أسئلة القرآن (1)
د. عمر بن عبد الله المقبل
الحمد لله أكرمنا بنزول القرآن، وجعل نزولَه في أشرف زمان
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[البقرة: 185]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما رحم الخلق بمثل تعليمهم القرآن:﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾[الرحمن: 1، 2]،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان خلقه القرآن، يتلوه آناء الليل، ويترجمه واقعا في بقية الزمان، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه كل أوان،
أما بعد:
ففي أعقاب غزوة بدر، جاء جبير بن مطعم بن عدي يطلب أسيراً له في المدينة، فوافى دخولُه إياها والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بسورة الطور، فلما بلغ:
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾[الطور: 35 - 37]
قال جبير: كاد قلبي أن يطير! وذلك أول ما وقر الإيمانُ في قلبي.(2)
إنها ـ يا عباد الله ـ أسئلة القرآن التي تخاطب القلب والعقل، وتحرك فيه دواعي التأمل والتفكر، ليتعرف على مَن أنزل القرآن، ويزداد الإيمان بتدبر كلامه، والتفكر في معانيه.
يا أمة القرآن.. لقد شَغَلَتِ الأسئلةُ في كتاب الله تعالى حيّزاً كبيراً، وتنوعت أساليبُها حسب سياقاتها، فمرةً يأتي السؤال للتوبيخ، ومرةً للإنكار، ومرةً للاستبطاء،
كما قال الله عن الرسل وأتباعهم ـ حينما لاقوا ما لاقوا من الشدة ـ:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾
[البقرة: 214].
وتأتي أسئلةُ القرآن لتخاطب العقولَ المستكبرة المُصرّة على ضلالها! تأمل موقع ذلك الاستفهام: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾[التكوير: 26]
بعد قوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾[التكوير: 22 - 25]
إنه استفهام ينبئ على غرقهم في الضلال، وإلا فأين تذهب عقولهم من عدم التصديق بهذا النبي وهم يرون دلائل صدقه، وبراهين نبوته؟!
وحين يشتد الكفرُ تتنوع أساليبُ الاستفهام القرآني؛ لتقرع قلوبَ الكفار والمعاندين، فتأمل في تلك الاستفهامات التي افتُتح بها صدر سورة المرسلات:
﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين﴾[المرسلات: 16 - 19].
ويأتي أسلوب الإنكار على الخصوم بألوان من الاستفهامات تَفلِق هامَ شبهاتهم لو وافقت قلوباً حيّة: استمع لهذه الاستفهامات:
﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾[الأنعام: 40]؟
﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾[الأنعام: 14]؟
وكقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾[الزخرف: 31، 32]؟
أي: ليسوا هم المتخيرين للنبوة من يصح لها، ولا المتولِّين لقسم رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته.
ومِن تلكم الاستفهامات التي تملأ القلبَ إيماناً وإخباتاً وخضوعاً لذي العظمة والجلال؛ ما ذكره الله تعالى عقب قصص الأنبياء في سورة النمل:
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[النمل: 59 - 64].
ومن سورة النمل إلى سورة الواقعة التي ترَكَّزت على قضية البعث يوم القيامة.. وخاطبت عقولَ المشركين بأنواع من الخطاب، كان منها:
تلكم الاستفهامات التي لو تأملها الإنسانُ العادي لخرج بدرس إيماني عظيم:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾[الواقعة: 57 - 74]..
سبحان ربنا العظيم .. سبحان ربنا العظيم .. سبحان ربنا العظيم..!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
فإن الحديث عن أسئلة القرآن وأنواع الاستفهام فيه لا يمكن أن يستوعبه مقام كهذا، وإنما المراد من هذا الحديث أن نعيد النظر في طريقة قراءتنا لكتاب الله تعالى،
وكيف نخرج بقراءة تَصلُح بها قلوبُنا، وتَرِق بها من جمودها، وتلين من قسوتها، فلقد غلب على الكثير منا تغليب: كم قرأتُ، دون: كيف قرأت؟
إن الموفّق ـ حين يمسك المصحف ـ ينبغي له عند التلاوة "للسورة إذا افتتحها:
متى أتعظ بما أتلو؟ وليس متى أختم السورة؟
وإنما مراده متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟
لأن تلاوته للقرآن عبادة, والعبادة لا تكون بغفلة!"(3).
([1]) ألقيت في 6/9/1435هـ.
([2]) هذا سياق مجموع من عدة روايات في البخاري،انظر: ح(4854)، (4023).
تعليق