رد: في نُصرة الله لنبيه يوسف بالتمكين .. دروس مستفادة وعِبرٌ للمؤمنين
المشهد الثالث:
..
مشهد السجن؛ يُسجن في ذاتِ الله، ويُمَحَّصُ ليخرج برضوان الله
مـَـنْ مِنّـا يُحِــبُّ السِّــجْـــن؟!
قَطْعــاً لا أحــد..
لكنَّ نبي الله يوسف عليه السلام أحبَّ ذلك!!
برغم أنَّ حياة السجون عالم عجيب وأهله في نهاية العجب -في لغتهم وأقوالهم وتصرفاتهم وتعاملهم-،
ورغم قسوة هذه الحياة وشدَّة آلامها مع أمثال هؤلاء؛
إلا أن نفس يوسف الأبِيَّة الكريمة قد اختارتها على حياة القصور والترف والنعيم والعبث والمجون.
فهي على ما فيها أحبُّ إليه من حياة يُستخَّفُ فيها بالقيم والأخلاق ولو كانت في قصور!!
يُبيِّن ذلك ربنا تبارك وتعالى في قوله:
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} يوسف: 33
..
وهذا يدل على أن النسوة، جعلن يُشِرْنَ على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك.
فاستحبَّ السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة تُوجِب العذاب الشديد،
{ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ }
أي: أَمِلْ إليهن، وأطاوعهن على ما يردنه منى؛ فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء،
{ وَأَكُنْ } إن صبوتُ إليهن { مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإنَّ هذا جهل..
جَهْــلٌ؛ لأنه آثر لذة قليلة مُنَغِّصة، على لذاتٍ متتابعاتٍ وشهواتٍ متنوعاتٍ في جنَّات النعيم،
ومَنْ آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟!
فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللَّذَّتين، ويؤْثِرُ ما كان محمود العاقبة.
وهنا نقف معًا وندقِّق في معنى الآيات بتدبر وفهم، ولنقرأ مرة أخرى قوله تعالى:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا...} يوسف: 22
وقوله تعالى:
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} يوسف: 33
إختار يوسف عليه السلام السجن -الذي رآه أحبّ إليه- لينأي ويبتعد تماما عن ضغوط امرأة العزيز والنسوة عليه؛
ليس لأنه ضعيف، بل لأنه أُوتيَ حُكْمًا وَعِلْمًا
حُكْماً أى: حكمة، وهي الإصابة في القول والعمل، أو هي النبوة.
وعِلْماً أى: فقهًا في الدين، وفهما سليما لتفسير الرؤى، وإدراكًا واسعًا لشئون الدِّين والدنيا.
لذا قال الإمام السعدي رحمه الله:
فإنَّ العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللَّذَّتين، ويؤْثِرُ ما كان محمود العاقبة.
وهكذا يهب الله تعالى ليوسف عليه السلام منحة التمكين في الأرض على مرحلتين؛
الأولى: بالتمكــين الصغــير..
في قوله تعالى:
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ
وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يوسف: ٢١
حيث أخرجه الله تعالى من مِحنة غَيابَةِ الجُبِّ سالماً، يُباع عبداً في مصر، فيشتريه عزيز مصر -الرجل الثاني فيها بعد الملك-،
وهيأ له الإقامة في بيت العزيز الذي أوصى به امرأته خيراً.
فعل الله ذلك بيوسف عليه السلام ليُعلّمه من تأويل الأحاديث، وتعبير الرؤى، وهذا كله تهيئة للأحداث الأخيرة في حياته، التي يتحقق فيها وعد الله له.
إذن فالعلم سبب الرفعة في الدنيا والآخرة، وسبب صلاح الدِّين والدُّنيا.
وبالعلم تأتي الحكمة للعبد بتوفيق الله له؛
فيوسف صلى الله عليه وسلم لم ينل ما نال إلا بالعلم.. ولهذا قال له أبوه:
{وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} يوسف: 6
إمتنَّ الله على يوسف عليه السلام وقت مُكثِه عند عزيز مصر بالتجرد للعلــم،
وحاز مقام الإحسان بالعلم، وخرج من السجن في حال العزّ والكرامة بالعلــم،
وتمكَّن عند ملك مصر واستخلصه لنفسه حين كلَّمه وعرف ما عنده من العلــم،
ودبَّر أحوال الخلق في الممالك المصرية بإصلاح دنياهم وحسن تدبيره في حفظ خزائن الأرض وتصريفها وتوزيعها بالعلــم،
وعند نهاية أمره توسل إلى ربه أن يتولاه في الدنيا بالعلــم:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
يوسف: 101
ففضائل العلم وثمراته الجليلة العاجلة والآجلة لا تُعد ولا تُحصى.
وفضائل العلم وردت في أحاديث عديدة، منها مارواه الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ "
صححه الإمام الألباني في: صحيح الترغيب.
ومنها ما أخبر به صلى الله عليه وسلم:
" وإنَّ فضلَ العالِمِ على العابِدِ كفَضلِ القَمرِ علَى سائرِ الكواكِبِ،... " (1)
المرحلة الثانية: بالتمكــين الكبــير..
في قوله تعالى:
{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} يوسف: 56
لما تعرّض يوسف في بيت العزيز لفتنة امرأته الطاغية، التي طمعت فيه واشتهته، وراودته عن نفسه، ولكنه استعصم بالله، واستعلى على فتنتها،
فأُدخل السجن ظلماً، ولبث فيه بضع سنين، وأوّل لصاحبيه السجينين رؤيا كل منهما، ثم أوّل الرؤيا المثيرة للملك، الذي أُعجب به،
وأمر بإخراجه من السجن، والإتيان به إليه، وعندما اطمأن إليه الملك، جعله ( عــزيــزاً ) لمصر، وسلّمه خزائن الأرض.
وبذلك صار يوسف الرجل الثاني بعد الملك..
وبداية مشهد السجن؛ تأتـــــــي:
1- بعـدمــا تَحقَّـق للعزيز صدق يوسف عليه السلام وبــراءته، وأنَّ امـرأتـه هي الكاذبة:
{فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} يوسف: 28
2- ثم ظهر للعزيز وحاشيته -من بعد ما رأوا صِدق يوسف عليه السلام وطهارة عرضه-،
أن يغيروا رأيهم في شأنه، وأن يسجنوه ظُلمًا إلى مدة غير معلومة من الزمان:
{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ} يوسف: 35
فكيف كان يوسف عليه السلام في السجن؟
يقول ابن كثير رحمه الله:
لقد اشتهر بالجود والأمانة، وصِدق الحديث وكثرة العبادة. حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما، كما ذكر القرطبي، قال:
كان يوسف يعزي الحزين في السجن، ويعود المريض ويداوي الجريح، ويصلي الليل كله ويبكي عليه السلام.
حتى استأنس به أهل السجن وأحبوه حباً عظيماً.
والمشهد الآن في السجن، كما قال تعالى:
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ
نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف: 36
دخل يوسف السجن، ودَخل معه شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصَّها على يوسف ليفسرها؛
فماذا فعل وماذا قال لهما؟!
من كمال يوسف عليه السلام ونصحه وفطنته العجيبة أنهما لما قصَّا عليه رؤياهما تأنَّى في تفسيرها ووعدهما بتفسيرها بأسرع وقت،
كما بيَّن ربنا تبارك وتعالى:
{لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا} يوسف: 37
فوعدهما بتفسيرها قبل أول طعام يأتيهما من خارج السجن ليطمئنا ويشتاقا إلى تفسيرها،
وليتمكن من دعوتهما قبل التفسير ليكون أدعى لقبول الدعوة إلى الله؛ لأن الدعوة لهما إلى الله أهم من تفسير رؤياهما.
فدعاهما إلى الله بأمرين:
أحدهما: بحاله وما هو عليه من الوصف الجميل الذي أوصله إلى هذه الحال الرفيعة، بقوله:
{ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ *
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}
يوسف: [37 , 38]
الأمر الثاني: دعاهما بالبرهان الحقيقي الفطري، فقال:
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يوسف: [39 , 40]
فإنَّ من تـَــوَحَّدَ بالكمال من كل وجه, وبالقهر للعالم العلوي والسفلي, المُستَحِقُّ للألوهية الكاملة,
الذي خلق الخلق لعبادته وأمرهم بها وله الحكم على عباده في الدنيا والآخرة هـُــوَ الذي لا ينبغي العبادة إلا له وحده دون المعبودات الناقصة المتفرقة,
التي كل قوم يدعون إِلَٰهِيَّتها, وليس فيها من معاني الإلَٰهِيَّة شيء ولا استحقاق, وإنما هي أسماء اصطلحوا على تسميتها؛
أسماء بلا معانٍ، فرأى صلى الله عليه وسلم دعوتهما إلى الله أولى بالتقديم على تفسير رؤياهما وأنفع لهما ولغيرهما.
وأما رؤيا الفتيين في قوله تعالى:
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} يوسف: 36
فقد تلطَّفوا ليوسف أن يبلغهما بتأويل رؤياهما لما شاهدوا من إحسانه للأشياء وإحسانه إلى الخلق.
ففَسَّر رؤيا من رأى أنه يعصر خمرًا أنه ينجو من سجنه ويعود إلى مرتبته وخدمته لسيده؛ فيعصر له العنب الذي يؤول إلى الخمر،
وفسَّر رؤيا الآخر؛ فيُقتَل ثم يُصْلَب فتأكل الطير من رأسه.
هذا ما وهبه الله ليوسف عليه السلام من الفهم العجيب والغوص على المعاني الدقيقة
بما جعله يفهم أن الآخر سيُقتَل ولا يُدفن سريعا حتى يصل إلى هذه الحال، ثم قال لهما:
{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} يوسف: 41
وهذا من كمال علمه للتعبير الذي لا يُعبِّر عن ظنّ وتوهُّم وإنما يُعبِّر عن علم ويقين.
وتستمر التهيئة للتمكين، وتتوالى الأحداث بمشيئة الله رب العالمين، ومازال يوسف عليه السلام يقضي في السجن بضع سنين
..
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} يوسف: 42
وقال يوسف للذي علم أنه ناجٍ من صاحبيه: اذكرني عند سيِّدك الملك وأخبره بأني مظلوم محبوس بلا ذنب،
فأنسى الشيطان ذلك الرجل أن يذكر للملك حال يوسف، فمكث يوسف بعد ذلك في السجن عدة سنوات. (2)
بعد سنوات طوال تكتمل بفضل الله مِنحة التمكين لنبيه يوسف عليه السلام،
فلما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف من السجن، قدَّر بمشيئته سبحانه لذلك سببـًا لإخراجه وارتفاع شأنه وإعلاء قدره،
وهــــو رؤيــــا المــــلك
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} يوسف: 43
وقال الملك لعلماء قومه وذوي الرأي منهم:
إني رأيت في منامي سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع بقرات نحيلات من الهُزال، ورأيت سبع سنبلات خضر، وسبع سنبلات يابسات،
فتحيَّروا، ولم يعرفوا لهذه الرؤيا تأويل قائلين:
رؤياك هذه أخلاط أحلام لا تأويل لها، وما نحن بتفسير الأحلام بعالمين.
حِينَـئِــذٍ، يُقــدِّرُ الله لنبيه يوسف عليه السلام الخروج من السجن
فبعد هذه السنين؛ يتذكَّر الفتى الذي نجا قُدرة من كان معه في السجن على تفسير هذه الرؤيا، إنه يوسف عليه السلام:
..
مشهد السجن؛ يُسجن في ذاتِ الله، ويُمَحَّصُ ليخرج برضوان الله
مـَـنْ مِنّـا يُحِــبُّ السِّــجْـــن؟!
قَطْعــاً لا أحــد..
لكنَّ نبي الله يوسف عليه السلام أحبَّ ذلك!!
برغم أنَّ حياة السجون عالم عجيب وأهله في نهاية العجب -في لغتهم وأقوالهم وتصرفاتهم وتعاملهم-،
ورغم قسوة هذه الحياة وشدَّة آلامها مع أمثال هؤلاء؛
إلا أن نفس يوسف الأبِيَّة الكريمة قد اختارتها على حياة القصور والترف والنعيم والعبث والمجون.
فهي على ما فيها أحبُّ إليه من حياة يُستخَّفُ فيها بالقيم والأخلاق ولو كانت في قصور!!
يُبيِّن ذلك ربنا تبارك وتعالى في قوله:
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} يوسف: 33
..
وهذا يدل على أن النسوة، جعلن يُشِرْنَ على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك.
فاستحبَّ السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة تُوجِب العذاب الشديد،
{ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ }
أي: أَمِلْ إليهن، وأطاوعهن على ما يردنه منى؛ فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء،
{ وَأَكُنْ } إن صبوتُ إليهن { مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإنَّ هذا جهل..
جَهْــلٌ؛ لأنه آثر لذة قليلة مُنَغِّصة، على لذاتٍ متتابعاتٍ وشهواتٍ متنوعاتٍ في جنَّات النعيم،
ومَنْ آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟!
فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللَّذَّتين، ويؤْثِرُ ما كان محمود العاقبة.
وهنا نقف معًا وندقِّق في معنى الآيات بتدبر وفهم، ولنقرأ مرة أخرى قوله تعالى:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا...} يوسف: 22
وقوله تعالى:
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} يوسف: 33
إختار يوسف عليه السلام السجن -الذي رآه أحبّ إليه- لينأي ويبتعد تماما عن ضغوط امرأة العزيز والنسوة عليه؛
ليس لأنه ضعيف، بل لأنه أُوتيَ حُكْمًا وَعِلْمًا
حُكْماً أى: حكمة، وهي الإصابة في القول والعمل، أو هي النبوة.
وعِلْماً أى: فقهًا في الدين، وفهما سليما لتفسير الرؤى، وإدراكًا واسعًا لشئون الدِّين والدنيا.
لذا قال الإمام السعدي رحمه الله:
فإنَّ العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللَّذَّتين، ويؤْثِرُ ما كان محمود العاقبة.
وهكذا يهب الله تعالى ليوسف عليه السلام منحة التمكين في الأرض على مرحلتين؛
الأولى: بالتمكــين الصغــير..
في قوله تعالى:
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ
وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يوسف: ٢١
حيث أخرجه الله تعالى من مِحنة غَيابَةِ الجُبِّ سالماً، يُباع عبداً في مصر، فيشتريه عزيز مصر -الرجل الثاني فيها بعد الملك-،
وهيأ له الإقامة في بيت العزيز الذي أوصى به امرأته خيراً.
فعل الله ذلك بيوسف عليه السلام ليُعلّمه من تأويل الأحاديث، وتعبير الرؤى، وهذا كله تهيئة للأحداث الأخيرة في حياته، التي يتحقق فيها وعد الله له.
إذن فالعلم سبب الرفعة في الدنيا والآخرة، وسبب صلاح الدِّين والدُّنيا.
وبالعلم تأتي الحكمة للعبد بتوفيق الله له؛
فيوسف صلى الله عليه وسلم لم ينل ما نال إلا بالعلم.. ولهذا قال له أبوه:
{وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} يوسف: 6
إمتنَّ الله على يوسف عليه السلام وقت مُكثِه عند عزيز مصر بالتجرد للعلــم،
وحاز مقام الإحسان بالعلم، وخرج من السجن في حال العزّ والكرامة بالعلــم،
وتمكَّن عند ملك مصر واستخلصه لنفسه حين كلَّمه وعرف ما عنده من العلــم،
ودبَّر أحوال الخلق في الممالك المصرية بإصلاح دنياهم وحسن تدبيره في حفظ خزائن الأرض وتصريفها وتوزيعها بالعلــم،
وعند نهاية أمره توسل إلى ربه أن يتولاه في الدنيا بالعلــم:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
يوسف: 101
ففضائل العلم وثمراته الجليلة العاجلة والآجلة لا تُعد ولا تُحصى.
وفضائل العلم وردت في أحاديث عديدة، منها مارواه الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ "
صححه الإمام الألباني في: صحيح الترغيب.
ومنها ما أخبر به صلى الله عليه وسلم:
" وإنَّ فضلَ العالِمِ على العابِدِ كفَضلِ القَمرِ علَى سائرِ الكواكِبِ،... " (1)
المرحلة الثانية: بالتمكــين الكبــير..
في قوله تعالى:
{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} يوسف: 56
لما تعرّض يوسف في بيت العزيز لفتنة امرأته الطاغية، التي طمعت فيه واشتهته، وراودته عن نفسه، ولكنه استعصم بالله، واستعلى على فتنتها،
فأُدخل السجن ظلماً، ولبث فيه بضع سنين، وأوّل لصاحبيه السجينين رؤيا كل منهما، ثم أوّل الرؤيا المثيرة للملك، الذي أُعجب به،
وأمر بإخراجه من السجن، والإتيان به إليه، وعندما اطمأن إليه الملك، جعله ( عــزيــزاً ) لمصر، وسلّمه خزائن الأرض.
وبذلك صار يوسف الرجل الثاني بعد الملك..
وبداية مشهد السجن؛ تأتـــــــي:
1- بعـدمــا تَحقَّـق للعزيز صدق يوسف عليه السلام وبــراءته، وأنَّ امـرأتـه هي الكاذبة:
{فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} يوسف: 28
2- ثم ظهر للعزيز وحاشيته -من بعد ما رأوا صِدق يوسف عليه السلام وطهارة عرضه-،
أن يغيروا رأيهم في شأنه، وأن يسجنوه ظُلمًا إلى مدة غير معلومة من الزمان:
{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ} يوسف: 35
فكيف كان يوسف عليه السلام في السجن؟
يقول ابن كثير رحمه الله:
لقد اشتهر بالجود والأمانة، وصِدق الحديث وكثرة العبادة. حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما، كما ذكر القرطبي، قال:
كان يوسف يعزي الحزين في السجن، ويعود المريض ويداوي الجريح، ويصلي الليل كله ويبكي عليه السلام.
حتى استأنس به أهل السجن وأحبوه حباً عظيماً.
والمشهد الآن في السجن، كما قال تعالى:
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ
نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف: 36
دخل يوسف السجن، ودَخل معه شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصَّها على يوسف ليفسرها؛
فماذا فعل وماذا قال لهما؟!
من كمال يوسف عليه السلام ونصحه وفطنته العجيبة أنهما لما قصَّا عليه رؤياهما تأنَّى في تفسيرها ووعدهما بتفسيرها بأسرع وقت،
كما بيَّن ربنا تبارك وتعالى:
{لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا} يوسف: 37
فوعدهما بتفسيرها قبل أول طعام يأتيهما من خارج السجن ليطمئنا ويشتاقا إلى تفسيرها،
وليتمكن من دعوتهما قبل التفسير ليكون أدعى لقبول الدعوة إلى الله؛ لأن الدعوة لهما إلى الله أهم من تفسير رؤياهما.
فدعاهما إلى الله بأمرين:
أحدهما: بحاله وما هو عليه من الوصف الجميل الذي أوصله إلى هذه الحال الرفيعة، بقوله:
{ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ *
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}
يوسف: [37 , 38]
الأمر الثاني: دعاهما بالبرهان الحقيقي الفطري، فقال:
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يوسف: [39 , 40]
فإنَّ من تـَــوَحَّدَ بالكمال من كل وجه, وبالقهر للعالم العلوي والسفلي, المُستَحِقُّ للألوهية الكاملة,
الذي خلق الخلق لعبادته وأمرهم بها وله الحكم على عباده في الدنيا والآخرة هـُــوَ الذي لا ينبغي العبادة إلا له وحده دون المعبودات الناقصة المتفرقة,
التي كل قوم يدعون إِلَٰهِيَّتها, وليس فيها من معاني الإلَٰهِيَّة شيء ولا استحقاق, وإنما هي أسماء اصطلحوا على تسميتها؛
أسماء بلا معانٍ، فرأى صلى الله عليه وسلم دعوتهما إلى الله أولى بالتقديم على تفسير رؤياهما وأنفع لهما ولغيرهما.
وأما رؤيا الفتيين في قوله تعالى:
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} يوسف: 36
فقد تلطَّفوا ليوسف أن يبلغهما بتأويل رؤياهما لما شاهدوا من إحسانه للأشياء وإحسانه إلى الخلق.
ففَسَّر رؤيا من رأى أنه يعصر خمرًا أنه ينجو من سجنه ويعود إلى مرتبته وخدمته لسيده؛ فيعصر له العنب الذي يؤول إلى الخمر،
وفسَّر رؤيا الآخر؛ فيُقتَل ثم يُصْلَب فتأكل الطير من رأسه.
هذا ما وهبه الله ليوسف عليه السلام من الفهم العجيب والغوص على المعاني الدقيقة
بما جعله يفهم أن الآخر سيُقتَل ولا يُدفن سريعا حتى يصل إلى هذه الحال، ثم قال لهما:
{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} يوسف: 41
وهذا من كمال علمه للتعبير الذي لا يُعبِّر عن ظنّ وتوهُّم وإنما يُعبِّر عن علم ويقين.
وتستمر التهيئة للتمكين، وتتوالى الأحداث بمشيئة الله رب العالمين، ومازال يوسف عليه السلام يقضي في السجن بضع سنين
..
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} يوسف: 42
وقال يوسف للذي علم أنه ناجٍ من صاحبيه: اذكرني عند سيِّدك الملك وأخبره بأني مظلوم محبوس بلا ذنب،
فأنسى الشيطان ذلك الرجل أن يذكر للملك حال يوسف، فمكث يوسف بعد ذلك في السجن عدة سنوات. (2)
بعد سنوات طوال تكتمل بفضل الله مِنحة التمكين لنبيه يوسف عليه السلام،
فلما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف من السجن، قدَّر بمشيئته سبحانه لذلك سببـًا لإخراجه وارتفاع شأنه وإعلاء قدره،
وهــــو رؤيــــا المــــلك
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} يوسف: 43
وقال الملك لعلماء قومه وذوي الرأي منهم:
إني رأيت في منامي سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع بقرات نحيلات من الهُزال، ورأيت سبع سنبلات خضر، وسبع سنبلات يابسات،
فتحيَّروا، ولم يعرفوا لهذه الرؤيا تأويل قائلين:
رؤياك هذه أخلاط أحلام لا تأويل لها، وما نحن بتفسير الأحلام بعالمين.
حِينَـئِــذٍ، يُقــدِّرُ الله لنبيه يوسف عليه السلام الخروج من السجن
فبعد هذه السنين؛ يتذكَّر الفتى الذي نجا قُدرة من كان معه في السجن على تفسير هذه الرؤيا، إنه يوسف عليه السلام:
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} يوسف: ٤٥
بعد سنوات طوال؛ يتذكر ساقي الملك -الفتى الذي نجا- كيف فسَّر له يوسف رؤياه تفسيرًا صادقًا أيام أن كان معه في السجن،
فيطلب من الملك ومن معه قائلا: أنا أخبركم بتأويل هذه الرؤيا، فابعثوني إلى يوسف لآتيكم بتفسيرها،
ويلتقي الساقي بيوسف عليه السلام داخل السجن طالبا منه تفسير رؤيا الملك..
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} يوسف: ٤٦
فسَّر يوسف عليه السلام الرؤيا للساقي بصدق وتحليل لما سيحدث وما يجب الاستعداد له:
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴿٤٧﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ ﴿٤٨﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴿٤٩﴾} يوسف
قال يوسف عليه السلام مُفسرًا لرؤيا الملك:
تزرعون سبع سنين متتابعة جادِّين ليَكْثُر العطاء، فما حصدتم منه في كل مرة فادَّخِروه، واتركوه في سنبله؛ ليتمَّ حفظه من التسوُّس، وليكون أبقى، إلا قليلا مما تأكلونه من الحبوب، ثم يأتي بعد هذه السنين الخِصْبة سبع سنين شديدة الجَدْب، يأكل أهلها كل ما ادَّخرتم لهن من قبل، إلا قليلا مما تحفظونه وتدَّخرونه ليكون بذورًا للزراعة، ثم يأتي من بعد هذه السنين عام يغاث فيه الناس بالمطر، فيرفع الله تعالى عنهم الشدّة، ويعصرون فيه الثمار من كثرة الخِصْب والنماء.
وهكذا فسَّر يوسف عليه السلام الرؤيا المثيرة للملك، الذي أُعجِب به، وأمر بإخراجه من السجن، والإتيان به إليه:
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} يوسف:٥٠
ولنتأمل معًا حكمة سيدنا يوسف عليه السلام!! إنها حكمة بالغة:
يقول تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ} لمن عنده {ائْتُونِي بِهِ} أي: بيوسف عليه السلام، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه،
فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك، امتنع عن المبادرة إلى الخروج، حتى تتبين براءته التامة، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام.
رفَضَ يوسف عليه السلام أمر الملك بالحضور إليه والخروج من السجن بعد كل هذه السنين إلا بعد ظهور براءته..
أبَىَ نبيّ الله يوسف عليه السلام إلا أن تظهر براءته التامة التي لا شبهة فيها؛ فلم يخرج من السجن لمواجهة الملك إلا في حالة براءته وهيبته ورفعته،
وتعظيمٍ منهم لعِلمِه وفضله ونزاهته عليه الصلاة والسلام.
تظهر براءة يوسف عليه السلام كما شاء الله وقدَّر له، فتشهد له امرأة العزيز بصدقه، وتعترف اعترافا تامَّــًا ببراءته:
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّـهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} يوسف:٥١
عندئذٍ؛ اطمأن الملك ليوسف عليه السلام، وعرف قدره جيدًا -عِلمــًا وخُلقــًا وأمَانــًة-، فجعله (عــزيــزاً) لمصر، وسلّمه خزائن الأرض.
وبذلك صار يوسف الرجل الثاني بعد الملك..
وقد علَّقت الآيات على ترتيب الأحداث بتقدير الله، لتوصل يوسف عليه السلام إلى ما وصل إليه بتقدير الحكيم الخبير.
هذا هو التمكين الثاني الكبير، الذي مكَّنه الله ليوسف،
وهذا التمكين تحقيقٌ لما استشرفه له أبوه من مستقبل واعدٍ مشرق.
وللحديث بقية بأمر الله رب البرية، ليتبقى المشهد الرابع وملك مصر...
فتابعونا بإذن الله تعالى
بعد سنوات طوال؛ يتذكر ساقي الملك -الفتى الذي نجا- كيف فسَّر له يوسف رؤياه تفسيرًا صادقًا أيام أن كان معه في السجن،
فيطلب من الملك ومن معه قائلا: أنا أخبركم بتأويل هذه الرؤيا، فابعثوني إلى يوسف لآتيكم بتفسيرها،
ويلتقي الساقي بيوسف عليه السلام داخل السجن طالبا منه تفسير رؤيا الملك..
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} يوسف: ٤٦
ومن كمال إخلاص يوسف وكمال خُلقه أنه لم يعاتب هذا الذي وصَّاه أن يذكره عند ربه فنسي , وجاءه يسأله عن رؤيا الملك؛
فأجابه، ولم يعاتبه أو يعنِّفَهُ أو يعامله بسوء خلق. هذه هي الأخلاق التي يجب أن نقتدي بها.
فبحسن الخلق تحصل للعبد الحياة الطيبة العاجلة والآجلة.
فأجابه، ولم يعاتبه أو يعنِّفَهُ أو يعامله بسوء خلق. هذه هي الأخلاق التي يجب أن نقتدي بها.
فبحسن الخلق تحصل للعبد الحياة الطيبة العاجلة والآجلة.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴿٤٧﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ ﴿٤٨﴾ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴿٤٩﴾} يوسف
قال يوسف عليه السلام مُفسرًا لرؤيا الملك:
تزرعون سبع سنين متتابعة جادِّين ليَكْثُر العطاء، فما حصدتم منه في كل مرة فادَّخِروه، واتركوه في سنبله؛ ليتمَّ حفظه من التسوُّس، وليكون أبقى، إلا قليلا مما تأكلونه من الحبوب، ثم يأتي بعد هذه السنين الخِصْبة سبع سنين شديدة الجَدْب، يأكل أهلها كل ما ادَّخرتم لهن من قبل، إلا قليلا مما تحفظونه وتدَّخرونه ليكون بذورًا للزراعة، ثم يأتي من بعد هذه السنين عام يغاث فيه الناس بالمطر، فيرفع الله تعالى عنهم الشدّة، ويعصرون فيه الثمار من كثرة الخِصْب والنماء.
وهكذا فسَّر يوسف عليه السلام الرؤيا المثيرة للملك، الذي أُعجِب به، وأمر بإخراجه من السجن، والإتيان به إليه:
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} يوسف:٥٠
ولنتأمل معًا حكمة سيدنا يوسف عليه السلام!! إنها حكمة بالغة:
يقول تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ} لمن عنده {ائْتُونِي بِهِ} أي: بيوسف عليه السلام، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه،
فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك، امتنع عن المبادرة إلى الخروج، حتى تتبين براءته التامة، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام.
رفَضَ يوسف عليه السلام أمر الملك بالحضور إليه والخروج من السجن بعد كل هذه السنين إلا بعد ظهور براءته..
أبَىَ نبيّ الله يوسف عليه السلام إلا أن تظهر براءته التامة التي لا شبهة فيها؛ فلم يخرج من السجن لمواجهة الملك إلا في حالة براءته وهيبته ورفعته،
وتعظيمٍ منهم لعِلمِه وفضله ونزاهته عليه الصلاة والسلام.
تظهر براءة يوسف عليه السلام كما شاء الله وقدَّر له، فتشهد له امرأة العزيز بصدقه، وتعترف اعترافا تامَّــًا ببراءته:
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّـهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} يوسف:٥١
عندئذٍ؛ اطمأن الملك ليوسف عليه السلام، وعرف قدره جيدًا -عِلمــًا وخُلقــًا وأمَانــًة-، فجعله (عــزيــزاً) لمصر، وسلّمه خزائن الأرض.
وبذلك صار يوسف الرجل الثاني بعد الملك..
وقد علَّقت الآيات على ترتيب الأحداث بتقدير الله، لتوصل يوسف عليه السلام إلى ما وصل إليه بتقدير الحكيم الخبير.
هذا هو التمكين الثاني الكبير، الذي مكَّنه الله ليوسف،
وهذا التمكين تحقيقٌ لما استشرفه له أبوه من مستقبل واعدٍ مشرق.
وللحديث بقية بأمر الله رب البرية، ليتبقى المشهد الرابع وملك مصر...
فتابعونا بإذن الله تعالى
_________________________
(1) متن الحديث:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ عِلمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحَتَها رضًا لطالبِ العلمِ،
وإنَّ طالِبَ العِلمِ يستَغفرُ لَهُ مَن في السَّماءِ والأرضِ، حتَّى الحيتانِ في الماءِ، وإنَّ فضلَ العالِمِ على العابِدِ كفَضلِ القَمرِ علَى سائرِ الكواكِبِ،
إنَّ العُلَماءَ هُمْ ورَثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا، إنَّما ورَّثوا العِلمَ، فمَن أخذَهُ أخذَ بِحَظٍّ وافرٍ "
المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 183 - خلاصة حكم المحدث: صحيح
(2) للفـائـدة.. يرجى قراءة هذا الموضوع: إشكال حول قول يوسف عليه السلام: اذكرني عند ربك
المراجع:
1- التفسير الميسر
2- تفسير الإمام السعدي رحمه الله
3- تفسير الإمام القرطبي رحمه الله
4- تفسير الوسيط للشيخ سيد طنطاوي رحمه الله
5- من كتاب: فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام، للإمام السعدي رحمه الله
6- من خطبة يوسف في السجن، للشيخ فواز الثبيتي
7- من كتاب: وعود القرآن بالتمكين للإسلام، للكاتب:
د صلاح الخالدي-الفصل الخامس، للتعرف على سيرته الذاتية أدخل على هذا الرابط: هنـــــــا
(1) متن الحديث:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ عِلمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحَتَها رضًا لطالبِ العلمِ،
وإنَّ طالِبَ العِلمِ يستَغفرُ لَهُ مَن في السَّماءِ والأرضِ، حتَّى الحيتانِ في الماءِ، وإنَّ فضلَ العالِمِ على العابِدِ كفَضلِ القَمرِ علَى سائرِ الكواكِبِ،
إنَّ العُلَماءَ هُمْ ورَثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا، إنَّما ورَّثوا العِلمَ، فمَن أخذَهُ أخذَ بِحَظٍّ وافرٍ "
المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 183 - خلاصة حكم المحدث: صحيح
(2) للفـائـدة.. يرجى قراءة هذا الموضوع: إشكال حول قول يوسف عليه السلام: اذكرني عند ربك
المراجع:
1- التفسير الميسر
2- تفسير الإمام السعدي رحمه الله
3- تفسير الإمام القرطبي رحمه الله
4- تفسير الوسيط للشيخ سيد طنطاوي رحمه الله
5- من كتاب: فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام، للإمام السعدي رحمه الله
6- من خطبة يوسف في السجن، للشيخ فواز الثبيتي
7- من كتاب: وعود القرآن بالتمكين للإسلام، للكاتب:
د صلاح الخالدي-الفصل الخامس، للتعرف على سيرته الذاتية أدخل على هذا الرابط: هنـــــــا
تعليق