إن المتتبع لطرائق القرآن في مخاطبة النفس البشرية، وكذلك طرائق الجدال مع المعاندين سيلاحظ أن تركيز الخطاب هو على استثارة الفطرة
وتذكيرها بخالقها لأنها مهيأة لذلك ومهيأة لأن تهتدي إلى أصول الإسلام، وكذلك يتوجه الخطاب إلى العقول التي لا يليق بها أن تكون بعيدة
عن البديهيات، ولا تكون بعيدة عما يؤكده القرآن من حقائق.
الفطرة السليمة لا تصاب بالدهشة عندما تسمع ما يريده القرآن وما يقرره من التوحيد ومن نشر الفضائل وتقبيح الرذائل،
وإدانة الفساد والظلم.
فقد زودت هذه الفطرة ببصيرة أخلاقية (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ )القيامة:14
هذه الفطرة السليمة والعقول المستعدة للتفكر هي قوى موجودة ولكنها بحاجة إلى الوحي كي يوجهها إلى الصواب دائما، وإلى الطريق الأعدل،
وكي يوقظها من سباتها ويحفزها للعمل، ولذلك يدعو المسلم في كل صلاة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )الفاتحة:6
ولكن إذا اختفت هذه القوى وهذه الأسس أو أصابها الغشاوة على أعينها، فإن القرآن لا يؤثر في أصحاب القلوب الغلف والآذان الصم، بل إن أصحاب هذه القلوب إذا سمعوا القرآن ازدادوا بعدًا وعنادًا فالبناء لا يعلو إذا لم توجد اللبنات المرصوصة،
وقد تفقد الأرض التي يشيد عليها البناء، فالقلوب أوعية متفاوتة جدًا، ورؤيتها للحقائق والاستفادة منها متفاوتة جدًا أيضًا.
الفطرة السليمة لا تشك في وجود الله سبحانه وتعالى ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (إبراهيم/10) والقرآن الكريم يحث الإنسان
ليستعمل عقله ويرى الأمور بشكلها الصحيح، ويفكر في الحقائق المعروضة ، قال تعالى مبينًا ضعف عقول المشركين
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ) (الفرقان/3)
وقال تعالى داعيًا الإنسان الى التفكر في هذه الظاهرة الواضحة التي لا مفر منها (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ) (يس/68) "
المصدر/ مقال بعنوان القرآن ومخاطبة النفس
البشرية للدكتور محمد العبدة
وهذا الخطاب الإلهي محيط بالنفس البشرية من أقطارها, خبير بأسرارها, لأنه يخاطب فيها الفطرة التي فطر الله الناس عليها,
لذلك تدرك القلوبُ معانيَ القرآن
ومراميه بالإيمان قبل أن تدركها العقول والأفهام. وآية ذلك أن الـمرأة التي لم تختلف إلى مدرسة, والرجل الذي لم يتردد على كُتاب,
يسمعان بعض الآيات القرآنية فيدركان توّاً أنها من الذكر الحكيم
ولا يشتبه عليهما القرآن بأي كلام آخر وإن كان أيضا بلسان عربي مبين, وربما يدركان بالفطرة السليمة من جلال المعاني وروعتها
ما لا يدركه بعض الدارسين,
فيقشعر منهما الجلد ويلين القلب, وتذرف العينان.
وهذا الخطاب الإلهي لا ينفذ إلى النفس ولا يستأثر بها في وقت دون آخر, أو في حالة دون غيرها, بل يتمّ له ذلك
في كل أحوالها ومتقلباتها: فإذا خاطبها في سياق الرحمة والمغفرة لانت
وانشرحت, وإذا حدثها عن النعيم الذي أعده الله للمتقين من عباده ابتهجت به, وطمعت فيه, واسترخصت ما دونه من نعيم الدنيا,
أما إذا خاطبها في سياق الوعيد
وحدثها عن عذاب السعير, ارتجفت منها القلوب, واقشعرت منها الجلود.
ولنضرب على ذلك مثلين, أولهما عن النعيم الذي ادّخره الله لعباده المتقين:
قال تعالى في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *
فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ *
فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} سورة الرحمن من الآية 45 إلى الآية 60. .ـ
فأيُّنا يقرأ هذه الآيات الكريمة أو ما يشبهها في القرآن الكريم دون أن تتوق نفسه إلى هذه النعم الربانية, والخيرات السَّـنية,
ودون أن يبتهل إلى الله تعالى بلسان الحال أو المقال أن يكون من الذين أنعم الله عليهم بها؟
ولنقرأ بعد هذا خطابَ القرآن للناس يحذرهم ينبّههم من الغفلة ويحذّرهم من عذاب الله إذا نزل بهم أو أتتهم الساعة وهم في غفلة عنها.
يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ
حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} سورة الحج الآية 2.
فهذا وصف مخيف لمجيء الساعة وما يحيق معها من ذعر وهلع, وما قرأ مؤمن هذه الآيات وما شابهها وتمعّن فيها بعض التمعّن,
وتدبرّها بعض التدبّر, إلا وجل قلبه, واضطربت جوانحه.
ومن هذين المثلين يتبيّن لنا بجلاء أن الخطاب القرآني يبلغ من النفس مبلغا عظيما سواء حدثها عن النعيم أو
عن الجحيم أو غيرهما.
وهذه القدرة الفريدة على التأثير في النفس في كل أحوالها ومتقلباتها إنما ينفرد بها القرآن الكريم دون غيره.نعم, لقد ظهر في تاريخ الأمم
والشعوب منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا شعراء وأدباء
ومفكرون, خلّدوا اسمهم وذكْرهم في قلوب الدارسين وفي ضمائرهم, ولنا من هؤلاء في الأدب العربي شعره ونثره النصيب الموفور,
ولكن كلامهم جميعهم
بات قابلا للأخذ والرد, والتمحيص والنقض, خاضعا للمعارضة قابلا للتحدي.
وأخرى يتميّز بها الخطاب القرآني وهي قدرته على التوجه بلهجة واحدة للغني والفقير, والكبير والصغير, والشريف والوضيع,
والعالم والأمي, والذكر والأنثى. وأنّى لخطاب بشري أن يتوجه لهؤلاء جميع بلهجة واحدة تملك عليهم مجامع قلوبهم؟
إنما ذلك لكتاب الله دون غيره. وصدق الله إذ قال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه}سورة الزمر الآية 23 . لذلك كان السلاح الكبر الذي اعتمد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشر
الإسلام هو القرآن الكريم.
وبعد كل هذا فإن تأثير القرآن يتجاوز حدود النفس البشرية إلى غيرها من المخلوقات الأخرى: فقد حدثنا القرآن نفسه أن الجن استمعوا
للرسول يتلو القرآن, فآمنوا بأنه كلام الله وبأن محمدا عبده ورسوله فصدقوه واتبعوا النور الذي أنزل معه,
ورجعوا إلى قومهم يبشرونهم بدين الله ويدعونهم للدخول فيه.
قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا
إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ
يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة الأحقاف الآيات28: 30
وقال تعالى:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا
أَحَدًا}سورة الجن الآيتان 1: 2
فقد افتتن الجن بالقرآن الكريم كما افتتن به البشر وأدركوا أنه معجزة ربانية لا تدرك ولا توصف, ولا تؤوَّل ولا تعلّل.
لذلك وصفوا القرآن بأنه "عجب" ( قُرْآنًا عَجَبًا). على أن الجن فسروا أحسن تفسير معنى "العجب" الوارد في سياق هذه الآية وهو أن هذا القرآن " يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ". وأي كتاب هدى الإنس والجن إلى الرشد وإلى صراط مستقيم إلا أن يكون من عند الله.
وما بالنا نتساءل عن تأثير القرآن الكريم في الجن وقد تأثر بالقرآن الكريم الصخورُ الصماء, والحجارة السوداء,
والجبال الشامخة. قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}سورة الحشر الآية 21. فالجبل كتلة عظيمة من الصخر وقد ضربت الأمثال عند الأمم والشعوب بقساوة الصخر وانعدام الإحساس, ومع ذلك لو أنزل الله عليه هذا القرآن لظهر عليه الخشوع, بل لتصدع من خشية الله.
وفي هذا المعنى نفسه يقول الله تعالى: " {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} سورة الرعد الآية 31. . ومعناه: أن هذا القرآن لو سيرت به الجبال لسارت, ولو قطعت به الأرض لتقطعت, أو كلم به الموتى لتكلموا. أو معناه: لو أن قرآنا سيرت به الجبال,
أو قطعت به الأرض, أو كلم به الموتى لكان هذا القرآنَ دون غيره.
المصدر/ مقال بعنوان: القرآن الكريم خطاب رباني للفطرة البشرية
للدكتور: محمد الديباجي، موقع رسالة الإسلام
تعليق