تبشير القرآن للمؤمنين بالنصر والتمكين
المصدر/ كتاب وعود القرآن بالتمكين للإسلام
للدكتور صلاح الخالدي
القرآن يبشّر المؤمنين الصالحين
يوقن المؤمن أن وعد الله منجَز متحقق، لأن الله لا يخلف الميعاد، ولذلك هو يصدق به، ويثق به ثقة مطلقة، ويتذكره دائماً وهو يواجه
الأعداء الكافرين، ويتحداهم ويتصدى لهم.
يتذكر وعد الله دائماً في هذه المواجهة، ليصبر على شدائدها، ويتحمل تكاليفها، وينتظر يوم النصر، ويوقن بتحققه ولو تأخر قليلاً.
يجب أن يستبشر المؤمن البشرى المطلقة، بأن المستقبل لدينه، والهزيمة لأعدائه، وهذه البشرى تملؤه أملاً، وتدفعه إلى مزيد من
الجهاد والعمل، وتقضي على وساوس الشيطان له، ومحاولاته إحباطه وتيئيسه، وإماتة الأمل والأماني المشرقة عنده!.
وفي القرآن آيات كثيرة تدعو إلى تبشير المؤمنين المجاهدين، المواجهين لأعداء الله، وتطلب منهم عدم اليأس والإحباط والقنوط، وتزيل وساوس
الشيطان في نفوسهم، وإبطاله لأمنياتهم!.
ولنقف مع بعض هذه الآيات، لنأخذ منها البشريات والآمال، نستعين بها على مشقات الطريق الطويل، ونعالج بها هواجس
اليأس والقنوط والإحباط!.
موسى يبشر أتباعه المؤمنين:
أولاً: قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 87].
تدل هذه الآية على أن التبشير بالفرج والنصر ليس خاصاً بهذه الأمة، إنما هو عام لكل مسلمين مواجهين لقوى الباطل،
وكان الرسل السابقون عليهم الصلاة والسلام يبشرون أتباعهم المؤمنين بالفرج والنصر.
ففي هذه الآية، يأمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوأا البيوت الخفية السرية لقومهما الإسرائيليين في مصر، التي كانوا يواجهون
فيها تعذيب فرعون وآله، وأن يجعلوا تلك البيوت قبلة لهم، يعبدون الله فيها، ويقيمون فيها الصلاة.
وأمر الله موسى عليه السلام أن يبشر أتباعه المؤمنين بقرب الخلاص والفَرَج. ونفذ موسى عليه السلام أمر الله، وبشرهم البشرى المشرقة،
وسط "تبرمهم" منه، واعتراضهم عليه، واستبعادهم الفرَج، وانزعاجهم من طول الطريق وشدته!.
وعلى هذا قوله تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ،
قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)
[الأعراف: 128-129].
موسى عليه السلام يطلب من الإسرائيليين المعذبين المضطهدين، أن يستعينوا بالله ويصبروا، ويبشرهم بأن الفرَج آت، فالأرض لله، يورثها
من يشاء من عباده، وينزعها ممن يشاء من عباده، ويهلك الكافرين الظالمين، ويجعل العاقبة لعباده المتقين.
لكن قومه كانوا غلاظاً قساة القلوب، فلم يقبلوا هذا التبشير، وإنما تبرموا به وبدعوته،
وقالوا له: لم نستفد منك شيئاً، فقد نالنا الأذى
والعذاب من فرعون قبل أن تأتينا، وها هو العذاب والأذى يُصَبّ علينا من بعد ما جئتنا، فماذا استفدنا منك؟ ولماذا لم توقف هذا الإيذاء عنا؟.
رد موسى عليه السلام على اعتراضهم وتبرّمهم، بتبشير صريح لهم، وقال: عسى الله أن يُهلك فرعون وجنوده، ويفرج عنكم ما أنتم فيه،
ويستخلفكم من بعدهم في الأرض.
وقد تحققت هذه البشرى بعد ذلك، عندما أنجى الله موسى عليه السلام ومن معه أجمعين، وأغرق فرعون وجنوده،
واستخلف بني إسرائيل، وأورثهم الأرض، قال تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137].
ثانياً: قوله تعالى: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيرًا) [الإسراء: 9].
القرآن كتاب تبشير، فهو يرشد المؤمنين للخير، ويهديهم للطريق الأقوم والأصلح، ويقدم لهم البشرى بالفلاح والنجاح والفوز، في الدنيا والآخرة.
وتكمن البشرى القرآنية في وعوده الصادقة المتحققة، التي يعد بها المؤمنين الصالحين، كما تكمن في ما يذكره القرآن من قصص السابقين،
ويركز على مواطن الصبر فيها، بإهلاك أهل الباطل، وانتصار أهل الحق.
واللطيف في التعبير القرآني، أن هذه الآية: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) جاءت بعد عدة آيات،
تحدثت عن إفسادين كبيرين لبني إسرائيل، مقرونين بعلو واستكبار، موجّهين ضد الأمة المسلمة، وذكرت كيفية القضاء على ذينك الإفسادَيْن وإزالتهما.
فمن المناسب أن يأتي الحديث عن تبشير القرآن للمؤمنين، بعد الحديث عن إزالة الإفسادين اليهوديين،
ليكون من مظاهر التبشير القرآني تقريره أن إزالة الإفسادين حقيقة قرآنية قاطعة، وبشرى قرآنية واقعة!.
واللطيف أيضاً: أن التعبير عن التبشير القرآني جاء بصيغة الفعل المضارع: (يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ)،
ذلك الفعل الدال على التجدد والاستمرار. وهذا معناه: أن البشرى القرآنية متجددة، فكلما قرأ المؤمن البصير المبتلى آيات
القرآن بوعي وتدبر وبصيرة، كلما تزود من تلك البشرى بالزاد العظيم الذي يعينه على الثبات والصبر.
الأمر بتبشير العباد الصالحين:
ثالثاً: قال تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر: 17-18].
يُثني الله في هاتين الآيتين على عباده الصالحين المتقين، الذين يستحقون البشرى المشرقة، فهم مؤمنون، اجتنبوا عبادة الطاغوت، وعبدوا الله وحده،
وأنابوا له وحده، واستمعوا كلامه، واتبعوه والتزموه، واهتدوا به، وبذلك كانوا من أولي الألباب الواعية، وأصحاب العقول الكبيرة.
هؤلاء لهم البشرى من الله، بأن يعيشوا في الدنيا حياة طيبة سعيدة، في ظلال ذكر الله وطاعته، وبأن يتنعموا في الآخرة بجنته.
هؤلاء العباد الربانيون مكرمون عند الله، ولذلك يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشرهم بالخير والفلاح، وذلك لتشرق أرواحهم،
وتستنير قلوبهم، وتنشط هممهم، وتقوى عزائمهم.
هؤلاء العباد الذين يبشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ينزل الله عليهم ملائكته عند احتضارهم لطمأنتهم
وتأمينهم وتبشيرهم، ليغادروا هذه الدنيا سعداء آمنين مطمئنين. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ
أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا
مَا تَدَّعُونَ، نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت: 30-32].
البشرى للأولياء في الدنيا والآخرة:
رابعاً: قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا
وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس: 62-64].
تقرر هذه الآيات حقيقة قاطعة، وهي تأمين وحفظ وحماية الله لأوليائه، المؤمنين المتقين، وبما أن الله يحفظهم ويحميهم، فإنهم يعيشون
حياتهم بدون خوف
من المستقبل، ولا حزن على الماضي.
وتقدم الآيات صفتين عظيمتين لهؤلاء الأولياء: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ): الإيمان العظيم الحي، المؤثر المحرك، الذي ينتج عنه العمل الصالح والاستقامة.
ثم التقوى العظيمة لله، التي تحول بين صاحبها وبين ارتكاب ما حرم الله، أو ترك ما أوجب الله، وتجعله يعيش معنى معية الله، ومراقبته له.
هؤلاء الأولياء يستحقون البشرى العامة، الشاملة المطلقة: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا).
وبشراهم في الدنيا تشمل كل مجالات حياتهم، فبما أنهم أولياء الله، مؤمنون متقون، فإن الله يوفقهم ليعيشوا الحياة الطيبة المباركة السعيدة،
عابدين ذاكرين مطيعين لله، ومعلوم أنه لا طعم ولا معنى للحياة، إن لم يعشها صاحبها في عبادة الله وطاعته.
وهم مفلحون في أعمالهم، ناجحون في أدائهم لها، فائزون في نهايتها، وسجل الله لهم أجرها وثوابها. وبشراهم في الآخرة تتحقق،
عندما يظلهم الله في ظله، وهم في ساحة الموقف، وعندما يتجاوز عن ذنوبهم، ويثقل موازينهم، ويعطيهم كتبهم بأيمانهم، ويدخلهم الجنة
برحمته وفضله، ويجعلهم منعّمين خالدين فيها أبداً. وأخبرت الآيات أنه لا تبديل لكلمات الله: (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ).
أي: لا تغيير للحقائق المذكورة في هذه الآيات، ولا تراجع عن البشرى للأولياء المبشّرين، وهذا هو الفوز العظيم،
الذي يمنّ الله به على أوليائه: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
يتبع بإذن الله
تعليق