السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
بالقرآن نرتقي وعليه نلتقي :
سوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجليل في العناصر التالية :
أولاً : مصدرية القرآن دليل إعجازه .
ثانياً : القرآن والإيمان .
ثالثاً : القرآن في عصر العلم .
وأخيراً : لا ارتقاء ولا التقاء إلا بالقرآن .
أسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أولاً : مصدرية القرآن دليل إعجازه :
بمعنى : أن القرآن من عند الله وهذا يكفي ليعلم أهل الأرض أن القرآن كلام معجز ، وسيظل إعجاز القرآن باقياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فالقرآن الكريم هو النعمة الباقية ، والعصمة الواقية ، والحجة البالغة والدلالة الدامغة ، وهو حبل الله المتين ، وهو النور المبين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الحبل الممتد بين العباد وبين رب العالمين .
القرآن الكريم معجزة النبي الخالدة ، التي كانت ولا زالت وسوف لا تزال يتحدى الله عز وجل بها البشرية كلها على أن القرآن من عند الله جل وعلا ، فلقد تحدى الله به فرسان البلاغة وأساطين البيان ، وأرباب البلاغة والفصاحة في مكة ، تحداهم الله أن يأتوا بقرآن مثله ، فقال جل وعلا :
{ قُلْ } أي : قل يا محمد - {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : ٨٨ ] .
فعجزوا ، فخفف الله التحدي فطلب منهم بأن يأتو بعشر سور فقط كسور القرآن الكريم فقال جل وعلا : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : ١٣ ] .
فعجزوا ، فخفف الله التحدي فطلب منهم أن يأتوا بسورة واحدة من سور القرآن الكريم فقال جل وعلا : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. (٢٣ ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
[ البقرة : ٢٣ ، ٢٤ ] .
بل لقد ذهب في يوم من الأيام أبو الوليد عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه أموراً ، ودار بينهما حوار بليغ ، غاية في الأدب وفي قواعد الحوار حتى مع غير المسلم ، تعلموا أيها الأفاضل كيف يكون الحوار مع الآخر حتى ولو كان على غير الدين ؟
ذهب عتبة ابن الربيعة وقال لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت في العشيرة والمكانة في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، سفهت به أحلامهم ، وعبت به من مضى من آبائهم ، وفرقت به جماعتهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها - اسمعوا ماذا قال صاحب الخلق صلى الله عليه وسلم ؟ قال (( قل يا أبا الوليد ، أسمع )) اسمع يا أخي من الآخر : فإن رأيت وسمعت حقاً فاقبله ، وإن سمعت باطلاً فرد الباطل وبأدب صاحب الحق المصطفى قال : (( قل يا ابا الوليد أسمع )) وجلس النبي ليسمع عتبة بن الربيعة بإنصات وأدب جم فقال عتبة بن الربيعة : يا ابن أخي ، إن كنت تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد بهذا الأمر شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد بهذا الأمر ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان الذي يأتيك رئياً من الجن بذلنا لك أموالنا - أي : في الطب - حتى تبرأ .
فرد عليه بأدب وقال : (( أو قد فرغت يا أبا الوليد ؟ )) انتهيت من عرضك وكلامك لم يقاطعه الصطفى أبداً ، وإنما انتظر حتى سكن وسكت فقال : (( أوقد فرغت يا أبا الوليد ؟ )) قال : نعم . قال المصطفى : (( فاسمع مني )) قال : أسمع ، فوضع عتبة يديه خلف ظهره وأنصت بكل كيانه لا بأذنيه فحسب إلى نهر الرحمة وينبوع الحنان وصاحب الخلق ، والله ما زاد المصطفى على قراءة آيات كريمة من صدر سورة فصلت :
{ حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ٢ ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : ١-٥ ] ، واسترسل الحبيب في قراءة الآيات الكريمة حتى بلغ آية السجدة ، فسجد لله تبارك وتعالى ، ثم رفع رأسه ونظر إلى عتبة بن الربيعة وقال : (( يا أبا الوليد قد سمعت فانظر ما بدا لك )) .
فقام عتبة بن الربيعة والقوم ينتظرونه في بيت الله الحرام ، فلما أقبل عتبة ، نظر المشركون إليه وهتفوا على لسان وقلب رجل واحد وقالوا : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به إلى محمد . الوجه تغير ، حتى الوجه ؟! نعم ، نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي هب به إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ما وراءك يا أبا الوليد ؟
قال : يا قوم ، أطيعوني واجعلوها بي ، والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهنة ، والله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم ، فاتركوا الرجل وما هو فيه ، فإن تظهر عليه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به ، فقالوا جميعاً على لسان رجل واحد : سحرك والله محمد ( ١ ) .
(١) أخرجه ابن إسحاق في سيرة ابن هشام ( ١ / ١٧٥ ، ١٧٦ ) ، والبيهقي في دلائل النبوة ( ٢ / ٢٠٤ ، ٢٠٥ ) ، وابن كثير في البداية والنهاية ( ٣ / ٦٣ ، ٦٤ ) ، وفيه ابن اسحاق وقد صرح بالسماع .
لقد صدع جلال القرآن عماد الكبر في قلب عتبة ، أكررها لقد صدع جلال القرآن العماد في قلب عتبة ، بل لقد صدع جلال القرآن عماد الكبر في قلب المشركين .
والله لقد كانوا يخشون على أنفسهم من سماع القرآن الكريم ، وكانت وصية أحدهم للآخر { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون } [ فصلت : ٢٦ ] بل وفي وقت كانت فيه رحى الصراع على أشدها بين المصطفى والمشركين ، وتحدى اللعين فرعون هذه الأمة أبو جهل ، تحدى وأقسم باللات والعزى : لئن جاء محمد ليسجد لربه في بيت الله الحرام ، زعم هذا الوغد أنه سيطأ برجله على رأس وعنق المصطفى ، فقال والحديث في صحيح مسلم ( ٢ ) : أيعفر محمد وجهه بين أظهرنا ، واللات والعزى لئن جاء محمد لأطأن عنقه - أي بقدمه والعياذ بالله - فجاء الحبيب على مرأى ومسمع من هؤلاء الصناديد ، ووقف قائماً بين يدي العزيز الحميد ، وسجد ، وركع ، وقرأ على مرأى ومسمع من الكل ، لكن الحبيب افتتح الصلاة بآيات كريمة من سورة النجم وقرأ آيات جليلة تأخذ القلوب أخذا :
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى
(٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }
[ النجم : ١-٥ ] .
واسترسل النبي في القراءة حتى بلغ آخر السورة : { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [ النجم : ٥٩-٦٢ ] .
وخر النبي ساجداً لله جل وعلا فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه وخر المشركون كلهم سجدا لله خلف رسول الله ، فلما رفعوا رؤوسهم أنكروا فعلهم وصنيعهم ، ماذا صنعوا ؟ إن شئتم فقولوا صدع جلال القرآن عماد الكبر في قلوبهم فسجدوا ولم يتمالك أحد نفسه ، فلما رفع رأسه أنكر ما فعل وما صنع ، والحديث رواه البخاري - مختصراً من حديث ابن عباس .
(٢) أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم ( ٢٧٩٧ / ٣٨ ) ، وأحمد في المسند ( ٢ / ٣٧٠ ) . وفيه نزل قول الله تعالى : { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى } [ العلق : ٦ ]إلى آخر السورة .
قال ابن عباس : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون ، والمشركون ، والجن ، والإنس ( ٣ ) ، إنه القرآن : كتاب الله تبارك وتعالى مصدر الإيمان الأول ، وكتاب الإيمان الأول ، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز .
(٣) أخرجه البخاري في التفسير ( ٤٨٦٢ ) .
ثانياً : القرآن والإيمان :
أعجب غاية العجب لأخواننا وطلابنا حين يشرقون ويغربون ويبحثون عن الكتب ليؤصلوا قضية الإيمان ، أو قضية التوحيد بعيداً عن كتاب الإيمان الأول ألا وهو القرآن ، فالقرآن هو كتاب الإيمان الأول ، فإذا أرتم أن تجددوا إيمانكم ، أو أن تؤصلوا الإيمان ابتداءً فما عليكم إلا أن تولوا وجهكم إلى كتاب ربكم جل وعلا ، فإن القرآن كله من أوله إلى آخره في قضية الإيمان بالله جل وعلا ، فهو حديث مباشر عن الله سبحانه ، بأسمائه الحسنى ، بصفاته العلا ، أو حديث عن أهل الإيمان الذين حققوا الإيمان ، وعما أعد الله لهم في الآخرة من نعيم ، وإما حديث عن أهل الكفر الذين أعرضوا عن قضية الإيمان ، وإما حديث عن الدار التي أعدها الله للمؤمنين ، أو عن الدار التي أعدها الله للمشركين بأسلوب ينشؤه القرآن إنشاء ، ويبدعه القرآن إبداعاً ، إنه اسلوب فريد ؛ لأنه كلام العزيز الحميد ، فالقرآن يخاطب العالم ، يخاطب عالم الفضاء ، ورائد الفضاء وعالم الكيمياء ، وعالم الفيزياء ، وعالم الذرة ، ويخاطب الفلاح في حقله ؛ ويخاطب الطفل ، والشباب ، والمرأة ، والرجل ، والصغير ، والكبير ، يخاطب كل هؤلاء بأسلوب فريد ، تارة بالخبر ، وثانية بالحوار ، وثالثة بالقصص ، ورابعة بالمثل ، وخامسة بالمواعض ، وسادسة بالترغيب ، وسابعة بالترهيب ، إلى آخر هذه الأساليب المبدعة التي أبدعها وأنشأها القرآن إنشاءً . فالقرآن يستجيش العواطف ، ويحرك الوجدان ، ويخاطب الفطر السوية ، والقلوب التقية ، والعقول النقية لينطقها بوحدانية رب البرية ، الإيمان لا يمكن على الإطلاق أن يحقق إلا إذا نظرت في القرآن ، بعد النظر في كتاب الله المفتوح - أقصد : الكون الفسيح من العرش إلى الفرش ، ومن السماء إلى الأرض ، فإن نظرة في هذا الكتاب المفتوح تملأ القلب إيماناً بخالق الكون ، وإن نظرة في كتاب الله المقروء تملأ القلب إيماناً بمن أنزل القرآن الكريم .
ثالثاً : القرآن في عصر العلم :
أيها الأفاضل وأيتها الفاضلات ، لم يكتشف العلم الحديث إلا من سنوات قليلة أن القمر كان مضيئاً ثم انطفأ ومحي ضوؤه ، وأن هذا النور المنبعث من القمر انعكاس لكوكب آخر ألا وهو الشمس ، هذه الحقيقة العلمية ذكرها القرآن الكريم من أربعة عشر قرناً في آية كريمة ، قال جل وعلا :{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا } - يعني القمر -
{ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ } - يعني الشمس - { مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا }
[ الإسراء : ١٢ ] .
ولم يكتشف العلم الحديث أن الأعصاب التي تتأثر بالحرق والحر والبرد لا توجد إلا في الجلد فقط ، مع أن القرآن قد ذكر هذه الحقيقة العلمية الهائلة من أربعة عشر قرناً فقال جل وعلا { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا }
[ النساء : ٥٦ ] .
ولم يكتشف العلم الحديث إلا من سنوات قليلة أن سطح البحر أو سطح الماء بموجة المتحرك المتقلب هذا والمنكسر ينعكس عليه الضوء فيرد هذا الموج بسطحه المائل الضوء مرة أخرى ليخلف وراءه ظلمة حالكة مع أن القرآن قد ذكر هذه الحقيقة العلمية الهائلة من أربعة عشر قرناً في قوله تعالى :
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ النور : ٤٠ ] .
بل لم يكتشف العلم الحديث أن الجبال تمتد على سطح الأرض بسن مدبب كالوتد ، مع أن القرآن قد ذكر هذه الحقيقة العلمية في آيات كريمة في قوله جل وعلا : { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [ النبأ : ٧ ] .
أقسم بالله أن بين يدينا نعمة من أعظم النعم ، ومن أشرف النعم إن بين أيدينا مصدر عزنا ، وشرفنا ، وكرامتنا ، ومع ذلك فقد تخلت الأمة عن القرآن الكريم ، وتخلت الأمة عن السنة النبوية ، فتمزق شمل الأمة ، وتبعثر شأن الأمة ، بل ووقعت الأمة في ضنك وشقاء وذل وهوان ، وبين يديها مصدر عزها ، ومصدر شرفها وكرامتها ، بين يديها كتاب الله جل وعلا ، وبين يديها سنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، أرت أن أخلص إلى أن فئة خبيثة خطيرة خرجت علينا الآن في عصر الإنترنيت ، وفي عصر الفضائيات سمت نفسها : بالقرآنيين . وأود أن أبين للجميع أن هذه الفرقة ليست حديثة ، بل خرجت من سنوات قديمة فيما يسمى بإقليم البنجاب في بلاد باكستان أو بلاد الهند قبل التقسيم ، خرجت هذه الفرقة التي تسمي نفسها بالقرآنين ، ويزعمون أنهم لن يأخذوا إلا بما ثبت في القرآن الكريم فحسب - يعني : لن يأخذوا بالسنة المطهرة - وهؤلاء كذابون أفاكون ، فمن أخذ القرآن وضيع السنة فقد ضيع القرآن ؛ لأن القرآن لا يفارق السنة ؛ ولأن السنة لن تفارق القرآن ، قال من أنزل الله عليه الوحيين ، القرآن والسنة :
(( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض )) ( ٤ )
(٤) أخرجه الترمذي في المناقب ( ٣٧٨٨ ) وقال : ((حسن غريب)) وأحمد في المسند ( ٥ / ١٨٩ ، ١٩٠ ) .
قال الحافظ الكبير أبو زرعة - رحمه الله :
القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن .
وقال العلامة الشوكاني :
إن استقلال السنة بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام .
وقال العلامة ابن القيم :
والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن تكون السنة متضافرة مع القرآن في الباب الواحد ، وهذا من باب تضافر الأدلة في المسألة ، يأمر القرآن بالتوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج .
الوجه الثاني : أن تكون السنة موضحة لما أجمله القرآن ، فقد يأمر القرآن بالصلاة ، ويأتي صاحب السنة ليوضح لنا أمر القرآن فيقول :
(( صلوا كما رأيتموني أصلي )) (٥)
(٥) أخرجه البخاري في الأذان ( ٦٣١ ) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة ( ٦٧٤ / ٢٩٢ ) من حديث مالك بن الحويرث .
يأمر القرآن بالحج فيأتي صاحب السنة ليحج أمام المسلمين ويقول :
(( خذو عني مناسككم )) ( ٦ ) .
(٦) أخرجه مسلم في الحج ( ١٢٩٧ / ٣١٠ ) ، وأبو داود في المناسك ( ١٩٧٠ ) ، والنسائي في المناسك ( ٣٠٦٢ ) من حديث جابر بن عبد الله .
الوجه الثالث : أن تكون السنة موجبة لما سكت القرآن عن إيجابه ، أو محرمة ما سكت القرآن عن تحريمه ، وفي سنن الترمذي وأبي داود بسند صحيح من حديث المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن ، فما وجتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد )) .
وفي لفض (( فإن ما حرم الله كما حرم رسوله صلى الله عليه وسلم )) ( ٧ )
(٧) أخرجه أبو داود في السنة ( ٤٦٠٤ ) ، وأحمد في المسند ( ٤ / ١٣٠ ، ١٣١ ) ، والترمذي في العلم ( ٢٦٦٤ ) وقال (( حسن غريب من هذا الوجه )) .
إذ لا بد من القرآن والسنة ، فلن نفهم القرآن على مراد الله إلا من خلال سنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخيراً : لا ارتقاء ولا التقاء إلا بالقرآن :
لا ارتقاء إيمانياً في الدنيا ، ولا ارتقاء في درجات الجنة في الآخرة إلا بالقرآن ، فلقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده والترمذي وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( يقال لصاحب القرآن - أي : عند دخول الجنة ، أسأل الله أن يجعلنا من أهلها - اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها )) ( ٨ )
(٨) صحيح : أخرجه أبو داود في الصلاة ( ١٤٦٤ ) ، والترمذي في فضائل القرآن ( ٢٩١٤ ) ، وأحمد في المسند ( ٢ / ١٩٢ ) .
فلا ارتقاء في درجة الجنة إلا بالقرآن ، قال الخطابي وغيره : وقد يقرأ العبد القرآن ولا يرتقي به ، فليس قارئا له على مراد الله ورسوله ، وقد لا يحسن العبد أن يقرأ القرآن ويرتقي في درجة الجنة ؛ لأنه عمل بالقرآن .
فالقضية هي العمل ، فما أجمل أن تجمع بين القراءة والعمل ، روى مسلم في صحيحه من حديث النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به - فهؤلاء هم أهل القرآن - تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو غيابتان ، أو حزقان ، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة ))( ٩ )
(٩) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها ( ٨٠٥ / ٢٥٣ ) .
وفي سنن الترمذي وغيره بسند صحيح من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ( الم ) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف )) ( ١٠ )
(١٠) صحيح : أخرجه الترمذي في فضائل القرآن ( ٢٩١٠ ) وقال (( حسن صحيح غريب من هذا الوجه )) ، وابن أبي شيبة في المصنف ( ١٠ / ٤٦١ ) ، وانظر : الصحيحة ( ٦٦٠ ) .
والأحاديث في فضل القرآن العظيم كثيرة ، ومع ذلك فقد هجرت الأمة القرآن ، ومع ذلك فإننا نشهد الآن حملة ضارية على القرآن الكريم ؛ لأنهم يعلمون أن القرآن مصدر عز الأمة ، فإن نجحوا في تشكيك الأمة في القرآن ، وفي هز الأمة في هذا الكتاب العظيم نجحوا بعد ذلك في كل ما يريدون ، ولا والله لا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تشكك أهل الإيمان في القرآن : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : ٩ ] .
لن تلتقي الأمة إلا على القرآن ، فكما جمع الله القلوب المشتتة على القرآن ، فلن تجتمع القلوب المشتتة الآن إلا على القرآن ، فلترجع الأمة إلى القرآن الكريم لتحل حلاله ولتحرم حرامه ، ولتقف عند حدوده ، وهذه العودة إلى القرآن ليست نازلة ولا تطوعاً ولا اختياراً ، وإنما نحن أمام شرط الإيمان وحد الإسلام .
قال جل جلاله : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
[ النساء : ٦٥ ] .
وقال جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }
[ النساء : ٥٩ ]
قال ميمون بن مهران :
الرد إلى الله : هو الرجوع إلى القرآن الكريم ، والرد إلى الرسول : هو الرجوع إليه في حياته ، والرجوع إلى سنته بعد مماته .
لقد جمع الله قلوباً مشتتة على القرآن ، لقد ألف الله سبحانه بين قلوب مشتتة ، بين حمزة القرشي ، وسلمان الفارسي ، وصهيب الرومي ، ومعذ الأنصاري ، وأبي ذر الغفاري ، وبلال الحبشي ، وهتف الجميع على لسان وقلب رجل واحد :
أبي الإسلام لا أب لي سواه ، إذا افتخروا بقيس أو تميم
لن تلتقي الأمة الأمة إلا على القرآن ، ولن تلتقي الجماعات الإسلامية المتشرذمة المشتتة إلا على القرآن ، فلنلتقي على الأصول والثوابت والكليات ، أما مسائل الأحكام ، ولو اختلفنا فيها فلن ينبغي أن نشتت صفنا ، ولا ينبغي أن نبذر بذور الفرقة والنزاع بيننا .
قال ابن تيمية طيب الله ثراه :
الأختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط ، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء من مسائل الأحكام تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا إخوة .
فلا ارتقاء ولا التقاء إلا على كتاب الله ، وإلا بالقرآن الكريم ، فلنعد للقرآن مكانته ، بحفظه ، وقراءته ، والعمل به ، فلننور بيوتنا بآيات القرآن ، لا بتعليقها على الجدران ، وإنما لننير قلوبنا بالقرآن ، ولننير دروبنا وطرقنا بالقرآن الكريم ، بامتثال أوامره واجتناب نهيه ، والوقوف عند حدوده ، فلنعد للكتاتيب مكانتها ، ولنخرج من بيوتنا فليحرص كل مسلم أن يخرج من بيته حافظا للقرآن ، أو حافظة للقرآن ، ثم فلنكرم أهل القرآن ، ولنجل أهل القرآن ، ولنجل من يعلمون أولادنا القرآن ، فقد يتألم القلب حين نرى المسلم يجل أستاذة اللغات ، وأنا لا أقلل من شأن اللغات ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولكنكم ترون في الوقت ذاته امتهاناً وتحقيراً لأهل القرآن ، حتى في وسائل الأعلام في المسلسلات والأفلام ، ثم فلنعد للقرآن مكانته بين أبنائنا في المدارس ، وأن نجعل القرآن مادة رئيسية من مواد الرسوب والنجاح ، أما أن يمضي الطالب العام كله وهو لا ينظر في سورة من كتاب الله بدعوى أن القرآن ليس مادة أساسية من مواد الرسوب والنجاح فهذا خلل لا يليق بأمة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم وكتابها ودستورها القرآن .
أيها الأفاضل ، لا بد أن نصمد أمام هذه الهجمة الشرسة عبر الفضائيات وعبر وسائل الإعلام هنا وهناك ، وذلك بحفظ كتاب الله ، والثبات على كتاب الله ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه ، والوقوف عند حده ، والعودة إلى القرآن ، فلا سعادة لنا في الدنيا والآخرة إلا بالقرآن .
اللهم انفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل ، ولا تجعل حظنا من ديننا قولنا وأحسن نياتنا وأعمالنا يا أرحم الراحمين .
اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً ، اللهم ردنا إلى القرآن رداً جميلاً ، اللهم اجعلنا من أهل القرآن العاملين به .
المصدر : بالقرآن نرتقي وعليه نلتقي :
سوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجليل في العناصر التالية :
أولاً : مصدرية القرآن دليل إعجازه .
ثانياً : القرآن والإيمان .
ثالثاً : القرآن في عصر العلم .
وأخيراً : لا ارتقاء ولا التقاء إلا بالقرآن .
أسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أولاً : مصدرية القرآن دليل إعجازه :
بمعنى : أن القرآن من عند الله وهذا يكفي ليعلم أهل الأرض أن القرآن كلام معجز ، وسيظل إعجاز القرآن باقياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فالقرآن الكريم هو النعمة الباقية ، والعصمة الواقية ، والحجة البالغة والدلالة الدامغة ، وهو حبل الله المتين ، وهو النور المبين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الحبل الممتد بين العباد وبين رب العالمين .
القرآن الكريم معجزة النبي الخالدة ، التي كانت ولا زالت وسوف لا تزال يتحدى الله عز وجل بها البشرية كلها على أن القرآن من عند الله جل وعلا ، فلقد تحدى الله به فرسان البلاغة وأساطين البيان ، وأرباب البلاغة والفصاحة في مكة ، تحداهم الله أن يأتوا بقرآن مثله ، فقال جل وعلا :
{ قُلْ } أي : قل يا محمد - {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : ٨٨ ] .
فعجزوا ، فخفف الله التحدي فطلب منهم بأن يأتو بعشر سور فقط كسور القرآن الكريم فقال جل وعلا : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : ١٣ ] .
فعجزوا ، فخفف الله التحدي فطلب منهم أن يأتوا بسورة واحدة من سور القرآن الكريم فقال جل وعلا : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. (٢٣ ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
[ البقرة : ٢٣ ، ٢٤ ] .
بل لقد ذهب في يوم من الأيام أبو الوليد عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه أموراً ، ودار بينهما حوار بليغ ، غاية في الأدب وفي قواعد الحوار حتى مع غير المسلم ، تعلموا أيها الأفاضل كيف يكون الحوار مع الآخر حتى ولو كان على غير الدين ؟
ذهب عتبة ابن الربيعة وقال لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت في العشيرة والمكانة في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، سفهت به أحلامهم ، وعبت به من مضى من آبائهم ، وفرقت به جماعتهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها - اسمعوا ماذا قال صاحب الخلق صلى الله عليه وسلم ؟ قال (( قل يا أبا الوليد ، أسمع )) اسمع يا أخي من الآخر : فإن رأيت وسمعت حقاً فاقبله ، وإن سمعت باطلاً فرد الباطل وبأدب صاحب الحق المصطفى قال : (( قل يا ابا الوليد أسمع )) وجلس النبي ليسمع عتبة بن الربيعة بإنصات وأدب جم فقال عتبة بن الربيعة : يا ابن أخي ، إن كنت تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد بهذا الأمر شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد بهذا الأمر ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان الذي يأتيك رئياً من الجن بذلنا لك أموالنا - أي : في الطب - حتى تبرأ .
فرد عليه بأدب وقال : (( أو قد فرغت يا أبا الوليد ؟ )) انتهيت من عرضك وكلامك لم يقاطعه الصطفى أبداً ، وإنما انتظر حتى سكن وسكت فقال : (( أوقد فرغت يا أبا الوليد ؟ )) قال : نعم . قال المصطفى : (( فاسمع مني )) قال : أسمع ، فوضع عتبة يديه خلف ظهره وأنصت بكل كيانه لا بأذنيه فحسب إلى نهر الرحمة وينبوع الحنان وصاحب الخلق ، والله ما زاد المصطفى على قراءة آيات كريمة من صدر سورة فصلت :
{ حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ٢ ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : ١-٥ ] ، واسترسل الحبيب في قراءة الآيات الكريمة حتى بلغ آية السجدة ، فسجد لله تبارك وتعالى ، ثم رفع رأسه ونظر إلى عتبة بن الربيعة وقال : (( يا أبا الوليد قد سمعت فانظر ما بدا لك )) .
فقام عتبة بن الربيعة والقوم ينتظرونه في بيت الله الحرام ، فلما أقبل عتبة ، نظر المشركون إليه وهتفوا على لسان وقلب رجل واحد وقالوا : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به إلى محمد . الوجه تغير ، حتى الوجه ؟! نعم ، نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي هب به إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ما وراءك يا أبا الوليد ؟
قال : يا قوم ، أطيعوني واجعلوها بي ، والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهنة ، والله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم ، فاتركوا الرجل وما هو فيه ، فإن تظهر عليه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به ، فقالوا جميعاً على لسان رجل واحد : سحرك والله محمد ( ١ ) .
(١) أخرجه ابن إسحاق في سيرة ابن هشام ( ١ / ١٧٥ ، ١٧٦ ) ، والبيهقي في دلائل النبوة ( ٢ / ٢٠٤ ، ٢٠٥ ) ، وابن كثير في البداية والنهاية ( ٣ / ٦٣ ، ٦٤ ) ، وفيه ابن اسحاق وقد صرح بالسماع .
لقد صدع جلال القرآن عماد الكبر في قلب عتبة ، أكررها لقد صدع جلال القرآن العماد في قلب عتبة ، بل لقد صدع جلال القرآن عماد الكبر في قلب المشركين .
والله لقد كانوا يخشون على أنفسهم من سماع القرآن الكريم ، وكانت وصية أحدهم للآخر { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون } [ فصلت : ٢٦ ] بل وفي وقت كانت فيه رحى الصراع على أشدها بين المصطفى والمشركين ، وتحدى اللعين فرعون هذه الأمة أبو جهل ، تحدى وأقسم باللات والعزى : لئن جاء محمد ليسجد لربه في بيت الله الحرام ، زعم هذا الوغد أنه سيطأ برجله على رأس وعنق المصطفى ، فقال والحديث في صحيح مسلم ( ٢ ) : أيعفر محمد وجهه بين أظهرنا ، واللات والعزى لئن جاء محمد لأطأن عنقه - أي بقدمه والعياذ بالله - فجاء الحبيب على مرأى ومسمع من هؤلاء الصناديد ، ووقف قائماً بين يدي العزيز الحميد ، وسجد ، وركع ، وقرأ على مرأى ومسمع من الكل ، لكن الحبيب افتتح الصلاة بآيات كريمة من سورة النجم وقرأ آيات جليلة تأخذ القلوب أخذا :
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى
(٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }
[ النجم : ١-٥ ] .
واسترسل النبي في القراءة حتى بلغ آخر السورة : { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [ النجم : ٥٩-٦٢ ] .
وخر النبي ساجداً لله جل وعلا فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه وخر المشركون كلهم سجدا لله خلف رسول الله ، فلما رفعوا رؤوسهم أنكروا فعلهم وصنيعهم ، ماذا صنعوا ؟ إن شئتم فقولوا صدع جلال القرآن عماد الكبر في قلوبهم فسجدوا ولم يتمالك أحد نفسه ، فلما رفع رأسه أنكر ما فعل وما صنع ، والحديث رواه البخاري - مختصراً من حديث ابن عباس .
(٢) أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم ( ٢٧٩٧ / ٣٨ ) ، وأحمد في المسند ( ٢ / ٣٧٠ ) . وفيه نزل قول الله تعالى : { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى } [ العلق : ٦ ]إلى آخر السورة .
قال ابن عباس : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون ، والمشركون ، والجن ، والإنس ( ٣ ) ، إنه القرآن : كتاب الله تبارك وتعالى مصدر الإيمان الأول ، وكتاب الإيمان الأول ، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز .
(٣) أخرجه البخاري في التفسير ( ٤٨٦٢ ) .
ثانياً : القرآن والإيمان :
أعجب غاية العجب لأخواننا وطلابنا حين يشرقون ويغربون ويبحثون عن الكتب ليؤصلوا قضية الإيمان ، أو قضية التوحيد بعيداً عن كتاب الإيمان الأول ألا وهو القرآن ، فالقرآن هو كتاب الإيمان الأول ، فإذا أرتم أن تجددوا إيمانكم ، أو أن تؤصلوا الإيمان ابتداءً فما عليكم إلا أن تولوا وجهكم إلى كتاب ربكم جل وعلا ، فإن القرآن كله من أوله إلى آخره في قضية الإيمان بالله جل وعلا ، فهو حديث مباشر عن الله سبحانه ، بأسمائه الحسنى ، بصفاته العلا ، أو حديث عن أهل الإيمان الذين حققوا الإيمان ، وعما أعد الله لهم في الآخرة من نعيم ، وإما حديث عن أهل الكفر الذين أعرضوا عن قضية الإيمان ، وإما حديث عن الدار التي أعدها الله للمؤمنين ، أو عن الدار التي أعدها الله للمشركين بأسلوب ينشؤه القرآن إنشاء ، ويبدعه القرآن إبداعاً ، إنه اسلوب فريد ؛ لأنه كلام العزيز الحميد ، فالقرآن يخاطب العالم ، يخاطب عالم الفضاء ، ورائد الفضاء وعالم الكيمياء ، وعالم الفيزياء ، وعالم الذرة ، ويخاطب الفلاح في حقله ؛ ويخاطب الطفل ، والشباب ، والمرأة ، والرجل ، والصغير ، والكبير ، يخاطب كل هؤلاء بأسلوب فريد ، تارة بالخبر ، وثانية بالحوار ، وثالثة بالقصص ، ورابعة بالمثل ، وخامسة بالمواعض ، وسادسة بالترغيب ، وسابعة بالترهيب ، إلى آخر هذه الأساليب المبدعة التي أبدعها وأنشأها القرآن إنشاءً . فالقرآن يستجيش العواطف ، ويحرك الوجدان ، ويخاطب الفطر السوية ، والقلوب التقية ، والعقول النقية لينطقها بوحدانية رب البرية ، الإيمان لا يمكن على الإطلاق أن يحقق إلا إذا نظرت في القرآن ، بعد النظر في كتاب الله المفتوح - أقصد : الكون الفسيح من العرش إلى الفرش ، ومن السماء إلى الأرض ، فإن نظرة في هذا الكتاب المفتوح تملأ القلب إيماناً بخالق الكون ، وإن نظرة في كتاب الله المقروء تملأ القلب إيماناً بمن أنزل القرآن الكريم .
ثالثاً : القرآن في عصر العلم :
أيها الأفاضل وأيتها الفاضلات ، لم يكتشف العلم الحديث إلا من سنوات قليلة أن القمر كان مضيئاً ثم انطفأ ومحي ضوؤه ، وأن هذا النور المنبعث من القمر انعكاس لكوكب آخر ألا وهو الشمس ، هذه الحقيقة العلمية ذكرها القرآن الكريم من أربعة عشر قرناً في آية كريمة ، قال جل وعلا :{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا } - يعني القمر -
{ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ } - يعني الشمس - { مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا }
[ الإسراء : ١٢ ] .
ولم يكتشف العلم الحديث أن الأعصاب التي تتأثر بالحرق والحر والبرد لا توجد إلا في الجلد فقط ، مع أن القرآن قد ذكر هذه الحقيقة العلمية الهائلة من أربعة عشر قرناً فقال جل وعلا { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا }
[ النساء : ٥٦ ] .
ولم يكتشف العلم الحديث إلا من سنوات قليلة أن سطح البحر أو سطح الماء بموجة المتحرك المتقلب هذا والمنكسر ينعكس عليه الضوء فيرد هذا الموج بسطحه المائل الضوء مرة أخرى ليخلف وراءه ظلمة حالكة مع أن القرآن قد ذكر هذه الحقيقة العلمية الهائلة من أربعة عشر قرناً في قوله تعالى :
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ النور : ٤٠ ] .
بل لم يكتشف العلم الحديث أن الجبال تمتد على سطح الأرض بسن مدبب كالوتد ، مع أن القرآن قد ذكر هذه الحقيقة العلمية في آيات كريمة في قوله جل وعلا : { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [ النبأ : ٧ ] .
أقسم بالله أن بين يدينا نعمة من أعظم النعم ، ومن أشرف النعم إن بين أيدينا مصدر عزنا ، وشرفنا ، وكرامتنا ، ومع ذلك فقد تخلت الأمة عن القرآن الكريم ، وتخلت الأمة عن السنة النبوية ، فتمزق شمل الأمة ، وتبعثر شأن الأمة ، بل ووقعت الأمة في ضنك وشقاء وذل وهوان ، وبين يديها مصدر عزها ، ومصدر شرفها وكرامتها ، بين يديها كتاب الله جل وعلا ، وبين يديها سنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، أرت أن أخلص إلى أن فئة خبيثة خطيرة خرجت علينا الآن في عصر الإنترنيت ، وفي عصر الفضائيات سمت نفسها : بالقرآنيين . وأود أن أبين للجميع أن هذه الفرقة ليست حديثة ، بل خرجت من سنوات قديمة فيما يسمى بإقليم البنجاب في بلاد باكستان أو بلاد الهند قبل التقسيم ، خرجت هذه الفرقة التي تسمي نفسها بالقرآنين ، ويزعمون أنهم لن يأخذوا إلا بما ثبت في القرآن الكريم فحسب - يعني : لن يأخذوا بالسنة المطهرة - وهؤلاء كذابون أفاكون ، فمن أخذ القرآن وضيع السنة فقد ضيع القرآن ؛ لأن القرآن لا يفارق السنة ؛ ولأن السنة لن تفارق القرآن ، قال من أنزل الله عليه الوحيين ، القرآن والسنة :
(( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض )) ( ٤ )
(٤) أخرجه الترمذي في المناقب ( ٣٧٨٨ ) وقال : ((حسن غريب)) وأحمد في المسند ( ٥ / ١٨٩ ، ١٩٠ ) .
قال الحافظ الكبير أبو زرعة - رحمه الله :
القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن .
وقال العلامة الشوكاني :
إن استقلال السنة بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام .
وقال العلامة ابن القيم :
والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن تكون السنة متضافرة مع القرآن في الباب الواحد ، وهذا من باب تضافر الأدلة في المسألة ، يأمر القرآن بالتوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج .
الوجه الثاني : أن تكون السنة موضحة لما أجمله القرآن ، فقد يأمر القرآن بالصلاة ، ويأتي صاحب السنة ليوضح لنا أمر القرآن فيقول :
(( صلوا كما رأيتموني أصلي )) (٥)
(٥) أخرجه البخاري في الأذان ( ٦٣١ ) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة ( ٦٧٤ / ٢٩٢ ) من حديث مالك بن الحويرث .
يأمر القرآن بالحج فيأتي صاحب السنة ليحج أمام المسلمين ويقول :
(( خذو عني مناسككم )) ( ٦ ) .
(٦) أخرجه مسلم في الحج ( ١٢٩٧ / ٣١٠ ) ، وأبو داود في المناسك ( ١٩٧٠ ) ، والنسائي في المناسك ( ٣٠٦٢ ) من حديث جابر بن عبد الله .
الوجه الثالث : أن تكون السنة موجبة لما سكت القرآن عن إيجابه ، أو محرمة ما سكت القرآن عن تحريمه ، وفي سنن الترمذي وأبي داود بسند صحيح من حديث المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن ، فما وجتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد )) .
وفي لفض (( فإن ما حرم الله كما حرم رسوله صلى الله عليه وسلم )) ( ٧ )
(٧) أخرجه أبو داود في السنة ( ٤٦٠٤ ) ، وأحمد في المسند ( ٤ / ١٣٠ ، ١٣١ ) ، والترمذي في العلم ( ٢٦٦٤ ) وقال (( حسن غريب من هذا الوجه )) .
إذ لا بد من القرآن والسنة ، فلن نفهم القرآن على مراد الله إلا من خلال سنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخيراً : لا ارتقاء ولا التقاء إلا بالقرآن :
لا ارتقاء إيمانياً في الدنيا ، ولا ارتقاء في درجات الجنة في الآخرة إلا بالقرآن ، فلقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده والترمذي وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( يقال لصاحب القرآن - أي : عند دخول الجنة ، أسأل الله أن يجعلنا من أهلها - اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها )) ( ٨ )
(٨) صحيح : أخرجه أبو داود في الصلاة ( ١٤٦٤ ) ، والترمذي في فضائل القرآن ( ٢٩١٤ ) ، وأحمد في المسند ( ٢ / ١٩٢ ) .
فلا ارتقاء في درجة الجنة إلا بالقرآن ، قال الخطابي وغيره : وقد يقرأ العبد القرآن ولا يرتقي به ، فليس قارئا له على مراد الله ورسوله ، وقد لا يحسن العبد أن يقرأ القرآن ويرتقي في درجة الجنة ؛ لأنه عمل بالقرآن .
فالقضية هي العمل ، فما أجمل أن تجمع بين القراءة والعمل ، روى مسلم في صحيحه من حديث النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به - فهؤلاء هم أهل القرآن - تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو غيابتان ، أو حزقان ، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة ))( ٩ )
(٩) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها ( ٨٠٥ / ٢٥٣ ) .
وفي سنن الترمذي وغيره بسند صحيح من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ( الم ) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف )) ( ١٠ )
(١٠) صحيح : أخرجه الترمذي في فضائل القرآن ( ٢٩١٠ ) وقال (( حسن صحيح غريب من هذا الوجه )) ، وابن أبي شيبة في المصنف ( ١٠ / ٤٦١ ) ، وانظر : الصحيحة ( ٦٦٠ ) .
والأحاديث في فضل القرآن العظيم كثيرة ، ومع ذلك فقد هجرت الأمة القرآن ، ومع ذلك فإننا نشهد الآن حملة ضارية على القرآن الكريم ؛ لأنهم يعلمون أن القرآن مصدر عز الأمة ، فإن نجحوا في تشكيك الأمة في القرآن ، وفي هز الأمة في هذا الكتاب العظيم نجحوا بعد ذلك في كل ما يريدون ، ولا والله لا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تشكك أهل الإيمان في القرآن : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : ٩ ] .
لن تلتقي الأمة إلا على القرآن ، فكما جمع الله القلوب المشتتة على القرآن ، فلن تجتمع القلوب المشتتة الآن إلا على القرآن ، فلترجع الأمة إلى القرآن الكريم لتحل حلاله ولتحرم حرامه ، ولتقف عند حدوده ، وهذه العودة إلى القرآن ليست نازلة ولا تطوعاً ولا اختياراً ، وإنما نحن أمام شرط الإيمان وحد الإسلام .
قال جل جلاله : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
[ النساء : ٦٥ ] .
وقال جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }
[ النساء : ٥٩ ]
قال ميمون بن مهران :
الرد إلى الله : هو الرجوع إلى القرآن الكريم ، والرد إلى الرسول : هو الرجوع إليه في حياته ، والرجوع إلى سنته بعد مماته .
لقد جمع الله قلوباً مشتتة على القرآن ، لقد ألف الله سبحانه بين قلوب مشتتة ، بين حمزة القرشي ، وسلمان الفارسي ، وصهيب الرومي ، ومعذ الأنصاري ، وأبي ذر الغفاري ، وبلال الحبشي ، وهتف الجميع على لسان وقلب رجل واحد :
أبي الإسلام لا أب لي سواه ، إذا افتخروا بقيس أو تميم
لن تلتقي الأمة الأمة إلا على القرآن ، ولن تلتقي الجماعات الإسلامية المتشرذمة المشتتة إلا على القرآن ، فلنلتقي على الأصول والثوابت والكليات ، أما مسائل الأحكام ، ولو اختلفنا فيها فلن ينبغي أن نشتت صفنا ، ولا ينبغي أن نبذر بذور الفرقة والنزاع بيننا .
قال ابن تيمية طيب الله ثراه :
الأختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط ، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء من مسائل الأحكام تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا إخوة .
فلا ارتقاء ولا التقاء إلا على كتاب الله ، وإلا بالقرآن الكريم ، فلنعد للقرآن مكانته ، بحفظه ، وقراءته ، والعمل به ، فلننور بيوتنا بآيات القرآن ، لا بتعليقها على الجدران ، وإنما لننير قلوبنا بالقرآن ، ولننير دروبنا وطرقنا بالقرآن الكريم ، بامتثال أوامره واجتناب نهيه ، والوقوف عند حدوده ، فلنعد للكتاتيب مكانتها ، ولنخرج من بيوتنا فليحرص كل مسلم أن يخرج من بيته حافظا للقرآن ، أو حافظة للقرآن ، ثم فلنكرم أهل القرآن ، ولنجل أهل القرآن ، ولنجل من يعلمون أولادنا القرآن ، فقد يتألم القلب حين نرى المسلم يجل أستاذة اللغات ، وأنا لا أقلل من شأن اللغات ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولكنكم ترون في الوقت ذاته امتهاناً وتحقيراً لأهل القرآن ، حتى في وسائل الأعلام في المسلسلات والأفلام ، ثم فلنعد للقرآن مكانته بين أبنائنا في المدارس ، وأن نجعل القرآن مادة رئيسية من مواد الرسوب والنجاح ، أما أن يمضي الطالب العام كله وهو لا ينظر في سورة من كتاب الله بدعوى أن القرآن ليس مادة أساسية من مواد الرسوب والنجاح فهذا خلل لا يليق بأمة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم وكتابها ودستورها القرآن .
أيها الأفاضل ، لا بد أن نصمد أمام هذه الهجمة الشرسة عبر الفضائيات وعبر وسائل الإعلام هنا وهناك ، وذلك بحفظ كتاب الله ، والثبات على كتاب الله ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه ، والوقوف عند حده ، والعودة إلى القرآن ، فلا سعادة لنا في الدنيا والآخرة إلا بالقرآن .
اللهم انفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل ، ولا تجعل حظنا من ديننا قولنا وأحسن نياتنا وأعمالنا يا أرحم الراحمين .
اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً ، اللهم ردنا إلى القرآن رداً جميلاً ، اللهم اجعلنا من أهل القرآن العاملين به .
كتاب : الخطب المنبرية الجزء الحادي عشر .
فضيلة الشيخ : محمد حسان .
الناشر : مكبة فياض للتجارة والتوزيع .
حقوق الطبع محفوظة لعام : ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م .
نقلاً من موضوع : بالقرآن نرتقي وعليه نلتقي .
رقم الصفحة : ( ١٣٥ - ١٥٨ ) .
تعليق