إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

القرآن بعد الهجرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القرآن بعد الهجرة






    القرآن بعد الهجرة

    نزل القرآن في عهدين متمايزين: العهد المكي، وهو ما قبل الهجرة، والعهد المدني، وهو ما بعد الهجرة.

    فكما أن هجرة الرسول - صلوات الله عليه - إلى المدينة كانت حدًّا فاصلاً في تاريخ الإسلام بين عهدين،
    كانت كذلك حدًّا فاصلاً في القرآن الكريم بين أسلوبين.


    على أن القرآن كله مَصوغٌ في أسلوب بلاغي لا يُضارَع، وفي فصاحة من النَّظم لا تُبارى؛
    لأنه في صياغته يتناسب مع موضوع الخطاب، ويتلاءم مع نفسيات المخاطَبين، متدرِّجًا مع الأحداث، متطابقًا مع الأحوال الاجتماعية، والسياسة التشريعية.





    فمَن نظر في القرآن الكريم نظرة شاملة جامعة، وجده مرآةً صادقة للأحداث التي مرَّتْ على الإسلام،
    وسجلاًّ محفوظًا للأزمات التي صادَفها الرسول في نشْر دعوته، وصورةً دقيقة للمنهج القويم الذي سلكه في هدايته،
    وللتدرج الحكيم الذي اتَّخذه في تشريعه؛ بل هو مَيدان فسيح للتحليل النفسي الذي يكشف عن سِر بلاغة القرآن، وسحر بيانه، ومَناط إعجازه.


    لذلك كان على من يريد تفسير القرآن تفسيرًا صحيحًا، أن ينظر إلى المنزَّل عليه القرآن، والمخاطَب به،
    والموضوع الذي تناوله؛ حتى يستطيع أن يدرك أسرارَ أسلوبه، وخصائصَ تعبيره، ودقائقَ نظمه.




    جاء في الإتقان
    [1] عند الحديث على أخطاء المفسرين ومواطن زَللهم: "أكثر ما يقع في التفسير الخطأ من وجهين:


    أحدهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمْل ألفاظ القرآن عليها.

    والثاني: قوم فسَّروا القرآن بمجرد ما يَسوغ في لغة العرب، من غير نظر إلى المتكلِّم بالقرآن، والمنزَّل عليه، والمخاطَب به".

    فالمخاطبون في المدينة يختلفون عن المخاطَبين في مكة فصاحةً وعقليَّة، وخُلُقًا وبيئة،
    والموضوعاتُ التي تتناوَلها السُّور المدنية تختلف عن الموضوعات التي تناولتْها السُّور المكية،
    ونفسيَّةُ الرسول - صلوات الله عليه - في المدينة غيرها في مكة.


    لهذا كله؛ كان للقرآن المدني أسلوب له خصائصه ومميزاته، عن القرآن المكي الذي له أسلوبه وخصائصه؛ وفي كلٍّ إعجازٌ وسحرُ بيان، وجمال نَظْم، يدل على أنه ليس في طاقة البشر، وإنما هو: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].


    فأهل مكة كانوا يومذاك أهل شِرك وعبادة أوثان، وأهل رياسة وسيادة، ديدنُهم العناد، وخُلُقُهم الغطرسة والجَفوة، وعقولهم في الدين مُقفَلة، وطِباعهم في الجدل جافة، جامدين في تقليدهم، واقفين عند كبريائهم وطغيانهم، ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ [البقرة: 170]، ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴾ [ص: 5 - 7].





    وكانت موضوعات السور المكية جُلها في أصول الأحكام الاعتقادية؛ من الإلهيات، والوحي، والرسالة، والبعث،
    والجزاء، ويلي ذلك فيها أصول التشريع الإجمالية العامة، والآداب والفضائل الأساسية، ويتخلَّل هذا وذاك محاجَّة المشركين
    ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول، وإبطال ضلالاتهم، ومُحاربة خرافاتهم.


    وكان الرسول - صلوات الله عليه - في مكة حَرَجًا صدرُه، حزينةً نفسُه؛ من طول المعارضة، واستمرار العِناد، وتوالي التكذيب، ولحرصه على نجاة قومه من ضلالهم، وتخليصهم من عبادة أصنامهم؛ ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]، ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [الحجر: 97].

    لذا جاء القرآن المكي يُخاطبهم صريحًا واضحًا سهلاً، في أسلوب فطري وجداني؛ ليصل إلى قلوبهم القاسية، وعقولهم المُغلَقة.

    فكانت السور المكية تارة تُنذِرهم، فتذكِّرهم بيوم الفصل، وبالصاخة تجيئهم، وبالقارعة تَحُل بهم،
    ثم تصِف لهم سقر وزبانيتها؛ ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ [المدثر: 26 - 30].


    وتارة تصف الجنة ونعيمها، وحدائقها وأنهارها، وبين هذا وذاك يَجذِب القرآن أنظارَهم إلى ما ألِفوه من مشاهد الطبيعة،
    الدالة على قدرة الله وعِظم آلائه، وجليل آياته؛ ليتدبَّروا فيَصِلوا من ذلك إلى ألوهيته، ويدركوا حقيقة وحدانيته.


    يسوق القرآن المكي كلَّ ذلك في أسلوب مسجوع قصير، وموسيقا لفظيَّة ساحرة، وجُملٍ متّزِنة مزدوجة،
    في صيغٍ مؤكَّدة بالقسم الذي درَجوا عليه في تعابيرهم، وألِفوه في مخاطبتهم؛ ليكون ذلك أبلغَ أثرًا في نفوسهم، وأعمقَ فعلاً في وِجدانهم.

    ثم يضرب لهم الأمثال بالأمم الغابرة التي كانت أشدَّ منهم قوةً، فأخذهم الله بذنوبِهم، وأهلكهم بظلمهم، وعصيانِهم خالِقَهم؛ ليوقِظ من وراء ذلك التهديد قلوبَهم، ويُحيي بصارم هذا الوعيد ميت وجداناتهم؛
    ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ *
    وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾
    [هود: 100 - 102].


    ﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾ [القمر: 43].

    التعديل الأخير تم بواسطة عطر الفجر; الساعة 30-07-2015, 09:22 PM.

    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
    وتولني فيمن توليت"

    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36


  • #2
    رد: القرآن بعد الهجرة




    لهذا كان أسلوب السور المكية غالبًا جزلاً متينًا، وصارمًا حينًا،
    يَصُخ الجنان، ويُصدِّع الوجدان، ويُفزِع القلوب، ويُنبِّه العقول:


    ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴾ [القارعة: 1 - 5].
    ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ *
    فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾
    [الحاقة: 1 - 6].

    ﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾ [المدثر: 49 - 51].
    ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴾ [مريم: 88 - 90].

    على أن القرآن المكي لم يخلُ أحيانًا من لينٍ ورقة، ومُحاسَنة ومُلاينة، إذا ما توجَّه بالخطاب إلى المؤمنين،
    أو إذا سلك مسلَك الوعظ والتذكير، أو وصف الجنة وظِلالها، أو إذا عمَد إلى تسلية الرسول - صلوات الله عليه - والتسرية عن نفسه:

    ﴿ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [يس: 76].




    وقد شاع في أسلوب هذا العهد ظاهرتان:

    الظاهرة الأولى: الإيجاز
    قال الجاحظ[2]: "رأينا الله - تبارك وتعالى - إذا خاطَب العرب والأعراب أخرَج الكلام مخرَج الإشارة والحذف، وإذا خاطَب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعَله مبسوطًا وزاد في الكلام"؛
    ذلك لأن المخاطَبين من أهل مكة كانوا أهل فصاحة ولسان، صناعتهم الكلام، وهَمُّهم البيان، فيُناسبهم الإيجاز؛ ولأن التشريع الذي في السور المكية تشريع إجمالي لا تفصيلي، حيث الإسلام لم يستقر بعد
    حتى يأخذ في تنفيذِ شرائعه وتفصيل قوانينه؛ لأن التشريع العملي مرتبِطٌ بسلطان الحكم التنفيذي،
    فلا فائدة من تشريع لا يملِك صاحبه قوة تنفيذه وإجراء أحكامه.


    روى البخاريُّ في كتاب فضائل القرآن عن عائشة - رضي الله عنها -: "إنما نزَل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصَّل فيها ذِكْر الجنة والنار[3]، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء:
    لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندعُ الزنا أبدًا".





    أما الظاهرة الثانية، فهي ذات شِقين:


    الشِّق الأول: شيوع تَكرار آيات بذاتها في بعض السور، وهذا لا يوجد إلا في السور المكية، كما في سورة الرحمن، والمرسلات، والقمر، والسرُّ في شيوع تكرار هذه الآيات بذاتها إنما وجد حيث قصد التأكيد وحمْل المخاطب على الإقرار،
    أو حيث قصد توبيخه وتنبيهه لما هو واجب،
    أو حيث قصد إيقاظ قلبه الذي لا يَفقه، وتحريك وِجدانه المُعتم الراكد الذي لا يَعي.



    والشِّق الثاني: هو افتتاح سور ببعض حروف التهجي نحو ﴿ المص ﴾ ﴿ الم ﴾ ﴿ حم ﴾، وهذا إنما شاع في تسع وعشرين سورة جميعُها مكية، ما عدا سورتين: البقرة وآل عمران، فهما مدنيتان.

    وخير الآراء في بيان سر ذلك وأرجحها، هو أن ورود هذه الأحرف مسرودة على نمط التعديد (ألف لام ميم) أو (طا سين ميم)، هو كالإيقاظ وقرع العصا لمن تُحُدِّيَ بالقرآن؛ وهم أهل مكة،
    فهو يقصِد إثارتهم للنظر في أن هذا المتلوَّ عليهم منظوم من عين ما يَنظِمون منه كلامهم،
    ومَصوغٌ من الحروف التي يَصوغون منها قريضَهم وخطبَهم؛ وإنما عَجْزهم عن معارضته، والإتيان بمثله، وهم أمراء الكلام،
    وزعماء الحوار ليس إلا لأنه من غير جنس كلام البشر؛ وإنما هو من كلام خالِق القُوى والقُدَر
    [4].



    وصَلَ الرسول - صلوات الله عليه - وصاحبه يثربَ سنة (622 م) ومن ثَمَّ أصبحت هذه المدينة مَعقِل الإسلام، وملجأ جماعة المسلمين



    وكان بالمدينة في ذلك الوقت أربعة أصناف من الطوائف:


    الصِّنف الأول: المهاجرون، وهم الذين هاجروا فرارًا بدينهم من مكة.

    والصِّنف الثاني: الأنصار، وهم الذين دخلوا الإسلام من سكان المدينة الأصليين،
    وهاتان الطائفتان هم المسلمون الصادقو الإيمان، وهم يكوِّنون الجزء الأكبر من أهل المدينة.


    والصِّنف الثالث: فريق من أهل المدينة لم يرغب في تغيير دينه الوثني، فوقف من المسلمين مواقف متناقِضة،
    وهم المنافقون، يُظهِرون خلاف ما يُبطِنون، وكانوا خصومًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه،
    وكان شياطينهم ورؤساؤهم في ذلك هم اليهود؛ ولذلك لم يتحدَّث القرآن عن النفاق إلا في السور المدنية.


    والصِّنف الرابع: هم اليهود، بقيَّة بني إسرائيل مع من تهوَّد من العرب؛
    وقد كان هؤلاء اليهود من الناحية العقلية أرقى من العرب؛ لأنهم أهل كتاب، وكان للنبي فيهم رجاء كبير؛ حيث هم قوم عرَفوا الوحي وقرؤوا الكتب المقدَّسة؛
    ولكنهم كانوا أشد الطوائف عَداء للرسول ولأصحابه، بغيًا وحسدًا؛
    لِما خَصَّ الله تعالى به العرب من اختياره رسوله منهم: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54].


    ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82].



    فكان القرآن المدني يُخاطِب كل هذه الطوائف ويُجادِلهم، ويُبطِل حُججَهم، ثم يشرع للمسلمين في حربهم وسِلمهم، وفي أحوالهم الشخصية، ومعاملاتهم التجارية، وبين حين وآخر يوجِّه القول للمشركين يُعنِّفهم ويُهدِّدهم، ويُنذِرهم ويُخوِّفهم،
    ويسجِّل انتصارات المسلمين عليهم، كل ذلك ستجده في السور المدنية مُسجلاً في أسلوب يُغاير أسلوب السور المكية،
    وفي خصائص تتط
    لَّبها موضوعات الخطاب، ومواطن الكلام.


    هذه هي بيئة المدينة، والطوائف التي كانت بها، والتي نزل القرآن المدني يتحدث عنها ويُجادِلها.



    أما الموضوعات التي تناولتها السور المدنيَّة
    ، فقد ذكَر "فيليب حتي"[5] في كتابه "تاريخ العرب":
    "أما الموضوعات الجديدة التي تحدَّثت عنها السور المدنية، فقد جاءت في ذلك العهد، فضلاً عن العقائد الدينية وأحكام الصلاة وفرْض الصوم والحج - جاءت بقوانين اجتماعية سياسية تبحث في شؤون الزواج والطلاق والميراث
    ومعاملة الرقيق وأسرى الحروب والأعداء المغلوبين، وجاءت بتحريم الخمر وأكل لحم الخنزير وتحريم الميسر، وأحكام تنظيم المال، وفرْض الجهاد، وشرَّعت قوانين مدنيَّة وعقوبات جزائية تتعلَّق بالقتل والثأر والسرقة والربا".


    وذكر نيكلسون ما يُشبِه ذلك في كتابه "تاريخ الأدب العربي"[6].

    وذكر الشاطبي في كتابه الموافقات[7]:

    "ثم لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة واتَّسعت خِطة الإسلام، كمُلت هناك الأصول الكلية بالتدريج؛
    كإصلاح ذات البين، والوفاء بالعقود، وتحريم المُسكِرات، وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية
    وما يُكمِّلها ويُحسِّنها، ورفْع الحرج بالتخفيفات والرُّخص وما أشبه ذلك، كله تكميل للأصول الكلية التي نزَل القرآن بها في مكة".






    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
    وتولني فيمن توليت"

    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

    تعليق


    • #3
      رد: القرآن بعد الهجرة




      أما حالة الرسول - صلوات الله عليه - النفسيَّة والاجتماعية في المدينة،
      فق
      د وصَفها (در منجم) في كتابه "حياة محمد"[8]:



      "وصل محمد إلى المدينة مُظفرًا أكثر منه مهاجرًا، فاشتدت عزيمته باستجابة أهل يثرب لدعوته، ودخولهم في دينه،
      فكانوا له سندًا وأنصارًا، مما لم يجده في الطائف ولا في وطنه مكة؛
      فانقضى عهد الاضطهاد والتعذيب، وجاء زمن الانتصار والترفيه.



      فلما استقر بمحمد المَقام، أقام في جزيرة العرب مجتمعًا على أسس جديدة، بعيدة من عصبيات القبائل
      والعشائر، مما لا يصنع مثله مؤسسو الديانات إلا نادرًا، وأصبح لزامًا عليه أن يكون قائدًا حكيمًا، وزعيمًا سياسيًّا، وهاديًا موفَّقًا،
      دون انقطاع عن القيام بأمر الرسالة، وتلقِّي الوحي، وتبليغ القرآن".


      ويقول توماس أرنولد في كتابه: "الدعوة إلى الإسلام، أو التبشير بالإسلام"[9]:
      "ولكن لنرجع إلى الحديث عن محمد - صلوات الله عليه - وهو في المدينة... ومن ثَمَّ نستطيع أن نُدرِك كيف استطاع محمد أن يجعل من نفسه زعيمًا على جماعة من أنصاره كثيرٍ عددُهم،
      دائمٍ نموُّهم، كلهم ينظُر إليه نظرتهم إلى رئيس لهم وقائد لنهضتهم، غير معترفين بسلطان غير سلطانه،
      في غير ما شعور بقلق، أو إحساس بخطر، أو توجُّس من خوف اعتداء على سلطانه كما يحدُث عادة في مِثل تلك المجتمعات.




      وهكذا قام محمد بأداء رسالته بين قومه كأحسن ما يقوم زعيمٌ مستقل، غير أنه هنا قد أقام رِباط الأخوة الدينيَّة، مَقام العصبية القبليَّة"؛
      لذلك كله كانت للسور المدنية سِمات خاصَّة بها، ومميزات واضحة في أسلوبها.


      من تلك السمات: أن لبعض السور المدنية ألوانًا عرِفت بها، وموضوعات اختُصَّت ببحثها؛ فمن أراد أن يدرُس أحوال اليهود، فعليه بسورة البقرة والمائدة؛ ومن أراد أن يدرس أحوال النصارى، فعليه بسورة آل عمران والنساء والمائدة، ومن أراد أن يدرس أحوال المنافقين، فعليه بسورة النساء وبراءة والمنافقون.

      ثم من خصائص القرآن المدني أيضًا الطول والإطناب، واختفاء السجع القصير والموسيقا الرتيبة المتوالية،
      فأين قوله تعالى في سورة المائدة المدنية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي
      الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾
      [المائدة: 1]
      من قوله تعالى في سورة التكوير المكية: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ *
      وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾
      [التكوير: 1 - 5]؟



      على أن هذا المميز - وهو الطول وعدم السجع - أغلبيٌّ؛ فقد يوجد في بعض الآيات المكية طول،
      وأكثر ذلك في السور الطوال، كالنحل والأنعام.





      فطول الآيات وقِصَرُها، وسجْعها وعدم سجعها - منوطٌ بموضوعها، حسبما تقتضيه أسرار البلاغة؛ فالآيات أو السور التي يُراد بها الوعظ والزجر، وتحريك الوِجدان وإثارة النفوس، وما فيها من رغبة ورهبة، وخوف واطمئنان -
      يَحسُن أن تكون أقصر من آيات الأحكام مسجوعة مُتَّزِنة في أسلوب خطابي إقناعي؛
      وهذا النوع يَكثُر في العهد المكي؛ لأنه هو المناسب لحال المخاطبين من المشركين؛ لجحودهم وعِنادهم، وشدة معارَضتهم وطُغيانهم.



      والآيات التي تَرِد فيها الأحكام التفصيلية والأوامر التشريعية، يَحسُن فيها الإطناب والتفصيل، في غير ما التزامٍ بسجع أو مُراعاة لاتزان؛ لأن الغرض منها وعيها وإدراكها، والقيام على أدائها وتنفيذها، وهذا النوع يكثُر في العهد المدني.





      ومن خصائص السور المدنية في أسلوبها:

      أن يَشيع فيها الأسلوب اللين الرقيق، والعبارات العذبة المنسجِمة، ويقلُّ فيها الأسلوب الجزل المدوي،
      والعبارات الصارخة المجلجِلة؛ لذا لاحَظ القدماء أنه يغلِب فيها خطاب الجمهور بقوله تعال
      ى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وقلما يَرِد بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾؛ لأن الصورة الأولى في النداء تكريمًا وتشريفًا، وعذوبة ولينًا؛ فلم نرَه ولو مرةً واحدة في السور المكيَّة.


      أما في السور المدنيَّة، فقد ورد ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ إحدى عشرة مرة حين يُراد خطاب المشركين أو خطاب جميع المكلَّفين.





      وقد لاحَظ القدماء أيضًا في خصائص أسلوب القرآن المدني: أنه خلا من لفظ "كلا"، فقد وردت هذه الكلمة "كلا" في القرآن جميعه ثلاثًا وثلاثين مرة، في خمس عشرة سورة، وهي عند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج
      وأكثر البصريين حرفٌ معناه الردع والزجر، لا معنى لها عندهم إلا هذا؛ فهي أداة من أدوات التقريع والزجر والتهديد والوعيد
      [10].



      وبعد، فالقرآن كله مكيُّه ومَدنيُّه، قام على رعاية حال المخاطَبين، وملاءمة الموضوع الذي يتحدّث عنه،
      والحالة النفسيّة للرسول - صلوات الله عليه - وهو سواء في البلاغة المُثْلى، والنَّظْم المُعجِز،
      والبيان الساحر
      ، ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].





      [1] (4/ 206).
      [2] الحيوان (94: 1).
      [3] قال ابن حجر: المراد سورة المدثر؛ فإنها أول ما نزل بعد فترة الوحي، وفي آخرها ذِكر الجنة والنار.
      [4]- تفسير الطبري والقرطبي والبيضاوي وأبي حيان والآلوسي والإمام الشيخ محمد عبده، أدب الكتاب للصولي، تنزيه القرآن عن المطاعن لقاضي القضاة عبدالجبار، اللسان، الموافقات.
      [5] تاريخ العرب 119 - 124.

      [6] تاريخ الأدب العربي 176.
      [7] الموافقات.
      [8] ترجمة زعيتر 136 و 148.
      [9] الدعوة إلى الإسلام.
      [10] مقالة "كلا"؛ لابن فارس 6.


      المصدر/ عبد الوهاب حمودة
      شبكة الألوكة





      "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
      وتولني فيمن توليت"

      "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

      تعليق


      • #4
        عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
        جزاكم الله خيرًا، وبارك فيكم
        وجعله الله في ميزان حسناتكم
        التعديل الأخير تم بواسطة عطر الفجر; الساعة 26-01-2016, 10:00 PM.

        تعليق


        • #5
          رد: القرآن بعد الهجرة

          اللهم آمين وإياكم
          بوركتم لمروركم الطيب

          "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
          وتولني فيمن توليت"

          "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

          تعليق


          • #6
            رد: القرآن بعد الهجرة

            عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
            جزاكم الله خيراً ونفع بكم
            وبارك الله فيكم

            تعليق


            • #7
              رد: القرآن بعد الهجرة

              اللهم آمين وإياكم

              "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
              وتولني فيمن توليت"

              "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

              تعليق

              يعمل...
              X