لآلئ من قصص القرآن الكريم
القصة القرآنية ليست شيئا مستقلا في القرآن الكريم بل شأنها شأن أي موضوع آخر في هذا الكتاب السامي فهي أسلوب للهدايه والإرشاد وفيها شيء من التشريع والأحكام لصالح البشرية ليكون منهج حياة لهم.
ومن الامثله على ذلك نذكر قصة أهل الكهف من خلال آيات القرآن الكريم والتي عرضت بشكل موجز في بدايتها , إذ قال تعالى:" أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا(12)" _ "سورة الكهف ".
يتبيّن لنا من خلال ذلك أن في هذه القصة أسلوب تربوي ناجح يتمثل في عرض المجمل ( الملخص) أولا ثم بيان التفصيل المتعلق بالأحداث.
هي قصه تمثل عموما حال شباب في مقتبل العمر يقبلون على الله ,ويخشون على دينهم ويلجأون إلى الكهف لحماية أنفسهم ,ثم يحل بهم أمر الله إلى أن بعثهم من جديد ليعلموا أن وعد الله حق ,وان كلمة الله هي العليا .
وفيها هداية أيضا في كونها تبني منهج متكامل في حياة المسلم ونجمع جوانبه من خلال الآيات التي هذا الموجز عنهم ,إذ قال تعالى :" نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14) هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) "_(سورة الكهف ).
وهذا هو المشهد الأول الذي يفصّل لنا القرآن الكريم نبا أولئك الذين زادهم الله هدى وربط على قلوبهم إذ قاموا ثابتين على ما هم عليه من عقيدة يعلنون تبرؤهم من الشرك , وهذا أول جانب يهم المسلم في حياته , فالعقيدة هي اللبنة الاساسيه في بنائه , والعلم هو الضابط الحقيقي لها والمفاهيم العقلية ذات الجانب النظري لا بدّ إن تصل إلى اليقين , والجهاد هو أكثر ما يثبت المفاهيم العقلية فمن له تصور واضح يصل إلى اليقين بان الرازق والمحي المميت هو الله , وهو الجانب التطبيقي الفعلي للعقيدة , وهذا البيان ملخّص في قوله تعالى : " رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"(2) ثم يظهر أنهم يعجبون من قومهم الذين اتخذوا من دون الله آلهة بلا حجه ولا سلطان , ولهذا كان الوصف لمن جحد بوحدانية الله وربوبيته بأنهم اظلم الخلق .
ثم جاء قوله تعالى : " وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)_ ( سورة الكهف).وهنا يظهر حديثهم فيما بينهم وهو حديث يدل على عزم المؤمن الداعية فيما يصمم على ما توجبه عليه ظروف الدعوة , فهؤلاء القوم كانوا من المنعمين في قومهم ومع ذلك يصممون اعتزال المعرضين عن الحق منهم وعن معبوداتهم ليلجؤوا إلى الكهف حيث الخير والسلامة والطمأنينة الناتجة من نشر رحمة الله عليهم والتي وسعت كل شيء حتى يجد الله عز وجل لهم مرفقا , أي ييسر لهم طريق النجاة والأمان وهذا دلاله على الأثر العميق للإيمان في نفوسهم .
ثم تنتقل الآيات إلى مشهد آخر تفصل فيه أحوالهم وهم في الكهف وهنا نجد فجوه وهذا هو شان القران يطوي الكثير لإعمال الفكر ولإثارة الخيال فكأنهم بعد قولهم ذلك خرجوا إلى الكهف ولما جلسوا فيه أنامهم الله نوما عميقا وها هو القران الكريميصور لناهيئتهم التي كانوا عليها في الكهف ورحمة الله بهم إذ قال تعالى :" وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ۗ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا(18) _سورة الكهف.
وبهذا يكون الله قد حفظ أجسامهم من حرارة الشمس أولا وهي آية من آيات الله فقد هدى الله تعالى هؤلاء الفتيه مع صغر سنهم وقلة تجاربهم ثم كان أمر الله في حفظهم متمثلا بعملية التقليب لأجسادهم حتى لا تتأثر من هذا الرقود ولهذا كان الناظر إليهم يحسبهم أيقاظا ثم كان وصف للحيوان الذي تبعهم ورافقهم فكان الكلب جالسا على باب الكهف حاله كحالهم وفي هذا حكمة لحمايتهم فلا يجرؤ احد على الاقتراب منهم بل إن منظرهم يبعث الرعب في النفوس .
ثم يأتي مشهد آخر تحدثنا فيه الآيات عن استيقاظهم وما تبعه من فعل لهم , إذ قال تعالى : " وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) "
.فكان بعثهم لحكم كثيرة وكان منهم أولا أن تساءلوا عن مدى إقامتهم وكثرت الردود لكن إيمانهم هو الغالب فكان التسليم المطلق لله عزوجل بأنه الأعلم بهذا وان ما يهمهم الآن هو الطعام ليقيم أجسامهم فصحة الجسد أمر مهم ليستطيع الإنسان القيام بوظائفه على أكمل وجه والسعي لطلبه واجب فهم يعلمون أن ما باستطاعتهم جلبه من المدينة إلا بدفع ثمنه ولهذا قالوا : " فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا"وهذا جانبآخر مهم في حياة الإنسان وهو الجانب الاقتصادي اللازم لقوام حياة المسلم .
وهنا نتعلم درسا في الذوق واللياقة فكثير من الناس يظنون إن التدين فيه امتناع عن الطيبات التي أباحها الله فهم يحرمون أنفسهم أن تتلذذ بنعم الله سبحانه وهو تصور بعيد عن روح الإسلام وكان هذا ما فقهه الفتيه المؤمنون الذين زادهم الله هدى اضافه إلى ذلك عدم التزمت في التعامل فكان إذن ما فقهه الفتيه متمثل في اختيار الطيبات من الرزق والحكمة في المعاملة تم التحذير من أسلوب العنف والمبالغة في السرية فهم لا زالوا يظنون إن الحال في الخارج كما هو عليه عند إيوائهم إلى الكهف لجهلهم بمدى إقامتهم ولهذا يزيد بعضهم بعضا تحذيرا إذ قال تعالى :" إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) " فهؤلاء القوم إن وجدوكم فلن تفلحوا ولن تكون ما تحمد عاقبته فإما إن يقتلوكم وإما أن يعيدوكم في ملتهم وهذا هو شان الظالمين دائما ثم يأتي مشهد آخر يتمثل في قوله تعالى :" وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا(21) "ولكن هنا نجد فجوة أخرى تتمثل في خروج أحدهم ليحضر الطعام لكن النقد الذي معه يختلف عن النقد الذي كان متداولا بين الناس في ذلك الوقت ولله الحكمة العظيمة وهكذا يطلع الله الناس على أحوالهم فكان المشهد المذكور والذي يفهم منه أن القوم حينما وصلوا إلى الكهف .
توفى الله أهل الكهف وكان هذا البعث تأكيد على أن وعد الله حق فهو القادر على إحياء الموتى ليقوم الناس لرب العالمين حتّى تجزى كل نفس بما كسبت ووقع خلاف بين هؤلاء القوم لم تذكر الآيات تفصيلا عنه غير أنهم انتهوا إلى أمر بناء المسجد ثم يبين القرآن شأنا آخر من شؤونهم يتصل بعددهم قال تعالى :"سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا(22) ".
فهذا الكلام كان منهم بلا حجة ولا دليل والله أعلم بعدّتهم ولهذا كان الأمر بأن لا يجادل المرء في شأنهم ولا يستفت أحد من أهل الكتاب إذ ليس عندهم ما يطمئن إلى صدقه وما يركن إلى صحته وفي أثناء الحديث عن أهل الكهف يقول تعالى :" وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا(23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا(24) "وهو توجيه رباني يجب أن تلتزم به وهذا الذكر قد يكون خاصا إذا عزمت على شيء ولم تقل إن شاء الله فقلها حينما تتذكر وقد يكون عاما أي يجب أن تذكر ربك كل حين وان تقول عسى ربي أن يهديني في تبليغ رسالتي وإقامة الحجة على الناس وما يبعثهم على الاستجابة لأمور تكون اقرب وأكثر تأثيرا وأقوى حجة مما جاء عن أهل الكهف.
ويختم الحديث عن أهل الكهف بهذه الايه الكريمة إذ قال تعالى:" وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا(26 )"فالمدة عقب عليها القرآن وهذا من علم الله عز وجل فلا شيء في هذا الكون يغيب عنه سبحانه ولا تخفى عليه خافيه وهو الواحد الأحد الذي لا شريك له والمؤمن بالله تبارك وتعالى يؤمن بالغيب أيضا وفي هذا راحة للنفس الانسانيه إذ كثير مما حولها مبهم بالنسبة للإنسان إلا أن إيمانه بالغيب وانه أمر موكول لله عز وجل يبعث إلى نفسه الاستقرار والطمانينه .
تلكم هي قصة أهل الكهف من خلال كلام الله الذي لا تنقضي عجائبه إذ كان منها خير منهج لحياة الإنسان.
تعليق