إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

نور الله وأفواههم تأمّلات لغوية في آيتين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [منقول] نور الله وأفواههم تأمّلات لغوية في آيتين

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    نور الله وأفواههم تأمّلات لغوية في آيتين

    تكرّر في القرآن الكريم الحث الصريح على تدبّر القرآن والتأمل في دلالاته وألفاظه ، فقال - جل وعلا - :{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ } (النساء : 82) ، ووُصف كتابُ الله - تعالى - بأنّه : ( لا يخلَق عن كثرة الردّ ، ولا تنقضي عجائبه ) ، فهو الكتاب العَجَب البديع الفائق في مفاده ، وهو المنهل الذي لا تنتهي أسراره ، ولا تُحصى أوجه الروعة والإعجاز فيه .
    وإنّ مِن تدبُّرِ كتاب الله - تعالى - وقوفَ التأمل أمام نسجه المحكم ، والخَضَعَ ( وهو التطامن في العنق ) والإنصاتَ في محراب إعجازه البياني، وأسلوبه المتقن ؛ لاستظهار لطائفه اللغوية ، وأسراره التي لا تنقضي .
    وفي الوقفات الآتية محاولة للدّرَج في مراقي التعبّد بالتأمّل المأجور في لطائف القرآن اللغوية ، من خلال النظر في آيتين تتفقان في غالب ألفاظهما ، وتختلفان في بعض الألفاظ التي تعطي مزيداً من الدلالات الدقيقة ، وتضيف إلى المعنى العام فيهما مجموعة من المعاني اللطيفة ، وهما قول الله - تعالى - :
    { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّنُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ } (التوبة:32)، وقوله - تعالى - : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ { (الصف : 8) .
    الوقفة الأولى : نور الله وأفواههم : قبل الحديث عن هذه الوقفة ، أودّ أنْ أذكّر القارئ الكريم بأن النحويين يقرّرون في كتبهم عند بيان مسائل باب الإضافة ؛ أن المضاف يتأثر باتصاله بالمضاف إليه ، ويكتسب منه أموراً عديدة ، أوصلها بعضهم إلى أحد عشر أمراً .
    ومنها ما يكتسبه المضاف من معاني الشرف أو الضَّعَة من المضاف إليه ، فإذا قيل لك مثلاً : دخلتُ بيت الأمير ، تخيّلت قبل أن ترى البيت أنه مسكن كبير مشرف مشرق ، تزيّنه ملامح الفخامة والإتقان المعماري . أمّا إذا قيل لك : دخلت بيت الفقير ، تخيّلت بيتاً صغيراً ضيّقاً ، أنهكه تتابع السنين ، فبدا كاسفاً كئيباً .
    فالمضاف في المثالين واحد ، وهو كلمة ( بيت ) ، ولكن الأول اكتسب الرفعة والشرف من المضاف إليه : ( الأمير ) ، أما الثاني فتأثر بمعاني الحاجة ودلالات العَوَز التي يحملها المضاف إليه : ( الفقير ) .
    إذا اتّضح هذا الأصل ، فلنعد للتأمل في الآيتين : ففي قوله - تعالى - فيهما :
    { نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } إضافتان : إحداهما إضافة النور إلى الله - تعالى - : { نُورَ اللَّهِ } ، والمراد به دين الإسلام ، والأخرى إضافة الأفواه وهي الآلة المستعملة للإطفاء إلى جماعة المريدين لإطفاء النور : { بِأَفْوَاهِهِمْ } .
    وعند التأمل في الإضافة الأولى : { نُورَ اللَّهِ } نجد أن النور المضاف قد اكتسب قدراً من خصائص القوة والعظمة والشرف والعلو والبقاء من المضاف إليه ( الله ) ، فأنت تستشعر حينما تتلو : { نُورَ اللَّهِ } أن الحديث عن نور يستمدّ قوته وعظمته وكماله من ( الله ) القوي العظيم الكامل ، ونور يتسامى رفعةً وشرفاً وعلواً ؛لأنه يكتسب علوّه من ( الله ) العلي ،ونور باقٍ دائم كبير قد أضاء الأفق وامتدت به المساحات ، وانتشر سناه لينير مسارح الطَّرْف ومنتهى البصر .
    وبعد الشعور بهذه العظمة التصويرية تأتي الإضافة الأخرى :
    { بِأَفْوَاهِهِمْ } بإضافة الأفواه الضعيفة إلى نفر من البشر المخلوقين الضعفاء ، فالمضاف فيها وهو كلمة : ( أفواه ) على ما فيه من الضعف العضوي والعضلي يزداد ضعفاً من خلال إضافته إلى الضمير المتصل ( هم ) العائد إلى أولئك المخلوقين المهازيل .
    وهذا من عجيب البيان ؛ إذ يجمع أمرين : أحدهما : التهكم بإرادتهم وزعمهم أنّه نور ضعيف يمكن أن ينطفئ بمجرّد النفخ ، والآخر : تصغير شأنهم وتضعيف كيدهم ؛ فهم بالمقارنة مع قوة الخالق العظيم ضعفاء مهما أوتوا من قوة ، ومحدودون مهما استعملوا من آلة وأداة ؛ فكيف إذا كانت أداة الإطفاء أفواهَهم ؟إنك حينما تقف وقفة التأمل التصويري هذه تشعر بالأسى والشفقة على هؤلاء ؛لأنك تشاهد أمامك نوراً عظيماً عالياً قد ملأ محيط النظر ، ثم تلتفت إلى زاوية سفلية من زوايا المجال البصري لترى عدداً من الأقزام الصغار ، قد مدّ كل واحد منهم فمه ، وكوّر شفتيه ، ورفع رقبته عالياً ، وبدأ ينفخ وينفخ ، وربّما تجد بعضهم قد اعتلى أكتاف بعض ليصل بنفخه إلى أعلى ما يستطيع من المدى ، ظانّين أنهم قادرون على إطفاء النور ، في محاولات عبثية بائسة يائسة أمام ذلك النور العظيم المتنامي .
    الوقفة الثانية : الإرادة المستمرة : اتّفقت الآيتان بالبدء بالفعل المضارع : { يُرِيدُونَ } الذي يدل على الحدوث والتجدّد في الحاضر والمستقبل ، ولم يأتِ التعبير بالفعل الماضي ( أرادوا ) الذي يدل في الأصل على انقضاء حدوث الفعل في الزمن الماضي .
    فهم يريدون بصورة متجدّدة ومتكرّرة إطفاء نور الله منذ ظهور ذلك النور إلى زمننا الحاضر ، وستتجدّد معهم تلك الإرادة وتستمر ما بقي هذا النور الممتد على مدى الزمن المتتابع ، وما بقيت فيهم قوة على النفخ .
    إنهم عبر التاريخ لم يقفوا عند حد انحرافهم الشخصي عن دين الحق ، واتّباعهم شهواتهم ، إنما هم كذلك يعلنون باستمرار الحرب على دين الحق ، ويريدون إطفاء نور الله في الأرض .
    وهذا التجدّد الملازم لهم في السعي لإطفاء نور الله والصدّ عن سبيله ؛ يتكرّر في مواضع أخرى مبثوثة في كتاب الله ، يؤكّد بعضها بعضاً ، ويضيف بعضها خطوات عملية يقومون بها ويتواصون عليها . تأمّل على سبيل المثال الفعل المضارع
    { يُنفِقُونَ } المجرد من السين ، والمسبوق بها ، وتأمّل ما بعد الفعلين في قول الله - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ })الأنفال:36)، فهم ينفقون وسينفقون الأموال المضافة إليهم إضافة ملكية وحيازة ليصدّوا عن سبيل الله ، لكنها ستكون عليهم حسرة وخسارة في الدنيا ، وعذاباً وندماً في الآخرة .
    ومثل هذا كثير ، ولو أنك رجعت إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن وتأمّلت في الآيات التي تكرر فيها ذكر الصدّ عن سبيل الله وأنّهم يبغونها عِوجاً ؛ لوجدت عجباً .
    الوقفة الثالثة : الغايات الظاهرة والمخفية : في آية التوبة : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا } ، وفي آية الصف : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا } . وقبل النظر في دلالات هذا الاختلاف بين الآيتين ، والمعنى الذي يُضيفه دخول اللام في الثانية ؛ أودّ أنْ أشير إلى مقدّمة نحوية يسيرة تُعين على فهم المعنى ، وهي أنّ الفعل المضارع { يُطْفِئُوا { في الآيتين منصوب بـ ( أنْ ) الظاهرة في الأولى ، والمضمرة في الثانية . وتقدير الثانية : يريدون لأنْ يطفئوا ،و ( أنْ ) والفعل المضارع بعدها تؤوّل بمصدر ( إطفاء ) . وعلى هذا يكون التقدير في آية التوبة : يريدون إطفاءَ نور الله ، وفي آية الصف : يريدون لإطفاءِ نور الله .
    وهذه اللام هي لام التعليل على الصحيح من آراء أئمة النحو .
    وفي هذا الاختلاف اللفظي بين الآيتين إشارة إلى أنّهم يغايرون في إظهار غاياتهم وأهدافهم ؛ ففي آية التوبة هم يريدون إطفاء نور الله صراحة وبصورة ظاهرة ومباشرة ، فالإطفاء ( وهو المفعول به للفعل : يريدون ) هو مرادهم علناً ، فالغاية من إرادتهم هنا ظاهرة وصريحة .
    أما آية الصف ، وتقديرها : ( يريدون لإطفاء نور الله ) ؛ فالشيء المراد فيها ( وهو المفعول به للفعل : يريدون ) غيرُ مذكور ، أي أنّهم يريدون مرادات مختلفة يجعلونها وسائل موصلة في نهاياتها إلى إطفاء نور الله ، فهم لا يَظهرون أو يُظهرون علناً أنهم يريدون الإطفاء ، وإنما يريدون أن يصلوا إلى الإطفاء من خلال طرق غير مباشرة توصل في زعمهم وتدبيرهم إليه ، ولذلك تجدهم في هذه الحال يَظهرون بعباءات مختلفة ، ويدعمون البرامج والمشروعات ، ويرفعون شعارات إصلاحية في ظاهرها ، لكنّها تتغيّا في حقيقتها إطفاء نور الله .
    وما من شك في أنّ خطورة هؤلاء في الحال الثانية ، وهي حال الغايات المخفية ؛ أشدُّ من خطورتهم في الحال الأولى التي يصرّحون فيها بمراداتهم ، ويُعلنون فيها غاياتهم .
    { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ } (التوبة : 32) ، وقوله - تعالى - : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ { (الصف : 8) .
    الوقفة الرابعة : الموقف الرباني : جاء الموقف الرباني من تلك الإرادات والغايات في الآيتين مختلفاً في المبنى ؛ ليعطي المتأمِّلَ دلالات إضافية في المعنى ، تتناسب مع اختلاف الدلالات في الغايات في الآيتين : ففي آية التوبة يقول الله - تعالى - بجملة فعليّة حاصرة :{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ { ، والإباء : هو الامتناع بقوّة ؛ فالله - تعالى - هنا يأبى كلّ شيء إلا إتمامَ نوره . وفي التعبير بالفعل ( يأبى ) من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ لو كان التعبير : ( ولا يريد الله إلا أن يتمّ نوره ) .
    فهم يريدون إطفاء النور ، واللهُ الذي له جميع العظمة وكمال القدرة والعز ونفوذ الكلمة يأبى إلا أن يتمّ نوره ، ثم يجدّدون الإرادة ، والله يأبى ... وما تزال إراداتهم تتجدّد ويتجدّد معها إباء العظيم - جل وعلا - وامتناعه من كل شيء إلا إتمام النور .
    واستعمال الجملة الفعلية الحاصرة بفعلها المضارع ( يأبى ) المشعِر بقوة الامتناع ؛ يتناسب مع الغاية الصريحة والجرأة المعلنة التي ظهرت منهم في أول الآية :
    { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ { ؛ فراية الإطفاء لنور الله المعلنة بصراحة وجرأة لا يناسبها إلا القوة في بيان الموقف الإلهي .
    أمّا آية الصف التي جاءت إرادة الإطفاء فيها عبر الوسائل والأعوان والشعارات الإصلاحية :
    { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ { ؛ فيناسبها أن تكون صياغة الموقف الإلهي فيها من خلال الجملة الاسمية الحاليّة : { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ { ؛ التي تدل على الدوام والثبوت . أي : أنّهم يريدون أموراً يخادعون فيها ويكيدون ليصلوا من خلالها إلى إطفاء نور الله ، فلربّما شعروا بشيء من القدرة ، ووجدوا من الأعوان من يمدّهم بعونه بقصدٍ سيئ أو بنية حسنة ، أو وجد بعض أهل الإيمان في نفسه أن الدين يتضاءل ، وأن نوره آخذٌ في الانحسار ؛ فيأتي الموقف الإلهي الواعد بدوام إتمام النور ، وبخاصة في الأحوال التي يريدون فيها الإطفاء من خلال الدروب الملتوية .
    وإتمامُ النور الموعود به في الآيتين لا يقتصر على مجرد إشراقه ، بل الموقف الإلهي يعِدُ بإكماله وإعلائه ، ويبشّر بتبليغه غايته بنشره في الآفاق وإظهاره على الدين كله ، حتى يبلغَ ما بلغ الليلُ والنهار ، وحتى لا يبقى بيتُ مَدَر ولا وَبَر إلا أدخل الله فيه هذا النور .
    ومن هذه الحقيقة يأتي القَسَم النبوي بالإتمام اليقيني على الرغم من شدة الحال وغلبة مظاهر الضعف : « واللهِ [ أو والذي نفسي بيده ] لَيُتِمّن الله هذا الأمر ... » رواه البخاري .
    إن التأمل في الموقف الإلهي تجاه إراداتهم وغاياتهم المعلَنة والمخفيّة ؛ لَيستجيش قلوب الذين آمنوا ، ويقوّي في نفوسهم الثقة بوعد الله ، ويؤصل في شخصياتهم الاعتزاز بالانتساب للإسلام والاستعلاء بالتمسك به ، فيدفعهم ذلك إلى المضي في الطريق ، والصبر على المشقة والكيد المتتابع ضد دين الحق .
    لقد اجتمعت بمعاني تلك الآيتين الصورُ التكاملية التي تُظهِر بتفنّنٍ حالَ دين الحق ، وإرادات أعدائه وغاياتهم ضدّه ، والموقف الرباني الذي يختم فيه المؤمن قراءته المتدبِّرة لهاتين الآيتين .
    لكنّ البيان لم يقف عند هذا الحد ؛ إذ يتأكد المعنى من خلال الكلمة الختامية الواردة بعد الآيتين في السورتين بلفظ واحد :
    { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ } (التوبة : 33) ؛ فهو - سبحانه - قد أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - حاملاً لمنهج النور والهدى ودين الحق ، ليظهر رسالته على جميع الرسالات ، ولم يرسله لتنتصر على رسالته إرادات النافخين .
    الوقفة الخامسة : أين مكاني ؟وفي ختام هذه الوقفات يأتي السؤال الذي يحسن أن يوجِّهه كل واحد منّا إلى نفسه وهو يرى السعيَ المتتابع اليوم لإطفاء نور الله : أين أجد نفسي من بين هاتين المجموعتين : هل أنا ممن استحوذ عليهم اليأس من واقع نور الله اليوم ، فتحطّمت على صخوره كل معاني التفاؤل ومبشّرات الأمل ، فوجد نفسه واقفاً في مدرجات المتفرّجين على هشاشة محاولات الإطفاء وقوة مواقف الإباء ؟ أم أنا من تلك الفئة المباركة التي يستعملها الله - تعالى - لإتمام نوره وتحقيق موعوده ؟

    بديع صنع الله ، قال العلماء : « فأول الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به ، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى » [8] .
    فمن دعا إلى النظر والاستدلال ، كان على وَفْق القرآن ودين الأنبياء .
    سادساً : من عادة الله - تعالى - أن لا يُهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولاً في القرية الكبرى منها : قال - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } ( القصص : 59 ) .
    قال السعدي - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى - : { حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا } ( القصص : 59 ) أي : في القرية والمدينة التي إليها يرجعون، ونحوها يترددون، وكل ما حولها ينتجعها ، ولا تخفى عليه أخبارها [9] .
    وفائدة ذلك : أنه على الدعاة والعلماء والمصلحين أن يوجهوا جهودهم الدعوية إلى القرية الكبرى والتي تمثِّل مركز الإشعاع العلمي والروحي ، والتي هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها ؛ فلا تخفى دعوة العلماء والمصلحين فيها ، ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعداداً لإدراك الأمور على وجهها .
    وحكمة إرسال الرسول في أم القرى ؛ أي كبراها أو عاصمتها أن تكون مركزاً تُبلَّغ منه الرسالة إلى الأطراف ؛ فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد ؛ وقد أُرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أم القرى العربية .
    وتطبيقاً لذلك فإنه ينبغي : - استثمار مكانة مكة المكرمة ، استثماراً يعود على الأمة بالعزة والسؤدد والفهم الوسطي للإسلام ؛ لأنها مركز الإشعاع الروحي والفكري للأمة الإسلامية .
    - وكذلك استثمار الجامعات الكبرى مثل : جامعة الأزهر الشريف ، و جامعة أم القرى بمكة المكرمة ، و الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، و جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان ، والتي تجمع طلاباً من جميع أنحاء العالم ؛ لتكون مركزاً لتبليغ الرسالة المحمدية إلى كل العالم .
    سابعاً : عادة الله - تعالى - بالمؤمنين في أمره ونهيه ، مخالفة مشتهاهم : كما قال - تعالى - للمؤمنين في معرض اختلافهم في الغنائم :{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( الأنفال : 1 )، وقوله : { وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } ( الأنفال : 5 ) .
    ومن ذلك قوله - تعالى - : {
    قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ( النور : 30 ) .
    فإن غضهم من النظر عما لا يحلُّ النظر إليه ، وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين ؛ أطهر لهم عند الله وأفضل [10] .
    وكما قال - سبحانه - في فرض القتال :
    { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ( البقرة : 216 ) .
    « والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهوِّن من أمرها ، ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها ؛ فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يُحرِّم عليها المشاعر الفطري التي ليس إلى إنكارها من سبيل ، ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نوراً جديداً ؛ إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ، ولكن وراءه حكمة تُهوِّن مشقته ، وتُسيغ مرارته ، وتُحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير ، عندئذٍ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ، ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها .
    نافذة تهبُّ منها ريح رخيَّة ؛ عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور ، من يدري ؟ فلعل وراء المكروه خيراً ، ووراء المحبوب شراً .
    إن العليم بالغايات البعيدة ، المطَّلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده ؛ حيث لا يعلم الناس شيئاً من الحقيقة [11] .
    فوائد ذلك تربوياً ودعوياً :
    - أن يتولى الدعاة توضيح ما في أحكام الله من خير للنفس البشرية ، وإن بدا في الظاهر أنها شر .
    - أن يفطن المربون والدعاة إلى ما يشتهيه المدعوون ، ومحاولة اتباع المنهج القرآني في مخالفة ما تشتهيه النفس البشرية ؛ حتى لا تصبح النفوس أسيرة لشهواتها ؛ فيصعب عليها القيام بواجب الاستخلاف والعمارة في الأرض ، وهذا ما أشار إليه عمر بن الخطاب ؛ فعن جابر بن عبد الله ، قال : رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر ؟ قلت : اشتهيت لحماً فاشتريته ، فقال عمر : أوَكلما اشتهيت شيئاً - يا جابر ! - اشتريت ؟ أما تخاف هذه الآية :
    { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } ( الأحقاف : 20 ) [12] .
    وفي الختام : كانت هذه جولة مختصَرة على ما أردنا الإشارة إليه .
    نسأل الله الهداية والسداد ، وتفهُّم القرآن ، والعمل بما فيه في جميع مناحي الحياة . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


    (1) مختار الصحاح : ص 220 .
    (2) تاج العروس : 1/2150 .
    (3) سنن أبي داود ، في حسن العشرة (4156) .
    (4) شرح النووي على مسلم : 5/ 72 .
    (5) سورة النساء : آية (43) والمائدة : آية (6) .
    (6) سنن أبي داود ، ما جاء في إسبال الإزار : (3566) .
    (7) تفسير الطبري : 17/ 120 .
    (8) تفسير القرطبي : 7/ 331 .
    (9) السعدي : ص620 .
    (10) تفسير الطبري : 19/ 154 .
    (11) في ظلال القرآن : 1/ 202 .
    (12) أخرجه : الحاكم في المستدرك : 2 / 455 .

    المصدر :
    مجلة البيان
    التعديل الأخير تم بواسطة مهاجر إلى الله ورسوله; الساعة 01-10-2015, 09:53 PM.


  • #2
    عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خيرًا وبارك فيكم
    ​​​​​​

    تعليق


    • #3
      المشاركة الأصلية بواسطة أم عمــر مشاهدة المشاركة
      عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      جزاكم الله خيرًا وبارك فيكم
      ​​​​​​
      وجزاكم بالمثل ،
      وفيكم بارك الله

      تعليق

      يعمل...
      X