الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم،
أما بعـــد..
فمـــاذا بعـــــــد؟!
ماذا بَعْدُ يا عباد الرحمن وقد رحل عنَّا شهر رمضان؟!
شهر نستعد له في كل عام، ونعد الأيام لدخوله، والآن ها هو قد حزم أمتعته ومضى مسرعًا ورحل عنَّا!
ياخير مَنْ نزلَ النُّفوس أراحِلٌ ..~.. بالأمسِ جئتَ؛ فكيفَ كيفَ سترحلُ
بكتِ القلوبُ على وداعك حُرقةً ..~.. كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ
من للقلوبِ يضمُّها في حُزنِها ..~.. من للنفوس لجرحها سيعلِّلُ
ما بال شهر الصومِ يمضي مسرعاً ..~.. وشهورُ باقي العام كم تتمهّلُ
عَشنا انتظارك في الشهورِ بلوعةٍ ..~.. فنزلتَ فينا زائرًا يتعجّلُ
ها قد رحلت أيا حبيبُ، وعمرنا ..~.. يمضي، ومن يدري؛ أَأَنتَ ستقبلُ
فعساكَ ربي قد قبلت صيامنا ..~.. وعساكَ كُلَّ قيامنا تتقبَّلُ
يا ليلة القدر المعظَّمِ أجرها ..~.. هل إسمنا في الفائزينَ مُسجّلُ
كم قائمٍ كم راكعٍ كم ساجدٍ ..~.. قد كانَ يدعو الله بل يتوسلُ
أعتقْ رقابًا قد أتتكَ يزيدُها ..~.. شوقًا إليكَ فؤادُها المتوكِّلُ
فاضت دموعُ العين مِن أحداقها ..~.. وجرت على كفِّ الدُّعاءِ تُبلِّلُ
يامن تحبُّ العفو جئتُكَ مذنبًا ..~.. هلَّا عفوتَ؛ فما سِواكَ سأسألُ
هلَّا غفرتَ ذنوبنا في سابقٍ ..~.. وجعلتنا في لاحقٍ لا نفعلُ
يا سعدنا إن كانَ ذاكَ مُحقّقاً ..~.. يا ويلنا إن لم نفُزْ أو نُغسَلُ
بكتِ المساجدُ تشتكي عُمَّارها ..~.. كم قَلَّ فيها قارئٌ ومُرتِّلُ
هذي صلاةُ الفجرِ تحزنُ حينما ..~.. لم يبقَ فيها الصفُّ إلَّا الأولُ
هذا قيامُ اللِّيلِ يشكو صَحْبَهُ ..~.. أضحى وحيدًا دونهم يتململُ
كم من فقيرٍ قد بكى متعففًا ..~.. مَنْ بعدَ شهر الخير عنهم يسألُ
يامن عبدتم ربكم في شهركم ..~.. حتى العبادةَ بالقَبولِ تُكَلَّلُ
لا تهجروا فعلَ العبادةِ بعدَه ..~.. فلعلَّ ربي ما عبدتم يقبلُ
يامن أتى رمضانُ فيكَ مطهِّرًا ..~.. للنَّفسِ حتى حالها يتبدَّلُ
يمحو الذُّنوبَ عن التقيِّ إذا دعا ..~.. ويزيدُ أجرَ المحسنينَ ويُجزِلُ
هل كنتَ تغفلُ عن عظيمِ مرادِه ..~.. أم مُعرضًا عن فضلِه تتغافلُ
إن كنتَ تغفلُ فانتبِهْ واظفرْ به ..~.. أمَّا التغافلُ شأنُ من لا يعقِلُ
فالله يُمهلُ إنْ أرادَ لحكمةٍ ..~.. لكنَّه، ياصاحبي، لا يُهمِلُ
إن كانَ هذا العامَ أعطى مهلةً ..~.. هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ
لا يستوي من كان يعملُ مخلصًا ..~.. هوَ والذي في شهره لا يعملُ
رمضانُ لا تمضي وفينا غافلٌ ..~.. ما كان يرجو الله أو يتذلَّلُ
حتى يعودَ لربه متضرِّعًا ..~.. فهو الرَّحيمُ المنعمُ المُتفضّلُ
وهو العفوُّ لمن سيأتي نادمًا ..~.. عن ذنبهِ في كلِّ عفوٍ يأملُ
رمضانُ لا أدري أعمري ينقضي ..~.. في قادم الأيامِ أم نتقابلُ!!
فالقلبُ غايةَ سعدِهِ سيعيشُها ..~.. والعين في لقياكَ سوف أُكحِّلُ *
والآن .. ماذا بَعْدُ يا عباد الرحمن، وقد رحل عنَّا شهر رمضان؟!
ماذا بعدُ أيها الهَاجِر طوال العام للقرآن، وماذا بعدَ تعاهُدك له في رمضان؟!
هل تتذكر أول يوم في رمضان؛ حينما سارعت بحثًا عن مصحفك، عاقدًا العزم والنية ومعاهدًا لربك على ختمه أكثر من مرة!!
هل تتذكر كيف أخذته وسارعت تَنْفِضُ من فوقه التراب؟!!
وأنت في الحقيقة تنفض عن نفسك غُبارَ الكسل فيما مضى لتبدأ في نشاط جديد، ينأى بك عن هجر القرآن الكريم!!
ثم، هل تتذكر أيها الهاجر للقرآن قول ربنا العزيز الرحمن:
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } الفرقان - الآية 30
نعم.. وبلا أدنى شك.. أنت تتذكر هذه الآية جيدًا،
وإلَّا؛ فلم حرصت طوال شهر رمضان على تعاهدك القرآن؟!، بالقراءة والا ستماع ليل نهار، وقيامك الليل به..
لِمَ خصَّصت لنفسك الوقت، و لِمَ فرَّغت نفسك تمامًا لكي تبلغ هدفك بختم القرآن في رمضان مرة أو أكثر؟!
فهل ستترك نفسك مرة أخرى لهواها، ومكائد شيطان أغواها؛ فتهجر القرآن، وأيام رمضان ستنساها؟!!
وهل ستُلقي بنفسك حقًا في هذا البئر المُظلِم مرة أخرى؟!!
لا أعتقد منك ذلك أبدًا، إن شاء الله، ولا أظنُّه فيك أيها الهاجر فيما مضى، والواصل فيما هو آت، بإذن الله الموفق عباده لكل خير.
فكُن واصلًا للقرآن متواصلًا على تعاهدك له، وتذكَّر ليل نهار قول العزيز الغفار:
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } البقرة - الآية 121
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } فاطر - الآية 29
{ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } الإسراء - الآية 9
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}
النمل: 91،92
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } القمر - الآيات 17 ، 22 ، 32 ، 40
{ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } المزمل - الآية 4
{ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } المزمل: من آية رقم 20
أيها الواصل للقرآن -فقط في شهر رمضان-؛ هل قرأت الآيات السابقة؟، و هل تدبرت في معانيها؟
هل عقدت العزم والنية، وشمَّرت سواعد عُلوَ الهِمَّة، واعتزمت بكل تصميم وعزيمة، وأصررت على عدم التقاعس والتراخي والتكاسل والتهاون
في تعاهدك للقرآن في سائر أشهر العام، وفيما تبقى من عمرك؟!
لا تسمح أبدًا للتراب أن يتراكم فوق مصحفك، وكن كما كنت في رمضان، فأزِل عن نفسك دائمًا غبار الكسل..
فمصحفٌ تجمَّع فوقه التراب في بيت؛ شاهدٌ على البيت بأنه خراب، وقلوب أصحابه خراب!!
فلنجدد معًا عهدنا مع الله تعالى، مخلصين له سبحانه، لنبدأ في طريقنا لبر الأمان مع القرآن،
بعيدًا عن هجر الهاجرين، وقريبًا من عباد الله الذاكرين والقانتين.
جعلني الله وإياكم منهم، بتوفيقه لنا وبرحمته التي وسعت كل شيء.
وها قد رحل عنا شهر رمضان وانقضى مسرعًا ، وتبقى ذكراه في قلوبنا، ولن نعتبرها ذكريات، بل سنجعلها دافعًا قويًا لنا لمواصلة الطريق مع الله؛
طريق الإستقامة، كما ندعوه ونرجوه في كل صلاة:
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
قال شيخنا ابن القيم رحمه الله: [كمال الإنسان بهمَّةِ ترقِّيه وعِلمٌ يُبصِّرهُ ويهديه]. [1]
فأي العلوم التي نتبصَّر بها لنهتدي بأمر الله؟.. إنَّه القرآن الكريم بلا أدنى شك،
وأي كمال نرجو بلوغه -بتوفيق الله لنا- في الدنيا والآخرة؟.. إنَّه كمال الإرتقاء في درجات الجنَّة،
الذي لا يتحقق إلا برحمة الله لنا؛ حينما يطَّلِع سبحانه على قلوبنا، فيجدها مملوءة بالرجاء فيه وبعلوٍ للهمَّة والأملِ في الارتقاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ : اقْرَأْ وَ ارْتَقِ وَ رَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا " [2]
فأي الطريقين نسعى لبلوغهما؟
طِيب العيش؛ مع القرآن وتدبر الآيات، والتلذذ بالطاعات والعبادات؛ في أيام معدودات، تدفعنا للمداومة علي تعاهده باقي الأشهر والسنوات،
وهذا طريق يؤدي بنا -برحمة الله تعالى- إلى الارتقاء والصعود لأعلى الدرجات..
أمْ وحْشَة العيش؛ بهجر القرآن والتقصير في العبادات؛ وطريق مثل هذا سيؤدي بنا إلى الهبوط والانحدار والإنحرافات،
وينأى بنا بعيدًا عن الرحمات، والدرجات العلا من الجنات!
وأي الطريقين منهما إذا سلكناه؛
سييرزقنا الله بقبول دعائنا المستديم:
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
فسبحان المجيب لســائلٍ يرجـو النجاة ، سبحان من يرزق سائلًا للهداية إذا دعاه
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبـِي وعَقيـدَتِي ... رُزِقَ الهُـدى مَنْ لِلـْهِـدايةِ يَسـْأَل
اسمَعْ كَـلامَ مُحَقـِّقٍ في قَـولـِه ... لا يَنْـثـَني عَـنـهُ ولا يَـتـَبَـدَّل
حُـبُّ الصـَّحابَةِ كُلُّهُمْ لي مَذْهَبٌ ... وَمَـوَدَّةُ الـقُـرْبى بِهـا أَتَـوَسّـل
وَلِكُـلِّهِمْ قَـدْرٌ وَفَضْلٌ سـاطِـعٌ ... لكِنـَّما الصِّـديـقُ مِنْهـُمْ أَفْضَـل
وأُقِـرُّ بِالقـُرآنِ مـا جاءَتْ بِـه ... آياتُـهُ فَـهُـوَ القـَديـمُ المُنْــزَلُ
وجمـيعُ آياتِ الصِّـفـاتِ أُمِرُّهـا ... حَقـاً كمـا نَـقَـلَ الطِّـرازُ الأَوَّلُ
وأَرُدُّ عُـقْبـَتَـهـا إلى نُقَّـالِهـا ... وأصـونُها عـن كُـلِّ ما يُتَخَـيَّـلُ
قُبْحـاً لِمَـنْ نَـبَذَ الكّـِتابَ وراءَهُ ... وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ: قـالَ الأخطَـلُ
والمؤمنـون يَـرَوْنَ حقـاً ربَّهُـمْ ... وإلى السَّمـاءِ بِغَـيْرِ كَيْـفٍ يَنْـزِلُ
وأُقـِرُ بالميـزانِ والحَـوضِ الـذي ... أَرجـو بأنـِّي مِنْـهُ رَيّـاً أَنـْهَـلُ
وكذا الصِّـراطُ يُمَدُّ فوقَ جَهَـنَّـمٍ ... فَمُوَحِّـدٌ نَـاجٍ، وآخَـرُ مُهْمَـلُ
والنَّـارُ يَصْـلاها الشَّقيُّ بِحِكْمَـه، ... وكـذا التَّـقِيُّ إلى الجِنَانِ سَيَدْخُـل
ولِكُـلِّ حـَيٍّ عـاقـلٍ في قـَبـرِهِ ... عَمـَلٌ يُقـارِنُـهُ هنـاك وَيُسْـأَلُ
هـذا اعتقـادُ الشافِـعيِّ، ومالـكِ، ... وأبي حنيفـةَ، ثم أحـمـدُ يَنْقِـلُ
فإِنِ اتَّـبَعْتَ سبيلَهُمْ فَـمُوَحِّـدٌ، ... وإنِ ابْـتـَدَعْتَ فَما علـيكَ مُعَـوَّل *
°•..•°•..•°•..•°♥°•..•°•..•°´°•..•°•..•°♥°•..•°•..•°•..•°
اللهم أصلح لنا نفوسنا، واجعل أعيننا لك دائما باكية، ومن خشيتك دامعة، واجعل ألسنتنا لك وبك ذاكرة، وعقولنا بك متنورة
وأفعالنا بطريقك وهديك وهدى نبيك مستنيرة نيّرة.
اللهم اجعلنا أقدر على اصلاح أنفسنا , فإن وفقتنا يارب فيها فأعنَّا بعدها على اصلاح غيرنا .
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول والذكر، ويقرأون العبر والعظات؛ فترِقَّ قلوبهم، وتتغيَّر أحوالهم وأنفسهم تغييرا يُرضِى ربَّنا،
ويعيننا على صلاح وإصلاح أمورنا فى معاشنا وحياتنا مع أنفسنا ومع غيرنا. [3]
* قصيدة في وداع رمضان للشاعر : مُؤَيَّد حجازي
* لامية شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله
[1] كتاب الفوائد
[2] رواه الإمام الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[3] دعاء منقول من مقال كتبه أ/نبيل جلهوم
تعليق