ثمرات الإنفاق في سبيل الله
قال الله – تعالى -: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾ [إبراهيم: 31]، وقال: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10].
وفي "الصحيحين" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة أكثرَ الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبَّ أمواله إليه بَيْرَحاءُ، وكانت مستقبلةً المسجدَ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب مِن ماءٍ فيها طيِّب، قال أنس - رضي الله عنه -: فلما أنزلت هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن الله - تبارك وتعالى - يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإن أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله، أرجو بِرَّها وذُخرها عند الله - عز وجل - فضعْها يا رسولَ الله، حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بَخ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح... الحديث))[1].
وهنا جملة من آداب الإنفاق:
أن يكون من حلال، وأن يحتسب الأجر من الله – تعالى - وأن يكون خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكون في سبيل الله، وأن تكون النفقة في موقعها من أعمال الخير، والبِرِّ، والإحسان، وأن يبذلها المنفِقُ بسخاء نفس، وأن تكون من أجود ما يحب المرءُ لينال البر؛ قال – تعالى -: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾.
وأن يَفرح ويُسَرَّ عند النفقة، وينشرح بها صدره، ولا يَمُنَّ بها، ولا يذكرها، ولا يستكثرها، وأن يعلم أن الفضل لله الذي أعطاه المال لينفق منه، وأن يكون قلبه ثابتًا عند النفقة، فلا يضطرب أو يخاف أن ينقص مالُه؛ قال – تعالى -: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265].
وأن ينفق سرًّا وعلانيةً حسب المصلحة، فإن كان يريد الاقتداء به، فلْيُعلن النفقة، وإلا فلْيُسِرَّها، وأن تكون في السرَّاء والضرَّاء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، واليُسر والعُسر، وألاَّ يرجع فيها؛ فإن العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه، وأن يَعلم أنه عندما يُنفِق في سبيل الله إنما يُقرض اللهَ قرضًا حسنًا؛ قال -تعالى-: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].
وأن يعلم أن الموت آتٍ لا شك في ذلك، فيُسارع إلى الإنفاق قبل حلوله، وأن يتَّقي شُحَّ نفسِه؛ قال – تعالى -: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16]، وأن يَعلم أن الله سيعطيه مِن فضلِه أكثرَ مما أَنفق؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما مِن يومٍ يُصبِح العباد فيه إلا ملكانِ ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا))[2].
وأن يعلم أن النفقة تقِي من عذاب النار، وتمنع ميتةَ السوء؛ في "الصحيحين": عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معشر النساء، تصدَّقْنَ؛ فإني رأيتكن أكثرَ أهل النار))، فقلن: وبِمَ ذلك يا رسول الله؟! قال: ((تُكثرْنَ اللَّعنَ، وتَكفُرْنَ العشير))[3]، وأن يعلم أن ((كل امرئ في ظلِّ صدقتِه، حتى يُفصل بين الناس))[4]، وأن ((أحب الناس إلى الله أنفعُهم، وأحب الأعمال إلى الله - عز وجل - سرورٌ تُدخِله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دَينًا، أو تَطرُد عنه جوعًا))؛ كما ورد في الحديث الذي ذكره الألباني في "صحيح الجامع الصغير"، برقم: 176.
وأن تعلم أن ((الصدقة تطفئ الخطيئةَ كما يطفئ الماءُ النارَ))[5]؛ كما ورد في الحديث الذي قال عنه الترمذي وغيره: حسن صحيح، وأن الصدقة تكفِّر الخطايا والذنوبَ.
وأن تعلم أن الصدقة عندما يتقبَّلها الله يربِّيها كما يربِّي أحدُنا فَلُوَّه أو فَصيله، حتى تكون مثل الجبل؛ كما ورد في "الصحيحين": ((لا يتصدَّق أحدٌ بتمرة من كسبٍ طيِّب، إلاَّ أخذها اللهُ بيمينه، فيربِّيها كما يربِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم))[6].
وأن الصدقات ترجِّح ميزانَ الحسنات، وتكفِّر الذنوب، وترفع قيمةَ العبد عند ربه، فلا يستوي المُنفِقون وغيرهم؛ قال - تعالى -: ﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: 34].
وأن الكرم والجود من صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعباد الله الصالحين، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما يَسُرُّني أن عندي مثلَ أُحُد هذا ذهبًا، تمضي عليَّ ثلاثةٌ، وعندي منه دينار إلا شيئًا أرصد لدَينٍ، إلاَّ أن أقول به في عباد الله هكذا، وهكذا، وهكذا))[7].
وأن الصدقة لا تنقص المالَ بل تزيده؛ ((ما نقصتْ صدقةٌ من مال))[8].
وأنها سبب لمحبة الله ومحبة الناس، وسعادة القلب، وزكاة النفس، وعبادة الله – تعالى - قال - سبحانه -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 7]، فليس للإنسان شيء يبقى؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وهل لك يا ابن آدمَ مِن مالِك، إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدَّقتَ فأمضيتَ؟!))[9].
وأن الصدقة التي يُخرجها الإنسانُ من ماله في صحته وحياته تَلحقه بعد موته؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا مات الإنسانُ، انقطع عملُه إلاَّ مَن ثلاثة: إلا مِن صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له))[10].
ومن أفضل الصدقات:
1- بناء المساجد: قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن بنى مسجدًا - قال بكير: حسبتُ أنه قال - يبتغى به وجهَ الله، بنى اللهُ له مثلَه في الجنة))[11].
2- بناء المدارس الإسلامية، وكفالة الدعاة والمدرسين والأئمة: قال – تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، وهذا من الجهاد في سبيل الله؛ قال - سبحانه -: ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52].
3- كفالة الأيتام: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة))[12].
4- الجهاد في سبيل الله: عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن جهَّز غازيًا في سبيل الله، فقد غزا))[13].
5- سقيا المياه: في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بينما رجل يمشى بطريق، اشتدَّ عليه العطشُ، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلغ مني، فنزل البئرَ، فملأ خفَّه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له))[14].
6- الأوقاف الإسلامية: وهي صدقات جارية، يستمرُّ أجرُها في الحياة وبعد الممات؛ عن ابن عمر - رضي الله عنه -: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أصابَ أرضًا بخَيْبرَ، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ أرضًا بخيبر، لم أُصبْ مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟"، قال: ((إن شئتَ حبستَ أصلها، وتصدَّقتَ بها))، قال: فتصدَّق بها عمر، أنه لا يُباع، ولا يُوهب، ولا يُورَّث، وتصدَّق بها على الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف"[15].
7- إفطار الصائمين: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن فطَّر صائمًا، كان له مثل أجره، غيرَ أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا)).
8- الإغاثة المختلفة، المقرونة بالدعوة إلى الله.
9- نشر وتوزيع الكتب الإسلامية للعلماء المعروفين بسلامة العقيدة باللغات المختلفة.
10- بناء المراكز الصحية لعلاج الفقراء والمساكين من المسلمين، وقضاء حاجاتهم.
فأنفِقْ يا أخي المسلم في وجوه الخير المختلفة ما دمت على قيد الحياة، قبل أن يفاجئك الأجل المحتوم، وتصدَّقْ وأنت صحيحٌ شحيح، تخشي الفقرَ، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغَتِ الروحُ الحلقومَ، قلتَ: لفلانٍ كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلانٍ كذا.
أسأل الله أن يعِين الجميعَ على الإنفاق في وجوه الخير، وأن يتقبَّل منا، إنه سميع مجيب الدعاء.
[1] متفق عليه؛ البخاري: 1461، ومسلم: 998.
[2] متفق عليه؛ البخاري: 1442، ومسلم: 1010.
[3] البخاري: 1462.
[4] حديث صححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير": 4510، وانظر "مسند أحمد": 4/ 148.
[5] الترمذي: 2616.
[6] متفق عليه؛ البخاري: 1410، ومسلم: 1014، واللفظ له.
[7] متفق عليه؛ البخاري: 6444، ومسلم، الزكاة: 32.
[8] مسلم: 2588.
[9] مسلم: 2958.
[10] مسلم: 1631.
[11] متفق عليه؛ البخاري: 450، ومسلم: 533.
[12] رواه مسلم: 2983.
[13] متفق عليه؛ البخاري: 2843، ومسلم: 1895.
[14] متفق عليه؛ البخاري: 6009، ومسلم: 2244، واللفظ له.
[15] البخاري: 2737، ومسلم: 1632.
منقول من شبكة الالوكة
تعليق