، ألا وهي:
الإيمان ، و إقامة الصلاة ، و الإنفاق مما رزق الله
فهذه حقيقة المُتّقِين الذين اهْتَدَوْا بالقرآن، وَانْتَفَعُوا به غَايَةَ الانتفاع، وكل هذه الصفات تجعل الإنسان مؤمناً حقاً، وهو بذاك من المتقين،
الذين اتقوا عقاب الله بهذه الصفات الشريفة العالية، فكان جزاؤهم قوله تعالى:
{أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} البقرة: 5
أَيِ: الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ عَلَى هُدًى عَظِيمٍ، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ،
وَأَيُّ هِدَايَةٍ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الْمُسْتَقِيمَةِ، ثُمَّ قَالَ:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وَالْفَلَاحُ هُوَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَرْهُوبِ،
حَصَرَ الْفَلَاحُ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْفَلَاحِ إِلَّا بِسُلُوكِ سَبِيلِهِمْ،
وَمَا عَدَا تِلْكَ السَّبِيلِ، فَهِيَ سُبُلُ الشَّقَاءِ وَالْهَلَاكِ وَالْخَسَارِ الَّتِي تُفْضِي بِسَالِكِهَا إِلَى الْهَلَاكِ.
فمن أدَّى زكاة ماله سخيّة بها نفسه، وازداد في إنفاق ماله تصدُّقًا وتطَوعًا راضِيًا بحُكمِ اللهِ، من غير تكَلُّفٍ ولا جُحُود؛
فهو من (المُتقين).
~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~
2- أَوْجُــــهُ الإِنْـفَـــــــاقِ وَصُـــــــوَرِه
ومع صفة المتقين الثالثة، وهي الإنفاق محور الموضوع؛ ما زلنا عند فواتح سورة البقرة مع قوله تعالى:
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}
أي ومما أعطاهم الله من الرزق الذي سهَّله لهم في الأرض ينفقون ويخرجون زكاة أموالهم، التي هي ركن من أركان الإسلام..
قال قتادة: فأنفِقوا ممَّا أعطاكم الله، هذه الأموال عوار وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها. اهـ
قال ابن كثير رحمه الله:
كثيراً ما يُقرِن الله بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإنَّ الصلاة حقٌّ لله وعبادته،
وهي مُشتمِلَة على توحيده، والثناء عليه، وتمجيده، والابتهال إليه، ودعائه، والتوكل عليه..
والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين، بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك: القرابات، والأهلون، والمماليك، ثم الأجانب،
فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى:(( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) اهـ
ومع السياق القرآني في سورة البقرة، نصل إلى الآية: 215 ، وقوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
والمعنى: يسألك أصحابك يا محمد (صلى الله عليه وسلم) أى شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟
قل لهم: ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه للوالدين قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما ووفاء لبعض حقوقهما،
وللأقربين وفاء لحق القرابة والرحم ولليتامى لأنهم فقدوا الأب الحانى الذي يسد عوزهم،
والمساكين لفقرهم واحتياجهم، وابن السبيل لأنه كالفقير لغيبة ماله وانقطاعه عن بلده.
ولم يتعرض سبحانه هنا لبقية المحتاجين كالسائلين والغارمين؛ إمَّا اكتفاء بذكرهم في مواضع أخرى، وإمَّا بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى:
في آخر الآية {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فإنَّه شامل لكل خير واقع في أى مصرف كان.
والآية رقم: 219 ، قوله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
فمناسبة هذا السؤال لما قبله؛ أنهم بعد أن نُهوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة؛ كتعاطى الخمر والميسر، سألوا عن وجوه الإنفاق الحلال،
وعن مقدار ما ينفقون، فأُجِيبُوا بهذا الجواب الحكيم.
وأصل العفو في اللغة الزيادة. قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} أى زادوا على ما كانوا عليه من العدد.
ويُطلق على ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية.
والمعنى: ويسألونك ما الذي يتصدَّقون به من أموالهم في وجوه البِرّ، فقل لهم تصدَّقوا بما زاد عن حاجتكم،
وسهُل عليكم إخراجه، ولا يشقّ عليكم بذله.
~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~
3- ثَـــمَـــــــرَاتُ الإِنْــفَـــــــاقِ فِي سَبِيِــلِ الله
ومازلنا نقتطف تتابعًا من سورة البقرة بعض الآيات التي ورد فيها الإنفاق، وقوله تعالى:
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} آية: 261
هذا بيان للمُضاعفةِ التي ذكرها الله في قوله:
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} البقرة: 245
والمَثلُ بحبة أنبتت سبع سنابل؛ فيه إحضار لصورة المُضاعفة، فتنقاد النفس مُذعِنة للإنفاق سامِحة بها مؤمِّلة لهذه المضاعفة الجزيلة والمِنَّة الجليلة،
يُضَاعِفُ هذه المضاعفة لِمَن يَشَاءُ ، أي: بحسب حال المُنفق وإخلاصه وصدقه، وبحسب حال النفقة وحِلّها ونفعها ووقوعها موقعها،
وهذه المضاعفة لمن يشاء الله، فيعطي الأجر بغير حساب، وَاللَّهُ وَاسِعُ الفضل، واسع العطاء، لَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ (4) وَلَا يُحْفِيهِ (5) سَائِلٌ.
وقوله تعالى:
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} آية: 262
الذين يُخرجِون أموالهم في الجهاد وأنواع الخير، ثم لا يُتبعون ما أنفقوا من الخيرات مَنّاً على مَن أعطَوه ولا أذىً بقولٍ أو فِعْلٍ يُشعره بالتفضل عليه،
لهم ثوابهم العظيم عند ربهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على شيء فاتهم في هذه الدنيا.
تأملوا معي ما ختم الله به هذه الآية الكريمة:
{لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
أي: لا خوف عليهم مما سيجدونه في مستقبلهم، ولا هم يحزنون على ماضيهم،
وذلك لأن الله تعالى قد أحاطهم برعايته في دنياهم وأُخراهم، وعوَّضَهُم عمَّا فارقوه خَيرَ عِوَض وأكرَمَه.
وقوله تعالى:
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} آية: 265
مثلٌ آخر لمضاعفة الأجر من الله للذين ينفقون أموالهم طلبًا لرضا الله واعتقادًا راسخًا بصدق وعده؛ فإنَّ نفقات المخلصين تُقبل عند الله وتُضاعف،
قلَّتْ أم كَثُرت، فالله المُطَّلِع على السرائر، البصير بالظواهر والبواطن، يُثيبُ كُلَّا بحسب إخلاصه.
وقوله تعالى:
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة: 274
يبشر الله المتصدقين في جميع الأوقات على جميع الأحوال، بما ينفقون من أموالهم في طاعة الله ومرضاته،
بأنَّ لهُم أجرٌ عظيمٌ مِن خَيرٍ عِندَ الرَّبِّ الرَّحِيم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا،
ففازوا بحصول المقصود المطلوب، ونجوا من الشرور والمرهوب.
ثم نصل إلى سورة آل عمران، وقوله تعالى:
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آية: 134
هُم الذين ينفقون أموالهم في اليسر والعسر، والذين يُمسِكون ما في أنفسهم من الغيظِ بالصبر، وإذا قَدَروا عَفَوْا عمَّن ظلمهم.
وهذا هو الإحسان الذي يحب الله أصحابه.
وأي شيئ أعلا وأثمن من هذه الثمرة الطيبة المباركة الكريمة، وهي حب الله لعبده؟
ونستكمل معًا لنصل إلى سورة التوبة، وقوله تعالى:
{وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} التوبة: 121
ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة في سبيل الله، ولا يقطعون واديًا في سيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاده، إلا كُتِب لهم أجر عملهم؛
ليجزيهم الله أحسن ما يُجْزَون به على أعمالهم الصالحة.
ومن ذلك هذه الأعمال، إذا أخلصوا فيها للّه، ونصحوا فيها، ففي هذه الآيات أشد ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه،
والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات، وأن ذلك لهم رفعة درجات، وأن الآثار المترتبة على عمل العبد له فيها أجر كبير.
~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~
4- جَزَاءُ المُنفِــقُ رِيَاءً ونِفَاقًا، والْمُمْسِكُ بُخْلًا وشُحَّــًا
ثم نعرج ونعود إلى سورة النساء، حيث يقول ربنا تبارك وتعالى:
{وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} آية: 38
قال الجمهور نزلت في المنافقين؛ لقوله تعالى: رئاء الناس، والرئاء من النفاق.
وقد سبق هذه الآية قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}
فكما أن من بخِلَ بما آتاه الله، وكتم ما مَنَّ به الله عليه عاصٍ آثمٍ مُخالفٍ لربه، فكذلك من أنفق وتعبَّد لغير الله فإنَّه آثمٌ عاصٍ لربه مُستوجِب للعقوبة،
لأنَّ الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه الإخلاص، كما قال تعالى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} البينة: 5
فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب؛ فلهذا حثّ الله تعالى عليه.
ومن بعدها نصل إلى سورة التوبة، وقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} آية: 34
هذا تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين من عُلماء السوء: (اليهود) وعُبَّاد الضلال (النصارى)؛
يأخذون أموال الناس بغير حق، ويصُدُّونهم عن سبيل اللّه.
فالتحذير هنا من التشبه بهؤلاء العلماء (الأحبار و الرهبان) في أحوالهم وأقوالهم،
وكما ذكر الله تعالى ثواب المنفقين في سبيله، ذكر أيضًا عاقبة الذين يكنزون أموالهم ولا ينفقونها كما أمر سبحانه؛
كأن يُمنع منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل اللّه إذا وجبت.
وفي نفس السورة، قال تعالى:
{وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} التوبة: 54
وهنا أيضًا يأتي ذكر الإنفاق مع أقامة الصلاة؛ لكن في سياق الحديث عن المنافقين ووصْفِهم،
حيث بيَّن سبحانه بُطلان نفقات المنافقين في الآية السابقة (53)، ويبين سبحانه في هذه الآية صفة فسقهم وأعمالهم، فقال:
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}
والأعمال كلها شرط قبولها الإيمان، فهؤلاء لا إيمان لهم ولا عمل صالح،
حتى إن الصلاة التي هي أفضل أعمال البدن، إذا قاموا إليها قاموا كسالى متثاقلون، لا يكادون يفعلونها من ثقلها عليهم.
وينفقون أموالهم من غير انشراح صدر وثبات نفس،
ففي هذا غاية الذم لمن فعل مثل فعلهم، وأنه ينبغي للعبد أن لا يأتي الصلاة إلا وهو نشيط البدن والقلب إليها،
ولا ينفق إلا وهو منشرح الصدر ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من اللّه وحده، ولا يتشبَّه بالمنافقين.
~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~
5- حَــالُ المُــؤْمِـــنُ الْغَـيْـــرَ مُسْتَـطِـيـِـعٍ للْإِنْــفَـــاق
ومع سورة التوبة أيضًا نستكمل حال المؤمنين الغير قادرين على الإنفاق، وقوله تعالى:
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
* وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} الآيتين: 91-92
هنا نجد قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}
معطوف على ما قبله في الآية (91)، أى: لا حرج ولا إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون،
إذا ما تخلَّفوا عن الجهاد، وكذلك لا حرج ولا إثم أيضا على فقراء المؤمنين، الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل التي يركبونها
لكي يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل، قلت لهم يا محمد (صلى الله عليه وسلم): «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» .
وفي هذا التعبير ما فيه من تطييب قلوب هؤلاء السائلين؛ فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم:
إنَّ ما تطلبونه أنا أسأل عنه، وأفتش عليه فلا أجده، ولو وجدته لقدمته إليكم.
وقوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ}
بيان للآثار التي ترتبت على عدم وجود ما يحملهم من رواحل: لكي يخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك.
أى: أن هؤلاء المؤمنين الفقراء، عندما اعتذرت لهم بقولك: «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» انصرفوا من مجلسك، وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن؛
لأنهم لا يجدون المال الذي ينفقونه في مطالب الجهاد، ولا الرواحل التي يركبونها في حال سفرهم إلى تبوك.
~.~.~.~.~.~.~.~.~
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ
إنها صورة صادقة مؤثرة للرغبة الصادقة في الجهاد، وللألم الشديد للحرمان من نعمة أدائه.
ومن رحمة الله بعباده أنَّه متى وُجِدَت النية الصادقة في فعل الخير؛ حَصُل الثواب، وإن لم يكن هناك عمل،
بدليل أن المؤمنين الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر شرعي، بشّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مُشاركون لمن خرج في الأجر.
وبهذه القلوب السليمة، والعزائم القوية والنفوس النقية التي خالط الإيمان شِغافُها..
ارتفعت كلمة الحق، وعزَّت كلمة الإسلام.
لقد كانت الأمة الإسلامية في مجدها السابق أقل عددا وأفرادا بكثير جدا عن عددنا الآن!
لكنها كانت ذات سيادة وريادة لمن في الأرض جميعًا بفضل الله، ثم بفضل ما كانت تبذله من الجهد والمال في سبيل الله،
فكان الفرد الواحد منها يُعدُّ بأُمَّة؛ أمَّا الآن، فتكاد أمتنا كلها لا تُعدُّ بواحدٍ من السلف الصالح، فالسواد الأعظم الآن يعيش لنفسه فقط،
فلا يَتعَاوَن ولا يَتآزَر بَعضُهُم بعَضًا، برَغَمِ أنَّ تَآزُرَ أَفْرَاد الْمُجْتَمَعِ ضَرُورِيٌّ لِكُلِّ بِنَاءٍ وتَقَدُّمٍ؛ بالتَّعَاوُنِ و التَّضَامُنِ و الْمُسَاعَدَةِ الْمُتَبَادَلَة،
وبمُسَاعَدَةِ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ، وَإِعَانَةِ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَبَذْلِ الْمَالِ، وَالْعِنَايَةِ فِي حِفْظِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
هَكَذا تَنَهَضُ الأمَم؛ إذا عَاشَت حَياتهَا بالقرآن، تدَبُّرا وتفَّهُمًا وتطبيقًا عمليًا.
~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~
~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~.~
~.~.~.~.~.~.~
أسأل الله لي ولكم..
أن يجعلنا من أهل القرآن وخاصته، الذين يتلونه حق تلاوته، ويتدبرونه تفهما وتعلما، ويعملونه بما جاء فيه،
ويحيون حياتهم كلها بالقرآن، بحولك وقوتك يا عزيز يا رحمن،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع:
التفسير الميسر.
تفسير الإمام السعدي رحمه الله.
تفسير الإمام ابن عاشور رحمه الله.
تفسير الوسيط للشيخ سيد طنطاوي رحمه الله.
لماذا نتدبر القرآن ؟ أ. د. ناصر بن سليمان العمر.
صفات المتقين-موقع إمام المسجد.
--------------------
[1] من افتتاح خطبة: (تدبر القرآن) للشيخ حسين بن حسن أحمد الفيفي-المصدر: موقع المنبر
[3] عبارة منسوبة للشيخ ابن باز رحمه الله ضمن هذه الكلمات:
(من نذر نفسه لخدمة دينه فسيعيش متعباً ولكن سيحيى كبيراً ويموت كبيراً ويبعث كبيراً، والحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله)،
ولم أجد سندا لعزوها إلى الشيخ رحمه الله أو لغيره من خلال بحثي، وللفائدة راجع هذه الفتوى: هنــا
[3] مدارج السالكين.
(4) نائِل: ( اسم ) ، النَّائِلُ : ما يُنَال ويُدْرَك ، والنَّائِلُ : الجُودُ و العطيَّةُ.
(5) أَحْفَى: ( فِعل ) ، أحفى السُّؤالَ : ألحَّ وبالغ فيه.
تعليق