تحزيب القرآن وهدي السلف في ذلك(1)
أ. د. محمد بن عبدالله الدويش
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن القلوب تصدأ وتقسو ، والنفس تضعف ، وتهبط بها دواعي الشهوات وهواتف الدنيا ، والإنسان يعيش في هذه الدار في معركة مع النفس والهوى والشيطان . ولئن كان المقاتل يحتاج للسلاح المعنوي والمادي ؛ فالذي يخوض في معركة المصير أولى بأن يعتني بإصلاح نفسه .
والذي يحمل لواء الدعوة وراية الإصلاح أولى الناس بأن يهتم بنفسه وتربيتها ،وصلتها بالله-عز وجل- ، وأولاهم بأن يأخذ الزاد في سفره إلى الله والدار الآخرة .
وما تقرب إلى الله بأفضل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وحدوده ؛ فحريٌّ بنا أن نضرب من ذلك بسهم وافر ، ومن رحمة الله بعباده وفضله عليهم : أن شرع لهم ما يتعبدون به إليه سبحانه .
ولما كان تحزيب القرآن من السنن المهجورة -بل المجهولة -عند كثير من طلاب العلم فضلاً عن عامة الناس . في حين كان الأمر متواتراً ومعلوماً عند السلف ، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا . لذا رأيت أن أجمع بعض ما ورد في ذلك لعل الله -عز وجل- ينفع به .
تمهيد :
قال ابن فارس (2/55) : ( الحاء والزاي والباء أصل واحد وهو : تجمع الشيء ، فمن ذلك الحزب وهو الجماعة من الناس ، قال تعالى { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . والطائفة من كل شيء حزب . يقال : قرأ حزبه من القرآن ) وقال في ( النهاية ) (1/376) : ( الحزب ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرد ، والحزب النوبة في ورد الماء . ومنه حديث أوس ابن حذيفة : (سألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن ) .
ومعنى ذلك : أن يجعل الإنسان لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه ، بحيث يختم القرآن في كل شهر ، أو عشرين ، أو خمسة عشر ، أو عشر ، أو سبع ، أو غير ذلك .
1- وقد ورد في السنة النبوية استعمال ذلك المصطلح في قوله-صلى الله عليه وسلم- : « من نام عن حزبه » ، وقوله : « إنه طرأ على حزبي من القرآن » .
وقد بوب غير واحد من الأئمة بتحزيب القرآن . وقال عقبة بن عامر : (ما تركت حزب سورة من القرآن) . وقال نافع : (لا تقل : ما أحزبه) . وسوف يأتي تخريج هذه النصوص إن شاء الله- عز وجل- .
2- واستعمل عند السلف بلفظ الجزء ، فقد ورد في كلامه-صلى الله عليه وسلم- :« قرأت جزءاً من القرآن » . وقال عبد الله بن عمرو : (هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة) . وعن عائشة : (إني لأقرأ جزئي) . وعن ابن عباس وابن عمر : (أنهما كانا يقرآن أجزاءهما بعدما يخرجان من الخلاء) .
3- واستعمل بلفظ الوِرد ، فعن ابن عمر قال :(كنت في قضاء وِردي) ، وعن الحسن : (أنه كان يقرأ ورده من أوَّل الليل) .
المسألة الأولى : بعض فضائل تلاوة القرآن : إن النصوص الدالة على فضل القرآن أشهر من أن تورد ، إنما نورد هنا بعض فضائل تلاوته ؛ قال تعالى : { إنَّ الَذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } ، وقال -عز وجل- : { لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ *ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } .أما من السنة : فالأدلة على فضله كثيرة ، ومن فضائله :1- أن الماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يتتعتع فيه له أجران ؛ كما في حديث عائشة عند الشيخين والترمذي وأبي داود .
2- أنه يقال له يوم القيامة :(اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)؛ما أخرجه أحمد وأهل السنن إلا النسائي من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً .
3- أن له بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها كما أخرجه الترمذي والدارمي من حديث ابن مسعود .
4- أن الآية منه خير من الخلفة السمينة ، كما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة .
5- أن مثل المؤمن الذي يقرؤه مثل الأترجة ، كما رواه الستة إلا ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري .
6- أنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة ، كما رواه مسلم عن أبي أمامة .
7- تنزل السكينة لقراءته ، كما رواه الشيخان من حديث البراء .
8- أنه يقود قارئه يوم القيامة لتاج الكرامة ورضا الله-عز وجل- ، كما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة .
المسألة الثانية : مشروعية تحزيب القرآن :1- حديث عبد الله بن عمرو ، وهو حديث طويل مشهور ، رواه جمعٌ من الأئمة بينهم الأئمة الستة . ولفظه عند مسلم : (كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ؟ ) ، قال : فإما ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وإما أرسل لي ، فأتيته ، فقال : ( ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ ) فقلت : بلى يا نبي الله ؛ ولم أرد إلا الخير ، قال : ( فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم قال : ( واقرأ القرآن في كل شهر ) ، قال : قلت : يا نبي الله : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : ( فاقرأه في سبع ، ولا تزد على ذلك ، فإن لزوجك عليك حقاً ، ولزورك عليك حقاً ، ولجسدك عليك حقاً )،قال : فشددت ؛ فشدد علي ، قال :
وقال لي النبي-صلى الله عليه وسلم- : ( لعلك يطول بك العمر ) ، فصرتُ إلى الذي قال لي النبي-صلى الله عليه وسلم- ، فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة النبي-صلى الله عليه وسلم- .
2- حديث : « من نام عن حزبه » وقد أخرجه مسلم (747) ، وأبو داود (1313) ، والنسائي (1790) ، والترمذي (581) ، وابن ماجه (1343) ، ومالك في ( الموطأ ) (1/ 200) ، وأبو عبيد في ( فضائل القرآن ) (285) ، وعبد الرزاق في ( مصنفه ) (4747) ، وابن حبان في ( صحيحه ) كما في الإحسان (2634) .
ولفظه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن حزبه أو عن شيء منه ؛ فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر : \كتب له كأنما قرأه من الليل ) .
3- ما رواه أبو داود (1396) والمرزوي في ( قيام الليل ) كما في (المختصر) (157) عن ابن الهاد قال : ( سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي : في كم تقرأ القرآن ؟ ، فقلت : ما أحزبه ، قال لي نافع : لا تقل ( ما أحزبه ) ؛ فإن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال : ( قرأت جزءاً من القرآن ) ، وصححه الألباني في ( صحيح أبي داود ) .
4- حديث أوس بن حذيفة الثقفي ولفظه : (قدمنا على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في وفد ثقيف ، فنزَّلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بني مالك في قبة له ، فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء ؛ فيحدثنا قائماً على رجليه حتى يُراوح بين رجليه ، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ، ويقول : (ولا سواء ، كنا مستضعفين مستذلين ، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ، ندالّ عليهم ويدالُّون علينا) ، فلما كان - ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ، فقلت : يا رسول الله : لقد أبطأت علينا الليلة ؟ قال : ( إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت أن أخرج حتى أتمه ) ، قال أوس : فسألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل ) .
والحديث قال فيه أحمد شاكر فيما نقله في ( تهذيب السنن ) (2/113) عن ابن عبد البر : أن ابن معين قال : ( حديثه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- في تحزيب القرآن ليس بالقائم ) . وضعفه الألباني في دفاع عن الحديث ، كما في ( ضعيف ابن ماجه ) (283) . لكن حسنه الحافظ العراقي في ( تخريج الإحياء ) (1/276) والحافظ ابن حجر كما في ( الفتوحات ) لابن علان (3/229) . وأورده الحافظ ابن كثير في ( تفسيره ) محتجاً به على أن المفصل يبتدئ من سورة (ق) . واحتج به شيخ الإسلام ابن تيميه في حديثه عن التحزيب بالسور والأجزاء كما سيأتي .
وتد تواتر ذلك عن السلف -رضوان الله عليهم - ؛ فعندما تقرأ في ترجمة أحدهم تجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا ، وسيأتي بعض هذه الآثار .
المسألة الثالثة : هدي السلف في تحزيب القرآن :
أولاً : ذكر من روي عنه الختم في سبع : أخرج أبو عبيد في
( فضائل القرآن ) (291) بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( إني لأقرأ جزئي - أو قالت : سبعي - وأنا جالسة على فراشي أو على سريري ) .
وأخرج الطبراني كما في ( المجمع ) (2/269) وقال : رجاله ثقات ، عن الأحوص قال : قال عبدالله . ( لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث ، اقرأوه في سبع ،ويحافظ الرجل على حزبه ) . وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (502/2) دون قوله : ( وليحافظ ) .. وأخرج أبو عبيد في
( فضائل القرآن ) (263) ، والبيهقي في ( السنن ) (2/ 296) عن ابن مسعود -رضي الله عنه- : ( أنه كان يختم في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة ) .
وقال الحافظ : أخرج ابن أبي داود : عن عثمان وابن مسعود وتميم الداري : ( أنهم كانوا يختمون في سبع ) بأسانيد صحيحة .
وأخرج أبو عبيد (266) عن إبراهيم : ( أنه كان يقرأ القرآن في كل سبع ) ،وكذا رواه ابن أبي شيبة (2/501) .
وأخرج ابن أبي شيبة (2/501) ، والفريابي (138) : عن هشام بن عروة قال : ( كان عروة يقرأ القرآن في كل سبع ) .
وأخرج أيضاً (2/501) عن أبي مجلز : ( أنه كان يؤم الحي في رمضان ، وكان يختم في سبع ) .
وأخرج ابن أبي شيبة بإسناده (2/501) : عن إبراهيم قال : ( كان عبد الرحمن بن يزيد يقرأ القرآن في كل سبع ، وكان علقمة والأسود يقرؤه أحدهما في خمس والآخر في ست ، وكان إبراهيم يقرأه في سبع ) .
وقال ابن قدامة في ( المغني ) (2/611) :( قال عبد الله بن أحمد كان أبي يختم القرآن في النهار في كل سبعة ، يقرأ كل يوم سبعاً ،لا يكاد يتركه نظراً ،وقال حنبل : كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة ) .
وقال إسحاق بن هانىء في ( مسائله ) (506) : ( وسئل : في كم يقرأ القرآن ؟ قال : أقل ما يقرأ في سبع ) .ثانياً : ذكر من روي عنه الختم من الثلاث إلى السبع : سبق عن علقمة والأسود :( أنهما يقرآن في خمس وست ) .
قال ابن علان (3/230) : ( قال الحافظ : أخرج ابن أبي داود من طريق مغيث بن سمي قال : كان أبو الدرداء يقرأ القرآن في كل أربع . ومن طريق بلال ابن يحيى : لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة ، فإذا أصبحت قال بعضهم : لقد خففتَ بنا الليلة ) .
ثالثاً : ذكر من روي عنه الختم في أقل من ثلاث : وذكر ابن علان (231/2) : عن ابن أبي داود أنه روى عن الأسود بن يزيد : ( أنه كان يختم القرآن في رمضان كل ليلتين ) وقال : سنده صحيح ، وأخرج الحافظ من طريق الدارمي عن سعيد بن جبير : ( أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين ) قال : وأخرجه ابن أبي داود ، قال : وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يفعل ذلك . ومن طريق واصل بن سليمان قال : ( صحبت عطاء بن السائب فكان يختم القرآن في كل ليلتين ) .
المصدر :
مجلة البيان
*يتبع*
أ. د. محمد بن عبدالله الدويش
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن القلوب تصدأ وتقسو ، والنفس تضعف ، وتهبط بها دواعي الشهوات وهواتف الدنيا ، والإنسان يعيش في هذه الدار في معركة مع النفس والهوى والشيطان . ولئن كان المقاتل يحتاج للسلاح المعنوي والمادي ؛ فالذي يخوض في معركة المصير أولى بأن يعتني بإصلاح نفسه .
والذي يحمل لواء الدعوة وراية الإصلاح أولى الناس بأن يهتم بنفسه وتربيتها ،وصلتها بالله-عز وجل- ، وأولاهم بأن يأخذ الزاد في سفره إلى الله والدار الآخرة .
وما تقرب إلى الله بأفضل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وحدوده ؛ فحريٌّ بنا أن نضرب من ذلك بسهم وافر ، ومن رحمة الله بعباده وفضله عليهم : أن شرع لهم ما يتعبدون به إليه سبحانه .
ولما كان تحزيب القرآن من السنن المهجورة -بل المجهولة -عند كثير من طلاب العلم فضلاً عن عامة الناس . في حين كان الأمر متواتراً ومعلوماً عند السلف ، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا . لذا رأيت أن أجمع بعض ما ورد في ذلك لعل الله -عز وجل- ينفع به .
تمهيد :
قال ابن فارس (2/55) : ( الحاء والزاي والباء أصل واحد وهو : تجمع الشيء ، فمن ذلك الحزب وهو الجماعة من الناس ، قال تعالى { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . والطائفة من كل شيء حزب . يقال : قرأ حزبه من القرآن ) وقال في ( النهاية ) (1/376) : ( الحزب ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرد ، والحزب النوبة في ورد الماء . ومنه حديث أوس ابن حذيفة : (سألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن ) .
ومعنى ذلك : أن يجعل الإنسان لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه ، بحيث يختم القرآن في كل شهر ، أو عشرين ، أو خمسة عشر ، أو عشر ، أو سبع ، أو غير ذلك .
1- وقد ورد في السنة النبوية استعمال ذلك المصطلح في قوله-صلى الله عليه وسلم- : « من نام عن حزبه » ، وقوله : « إنه طرأ على حزبي من القرآن » .
وقد بوب غير واحد من الأئمة بتحزيب القرآن . وقال عقبة بن عامر : (ما تركت حزب سورة من القرآن) . وقال نافع : (لا تقل : ما أحزبه) . وسوف يأتي تخريج هذه النصوص إن شاء الله- عز وجل- .
2- واستعمل عند السلف بلفظ الجزء ، فقد ورد في كلامه-صلى الله عليه وسلم- :« قرأت جزءاً من القرآن » . وقال عبد الله بن عمرو : (هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة) . وعن عائشة : (إني لأقرأ جزئي) . وعن ابن عباس وابن عمر : (أنهما كانا يقرآن أجزاءهما بعدما يخرجان من الخلاء) .
3- واستعمل بلفظ الوِرد ، فعن ابن عمر قال :(كنت في قضاء وِردي) ، وعن الحسن : (أنه كان يقرأ ورده من أوَّل الليل) .
المسألة الأولى : بعض فضائل تلاوة القرآن : إن النصوص الدالة على فضل القرآن أشهر من أن تورد ، إنما نورد هنا بعض فضائل تلاوته ؛ قال تعالى : { إنَّ الَذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } ، وقال -عز وجل- : { لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ *ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } .أما من السنة : فالأدلة على فضله كثيرة ، ومن فضائله :1- أن الماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يتتعتع فيه له أجران ؛ كما في حديث عائشة عند الشيخين والترمذي وأبي داود .
2- أنه يقال له يوم القيامة :(اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)؛ما أخرجه أحمد وأهل السنن إلا النسائي من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً .
3- أن له بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها كما أخرجه الترمذي والدارمي من حديث ابن مسعود .
4- أن الآية منه خير من الخلفة السمينة ، كما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة .
5- أن مثل المؤمن الذي يقرؤه مثل الأترجة ، كما رواه الستة إلا ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري .
6- أنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة ، كما رواه مسلم عن أبي أمامة .
7- تنزل السكينة لقراءته ، كما رواه الشيخان من حديث البراء .
8- أنه يقود قارئه يوم القيامة لتاج الكرامة ورضا الله-عز وجل- ، كما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة .
المسألة الثانية : مشروعية تحزيب القرآن :1- حديث عبد الله بن عمرو ، وهو حديث طويل مشهور ، رواه جمعٌ من الأئمة بينهم الأئمة الستة . ولفظه عند مسلم : (كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ؟ ) ، قال : فإما ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وإما أرسل لي ، فأتيته ، فقال : ( ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ ) فقلت : بلى يا نبي الله ؛ ولم أرد إلا الخير ، قال : ( فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم قال : ( واقرأ القرآن في كل شهر ) ، قال : قلت : يا نبي الله : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : ( فاقرأه في سبع ، ولا تزد على ذلك ، فإن لزوجك عليك حقاً ، ولزورك عليك حقاً ، ولجسدك عليك حقاً )،قال : فشددت ؛ فشدد علي ، قال :
وقال لي النبي-صلى الله عليه وسلم- : ( لعلك يطول بك العمر ) ، فصرتُ إلى الذي قال لي النبي-صلى الله عليه وسلم- ، فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة النبي-صلى الله عليه وسلم- .
2- حديث : « من نام عن حزبه » وقد أخرجه مسلم (747) ، وأبو داود (1313) ، والنسائي (1790) ، والترمذي (581) ، وابن ماجه (1343) ، ومالك في ( الموطأ ) (1/ 200) ، وأبو عبيد في ( فضائل القرآن ) (285) ، وعبد الرزاق في ( مصنفه ) (4747) ، وابن حبان في ( صحيحه ) كما في الإحسان (2634) .
ولفظه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن حزبه أو عن شيء منه ؛ فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر : \كتب له كأنما قرأه من الليل ) .
3- ما رواه أبو داود (1396) والمرزوي في ( قيام الليل ) كما في (المختصر) (157) عن ابن الهاد قال : ( سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي : في كم تقرأ القرآن ؟ ، فقلت : ما أحزبه ، قال لي نافع : لا تقل ( ما أحزبه ) ؛ فإن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال : ( قرأت جزءاً من القرآن ) ، وصححه الألباني في ( صحيح أبي داود ) .
4- حديث أوس بن حذيفة الثقفي ولفظه : (قدمنا على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في وفد ثقيف ، فنزَّلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بني مالك في قبة له ، فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء ؛ فيحدثنا قائماً على رجليه حتى يُراوح بين رجليه ، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ، ويقول : (ولا سواء ، كنا مستضعفين مستذلين ، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ، ندالّ عليهم ويدالُّون علينا) ، فلما كان - ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ، فقلت : يا رسول الله : لقد أبطأت علينا الليلة ؟ قال : ( إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت أن أخرج حتى أتمه ) ، قال أوس : فسألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل ) .
والحديث قال فيه أحمد شاكر فيما نقله في ( تهذيب السنن ) (2/113) عن ابن عبد البر : أن ابن معين قال : ( حديثه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- في تحزيب القرآن ليس بالقائم ) . وضعفه الألباني في دفاع عن الحديث ، كما في ( ضعيف ابن ماجه ) (283) . لكن حسنه الحافظ العراقي في ( تخريج الإحياء ) (1/276) والحافظ ابن حجر كما في ( الفتوحات ) لابن علان (3/229) . وأورده الحافظ ابن كثير في ( تفسيره ) محتجاً به على أن المفصل يبتدئ من سورة (ق) . واحتج به شيخ الإسلام ابن تيميه في حديثه عن التحزيب بالسور والأجزاء كما سيأتي .
وتد تواتر ذلك عن السلف -رضوان الله عليهم - ؛ فعندما تقرأ في ترجمة أحدهم تجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا ، وسيأتي بعض هذه الآثار .
المسألة الثالثة : هدي السلف في تحزيب القرآن :
أولاً : ذكر من روي عنه الختم في سبع : أخرج أبو عبيد في
( فضائل القرآن ) (291) بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( إني لأقرأ جزئي - أو قالت : سبعي - وأنا جالسة على فراشي أو على سريري ) .
وأخرج الطبراني كما في ( المجمع ) (2/269) وقال : رجاله ثقات ، عن الأحوص قال : قال عبدالله . ( لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث ، اقرأوه في سبع ،ويحافظ الرجل على حزبه ) . وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (502/2) دون قوله : ( وليحافظ ) .. وأخرج أبو عبيد في
( فضائل القرآن ) (263) ، والبيهقي في ( السنن ) (2/ 296) عن ابن مسعود -رضي الله عنه- : ( أنه كان يختم في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة ) .
وقال الحافظ : أخرج ابن أبي داود : عن عثمان وابن مسعود وتميم الداري : ( أنهم كانوا يختمون في سبع ) بأسانيد صحيحة .
وأخرج أبو عبيد (266) عن إبراهيم : ( أنه كان يقرأ القرآن في كل سبع ) ،وكذا رواه ابن أبي شيبة (2/501) .
وأخرج ابن أبي شيبة (2/501) ، والفريابي (138) : عن هشام بن عروة قال : ( كان عروة يقرأ القرآن في كل سبع ) .
وأخرج أيضاً (2/501) عن أبي مجلز : ( أنه كان يؤم الحي في رمضان ، وكان يختم في سبع ) .
وأخرج ابن أبي شيبة بإسناده (2/501) : عن إبراهيم قال : ( كان عبد الرحمن بن يزيد يقرأ القرآن في كل سبع ، وكان علقمة والأسود يقرؤه أحدهما في خمس والآخر في ست ، وكان إبراهيم يقرأه في سبع ) .
وقال ابن قدامة في ( المغني ) (2/611) :( قال عبد الله بن أحمد كان أبي يختم القرآن في النهار في كل سبعة ، يقرأ كل يوم سبعاً ،لا يكاد يتركه نظراً ،وقال حنبل : كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة ) .
وقال إسحاق بن هانىء في ( مسائله ) (506) : ( وسئل : في كم يقرأ القرآن ؟ قال : أقل ما يقرأ في سبع ) .ثانياً : ذكر من روي عنه الختم من الثلاث إلى السبع : سبق عن علقمة والأسود :( أنهما يقرآن في خمس وست ) .
قال ابن علان (3/230) : ( قال الحافظ : أخرج ابن أبي داود من طريق مغيث بن سمي قال : كان أبو الدرداء يقرأ القرآن في كل أربع . ومن طريق بلال ابن يحيى : لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة ، فإذا أصبحت قال بعضهم : لقد خففتَ بنا الليلة ) .
ثالثاً : ذكر من روي عنه الختم في أقل من ثلاث : وذكر ابن علان (231/2) : عن ابن أبي داود أنه روى عن الأسود بن يزيد : ( أنه كان يختم القرآن في رمضان كل ليلتين ) وقال : سنده صحيح ، وأخرج الحافظ من طريق الدارمي عن سعيد بن جبير : ( أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين ) قال : وأخرجه ابن أبي داود ، قال : وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يفعل ذلك . ومن طريق واصل بن سليمان قال : ( صحبت عطاء بن السائب فكان يختم القرآن في كل ليلتين ) .
المصدر :
مجلة البيان
*يتبع*
تعليق