في هذه القصة (طالوت وجالوت) يخبرنا الله عن مراحل استيقاظ أمة واستعادتها لكرامتها بعد طول رقدتها بدليل قول الملأ للنبي (ابعث لنا..) وكأنهم أصبحوا أمواتا.
أولاً: انتزاع الخوف من القلوب بتصحيح عقيدة الإحياء والإماتة
فقبل بداية القصة ذَكَر الله قصة أخرى فقال الله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُم....)
فأخبرنا عن أُناس فروا من الموت (جهاد أو مرض) فأماتهم الله ليعلموا أن الموت بيده وحده يُقدره كيفما شاء، ولا يُغني فرار من قدر، فلا يترك أحدٌ القتالَ في سبيل الله خشيةَ الموت.
هذه العقيدة (الإحياء والإماتة بيد الله) هي أولُ ما تحتاجه الأمةُ لتستيقظَ من سُباتِها وتتخلص من استبداد الطغاة.
ثانيا: اجتماع العقلاء والوُجَهاء:
أن يجتمع عقلاء الأمة على طلب واحد وهو التخلص من الذل والهوان ببذل الأموال والأبدان في سبيل رضا الرحمن
قال الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله....)
انظر كيق اجتمع (الملأ) على هذا الطلب.
ثالثا: تحويل الأمنية إلى واجب حتمي
قال الله (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ....) لاحظ كلمة (كُتِبَ)
فينتقلون من مرحلة الأماني إلى الأفعال ومن التشهّي إلى التنفيذ ومن ذم الواقع إلى تغيير الواقع، ومن الطبيعيّ أن يسقطَ أناسٌ كُثر في هذه النَقلة لأنهم لم يكونوا يدركون حجمَ التضحيات المطلوبة للخروج من الأزمة.
رابعا: القائد الربانّي:
فلابد أن يجتمعوا تحت راية واحدة وقائد واحد على معاييرَ شرعية يرضاها الله عز وجل لا على ما يوافق أهواءهم وزخارفهم وأمنياتهم، فلابدّ من التخلص من ((النزعة الفرديّة والصبغة الماديّة)) للحياة حتى تنهض الأمة وتواجه أعداءها
قال الله (إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ...)
خامسا: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فطاعة القائد مُقيّدة بطاعته للرسول:
إنّ تتبّعَ آثار الأنبياء القولية والفعلية والتمسك بها سببٌ رئيسي لاستجلاب النصر من الله
قال الله (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ...)
انظر إلى كلمة (تَرَكَ)في قوله تعالى(وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى ...) قيل: هي بقايا ألواح التوراة أو العصا أو غيرها وأيّا كان المقصود بالنسبة لهم فبالنسبة لنا ماذا ترك لنا النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد ترك لنا كتابَ الله وسنتَه لنتمسك بهما.
سادسًا: أنهار التمحيص التي تغسل ثوب الأمة من المنافقين:
لابد أن تمر الأمة في مراحل نهوضها بابتلاءات كثيرة تعترض طريقها لتتميز الصفوف وليمحّص الله الذين آمنوا ولِيَظهر للجميع أنّ منّا من يريد الدنيا ومنّا من يريد الآخرة
وهذه البتلاءات لا يُشترط أن تكون بالضراء فقط، بل قد تكون بالسراء والتنعم ورغد العيش.
وهذه البتلاءات الناعمة تُخدّر القوى وتُوهن العزائم وتقتل الحميّة ، فلابد من الاحتراز منها والاستعداد لها
قال الله (إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِه..)
سابعا: اختبار التوكل:
أيضا لابد أن تمر الأمة بنقصٍ في عدد مجاهديها ليظهرَ كمالُ توكلِها على ربِّها لا على أسبابها.
قال الله (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِين)
ثامنا: الجهاد:
فلابد من التخلص من رأس الأفعى وكسر شوكة العدو وألاّ نكتفيَ بالخطوة الأولى في النجاح حتى لايقوم العدوُّ مرةً أخرى
قال الله (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ..)
فلم يكتفوا بهزيمتهم ولكن استمروا حتى قتلوا جالوت، لذلك قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ..).
ختم الله القصة ببيان سنة التدافع التي وضعها الله بين خلقه وأنها لا تحدث إلاّ ببذلٍ وجهدٍ وتوفيقٍ وسداد.
اللهم استعملنا ولا تسبدلنا.
المصدر :
إنه القرآن
تعليق