الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهرَه على الدِّين كله ولو كره المشركون،
والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمةً للعالمين نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمـَّـــــا بعــــــــد..
فإنَّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين أنَّه لم يجعل أمرَ الطَّريق الموصل إليه ملتبسًا عليهم؛ بل بيَّنَه سبحانه وتعالى أكملَ بيان وأوضحَه:
{لَقَدْ مَنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}
آل عمران: 164
وفرض اللهُ سبحانه وتعالى على كلِّ مسلم في كلِّ يوم وليلة أن يدعوه مرارًا ليهديَه الصِّراطَ المستقيمَ الذي وصفه بقوله:
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الفاتحة: 7،
وهـُـــــــــــم:
{الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} النساء: 69،
وأوَّلُ مَن يدخل في هذا بعد الأنبياء:
الصَّحابة ومَن تابَعَهم على فهْمِهِم للكتابِ والسُّنَّة.
ولذلك أمر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالتَّمَسُّك بمنهجهم والسَّير على طريقهم؛ فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال:
وَعَظَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً بعد صلاة الغداة موعظةً بليغةً ذَرَفَتْ منها العيون، ووَجِلَتْ منها القلوب، فقال رجل:
إنَّ هذه موعظةُ مودِّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال:
«أُوصيكُمْ بِتقْوَى اللهِ والسَّمعِ والطاعةِ؛ وإنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبَشِيٌ، فإنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنكمْ بَعدِي فسَيَرَى اخْتلافًا كثيرًا؛ فعليكُمْ بِسُنَّتِي وسنَّةِ الخُلفاءِ المهديِّينَ الرَّاشِدينَ، تَمسَّكُوا بِها، وعَضُّوا عليْها بالنَّواجِذِ ، وإيّاكُمْ ومُحدثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكلَّ بِدعةٍ ضلالَةٌ» [1]
ومن لطائف الفوائد في هذا الحديث: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعد أن ذكر سنَّتَه وسنةَ الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين قال:
«عَضُّوا عليْها بالنَّواجِذِ»، ولم يقل: «عضُّوا عليهما».
للدِّلالة على أنَّ سنَّتَه وسنَّةَ الخلفاء الرَّاشدين منهجٌ واحد وطريق واحد؛ فلا يكون الأخذُ بسنَّته على الوجه المطلوب إلَّا بالتَّمَسُّك بما جاء به من القرآن والسُّنَّة بفهم صحابته رضي الله عنهم.
فالقرآنُ الكريمُ والسُّنَّةُ الصَّحيحةُ هما المصدرُ الأساسُ للأحكام الشَّرعيَّة؛ فلا مصدرَ للأحكام الشَّرعيَّة ولا أساسَ لها إلا الوحي،
وهو نوعان: القرآن والسُّنَّة.
فأمَّا القرآنُ فهو: كلامُ الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، محفوظٌ من الخطأ والزَّلل والزِّيادة والنَّقص،
تنزيل من حكيم حميد، وهو حبلُ الله المتين وصراطُه المستقيم، أنزله على رسوله هدايةً للعالمين:
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} إبراهيم: 1.
وجعله حَكَمًا بين الناس:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} البقرة: 213،
{ أَفَغَيْرَ اللَّـهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } الأنعام: 114؛
أي: موضَّحًا فيه الحلال والحرام، والأحكام الشرعية، وأصول الدِّين وفروعه الذي لا بيان فوق بيانه، ولا برهان أجْلَى من برهانه،
ولا أحسن منه حَكمًا، ولا أقوَم قِيلاً. [2]
وأمَّا السُّنَّة فهي: قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ويشمل ذلك فعله وإقراره؛ فكلُّها وحيٌ يُلزم ويُتَّبع؛ قال تعالى:
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴿٤﴾} النجم؛
فهو صلَّى الله عليه وسلَّم راشدٌ غيرُ ضالّ، مُهتَدٍ غير غَاو، لا يقول إلا صِدقًا، ولا يَفعَل إلا حقًّا، ولا يُقرِّر إلا عدلاً.
وسنَّتُه هي الحكمةُ التي أنزلها الله عليه:
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ
وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} النساء: 113.
قال الشَّافعيُّ رحمه الله:
«فذكر الله الكتابَ وهو القرآن، وذكر الحكمةَ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ سنَّةُ رسول اللهصلَّى الله عليه وسلَّم».
وقد قام النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بدوره في تبليغ القرآن وبيانه على أحسن وجه؛
فــ القرآن الكريم كلامُه سبحانه وتعالى، و السُّنَّةُ النَّبويَّةُ بيانُه ووحيُه إلى رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم،
ولقد مضى عصرُ السَّلَف الصَّالح وهم لا يفرِّقون من حيث التَّطبيق والتَّنفيذ والسَّمع والطَّاعة بين حكم شرعيٍّ نزل به القرآن أو جاءت به سنَّةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مُلتَزمِين أمرَ الرَّبِّ جلَّ وعلا:
{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}الحشر: 7؛
مُجَانِبينَ نهيَه صلَّى الله عليه وسلَّم عن التَّفريق بين الكتاب والسُّنَّة في أصل الاحتجاج حين قال:
«ألا هل عسى رجل يَبْلُغُه الحديثُ عنِّي وهو متَّكئٌ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله؛ فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمْناه،
وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما حرَّم الله» [4]
وعلى هذا النَّهج سارت الأمَّةُ طيلةَ القرون الثَّلاثة الفاضلة، وهي تُقدِّم النَّصَّ بنوعَيهِ وتُقدِّسُه، وتعمل بهديه ولا تَعدِلُ عنه، وتُسلِّم له تسليمًا تامًّا.
والتسليم للنصوص الشرعية بالرضا والقبول من أصول الإسلام، وأساسيات هذا الدين التي لا يقوم ولا يتم إلا بها؛
فالإسلام هو الاستسلامُ لله والانقيادُ له ظاهرًا وباطنًا؛ وهو الخضوعُ له والعبوديَّةُ لَهُ.
فالتسليم هو:
خضوع القلب، وانقياده لما جاء عن الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، والاستسلام للنُّصوص من أجل مقامات الإيمان ...
وهو محض الصِّدِّيقيَّة التي هي بعدَ درجة النُّبُوَّة، وأكمل النَّاس تسليمًا أكملُهم صدِّيقيَّةً [5].
ولقد ضرب الصَّحابةُ رضي الله عنهم أروعَ الأمثلة في التَّسليم والإجلال للنُّصوص الشَّرعيَّة، وفي ذلك نماذج كثيرة تربو عن الحصر،
سنتعرض لبعض منها بإذن الله تعالى فيما هو آت...
فتابعونا بأمر الله تعالى..
_________
منقــــــول بتصرف *
_______________________________________
* مصدر النقل:
كتاب (بدعة إعادة فهم النَّصّ)، للشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله
----------------------------------------
[1] صححه الألباني في صحيح الجامع (4314).
[2] تفسير السعدي (270).
[3] الرسالة (78).
[4] رواه الترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وصححه الألباني (2657).
[5] مدارج السالكين (2/148).
تعليق