اشتملت سورة الفاتحة على أهم مقاصد القرآن الكريم على وجه الإجمال، ثم فصل ما أجملته في القرآن كله؛ فقد اشتملت الفاتحة على التوحيد والعبادة وطلب الهداية، والثبات على الإيمان، وفيها أخبار وقصص الأمم السابقة، وفيها معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وقد نزل القرآن لبيان حقوق الخالق على خلقه، وحاجة الخلق إلى خالقهم، وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق .
" الاستعاذة : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) "
الشَّيْطَانَ" مشتق من (شَطَنَ) بمعنى (بَعُد) أي : أنه بعيد عن الخير وبعيد عن طباع البشر .و "الرَّجِيمِ" بمعنى المرجوم، أي : المطرود من رحمة الله تعالى، والمطرود عن الخير كله، و(الاستعاذة) طلب العوذ بمعنى اللجوء إلى الله تعالى، واللياذ بحماه من هذا الشيطان عن سليمان بن صرد قال : اسْتَبَّ رجلان عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فغَضِبَ أحدُهُمَا ، فاشتدَّ غضبُه حتى انْتَفَخَ وجهُه وتغيَّرَ ؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : إنِّي لأَعْلَمُ كلمةً لو قالها لَذَهَبَ عنه الذي يَجِدُ ، فانطلق إليه الرجلُ فأخبرَه بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال : تَعَوَّذْ باللهِ مِنَ الشيطانِ ..... ( صحيح البخاري) .
" البسملة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) "
حينما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان اللفظ الأول يتضمن الأمر بالبسملة "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"، وفيه الإشارة إلى بدء الأمور ذات الشأن باسم الله تعالى وحده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ البسملة في أول كل سورة، وفي ذلك إرشادٌ لنا أن نستفتح بالبسملة جميع شؤوننا، وكل أقوالنا وأفعالنا .
" الحمدلة (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) "
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الذكر : لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله» (أخرجه الترمذي والنسائي في «الكبرى» وابن ماجة وحسنه الألباني في صحيح «سنن ابن ماجة») .
حمد الله تعالى نوعان :
(أ) حمد مستحق واجب لذات الله سبحانه وتعالى؛ لأنه متصف بصفات الكمال، وهو المانع المعطي، وهو مصدر النعم، فهو أحق بالحمد من كل محمود .
(ب) وحمد على إحسانه تعالى إلى عباده، وتفضله عليهم بالنعم، وهو نوع من الشكر .
" صفة الرحمة ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) "
فبرحمته يهدي عباده إلى سبيل السعادة، وبرحمته يغفر للمسيئين، وبرحمته يُدخل المؤمنين الجنة، وبرحمته يجيب المضطر إذا دعاه، وقد كتب الله على نفسه الرحمة، ووصف نفسه بأنه أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وأنه سبحانه ذو رحمة واسعة، وأن رحمته وسعت كل شيء .
في رواية البخاري : «جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه»(«اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان» وهو في البخاري ومسلم ) .
" يوم الدين ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) "
وقد خُص يوم الدين بالملك حيث لا يدعي فيه أحد ملكًا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه "يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا" [النبأ: 38] وإلا فهو سبحانه رب العالمين، مالك للدين والدنيا؛ لأن من ملك الآخرة فهو مالك للدنيا من باب أولى، وهو سبحانه مالك الأزمنة والأمكنة جميعًا، وخص التنبيه على يوم الدين لما فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام، والناس في أيامنا لا يكادون يذكرون الحياة الآخرة، فقد طغت عليهم الحضارة المادية؛ فأنستهم لقاء الله .
" العبادة والاستعانة ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) "
العبادة في اللغة لها ثلاث معانٍ :
(أ) العبادة (ب) الطاعة والتسليم (ج) الخضوع والعبودية
وكلها مرادة من العبد، فهو يعبد الله تعالى ويطيعه ويخضع له، ويسلم وجهه إليه .
والعبادة شرعًا : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
قُدمت العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص، ولأن العبد يحتاج في جميع عبادته إلى الاستعانة بالله، فإن لم يُعنه الله لم يحصل له ما يريد من فعل الأوامر وترك النواهي .
والعبادة مطلوبة من العبد حتى يوافيه الأجل "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" [الحجر: 99] واليقين هو الموت، والعبادة أعلى مراتب الدين، وأرقى درجات الطاعة حين تكون على أكمل وجه وأحسن صورة، جاء في الحديث عن معنى الإحسان : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (البخاري ومسلم) ولابد فيها من الإخلاص الخالي من الرياء ومن الشرك، وأن تكون موافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم كي تكون سبيلًا إلى النجاة .
" طلب الهداية (اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) "
أنواع الهداية؛ الهداية نوعان :
النوع الأول : خلق الهداية وإيجادها في نفس العبد .
وهذه الهداية خاصة بالله تعالى لا يملكها غيره، وعلى هذا المعنى يُحمل مثل :
1- قول الله تعالى : "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [القصص: 56] .
2- وقوله سبحانه : "إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ" [النحل: 37] .
3- وقوله جل شأنه : "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ" [يونس: 99] .
والله تعالى لا يهدي من سبق في عمله أنه لا يهتدي من أهل الضلال والزيغ والظلم، كما قال تعالى : "وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ" [البقرة: 26] .
وكما قال سبحانه : "وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [الصف: 7] وقال أيضًا : "فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" [الصف: 5] ففسقهم وظلمهم وزيغهم وكرفهم هو السبب .
النوع الثاني : الهداية بمعنى الدعوة إلى الله تعالى، والدلالة على الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا النوع من الهداية، هو وظيفة الرسل والأنبياء والدعاة والمصلحين، وهي المرادة في قوله تعالى : "اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ".
وفي قوله تعالى : "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" [الشورى:
" أصناف الناس ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ) "
الناس في هذه الآية ثلاث طوائف :
1- المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو من غيرهم من الأمم السابقة في زمن رسلهم .
2- المغضوب عليهم؛ وهم اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة في زمن نبيهم، ولم يؤمنوا بعيسى ولا بمحمد عليهما السلام، وكذا كل من شاكلهم .
3- الضالون؛ وهم النصارى الذين لم يتمسكوا بتعاليم الإنجيل الصحيح في زمن نبيهم، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، وكذا كل من كان مثلهم .
وقد أرشدنا الله سبحانه إلى أن نسأله الهداية إلى طريق الصنف الأول: (الذين أنعم عليهم)، وأن نبرأ من الصنفين الآخرين، فكلاهما هالك .
التأمين (آمين) : وحين يفرغ المسلم من هذا الدعاء والثناء يشرع له أن يطبعه بالتأمين، كالخاتم عليه، موافقًا بذلك تأمين إمامه، وتأمين الملائكة الكرام؛ ليحظى بالقبول والإجابة، فاللهم استجب (آمين
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تلا : "غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" قال : آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول (أخرجه أبو داود بإسناد حسن، «جامع الأصول» وأخرجه أيضاً ابن ماجة)
- [*=center]ربيــــع القلــــــوب
الكلم الطيب
تعليق