القرآن بعد الهجرة
نزل القرآن في عهدين متمايزين: العهد المكي، وهو ما قبل الهجرة، والعهد المدني، وهو ما بعد الهجرة.
فكما أن هجرة الرسول - صلوات الله عليه - إلى المدينة كانت حدًّا فاصلاً في تاريخ الإسلام بين عهدين،
كانت كذلك حدًّا فاصلاً في القرآن الكريم بين أسلوبين.
على أن القرآن كله مَصوغٌ في أسلوب بلاغي لا يُضارَع، وفي فصاحة من النَّظم لا تُبارى؛
لأنه في صياغته يتناسب مع موضوع الخطاب، ويتلاءم مع نفسيات المخاطَبين، متدرِّجًا مع الأحداث، متطابقًا مع الأحوال الاجتماعية، والسياسة التشريعية.
فمَن نظر في القرآن الكريم نظرة شاملة جامعة، وجده مرآةً صادقة للأحداث التي مرَّتْ على الإسلام،
وسجلاًّ محفوظًا للأزمات التي صادَفها الرسول في نشْر دعوته، وصورةً دقيقة للمنهج القويم الذي سلكه في هدايته،
وللتدرج الحكيم الذي اتَّخذه في تشريعه؛ بل هو مَيدان فسيح للتحليل النفسي الذي يكشف عن سِر بلاغة القرآن، وسحر بيانه، ومَناط إعجازه.
لذلك كان على من يريد تفسير القرآن تفسيرًا صحيحًا، أن ينظر إلى المنزَّل عليه القرآن، والمخاطَب به،
والموضوع الذي تناوله؛ حتى يستطيع أن يدرك أسرارَ أسلوبه، وخصائصَ تعبيره، ودقائقَ نظمه.
جاء في الإتقان[1] عند الحديث على أخطاء المفسرين ومواطن زَللهم: "أكثر ما يقع في التفسير الخطأ من وجهين:
أحدهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمْل ألفاظ القرآن عليها.
والثاني: قوم فسَّروا القرآن بمجرد ما يَسوغ في لغة العرب، من غير نظر إلى المتكلِّم بالقرآن، والمنزَّل عليه، والمخاطَب به".
فالمخاطبون في المدينة يختلفون عن المخاطَبين في مكة فصاحةً وعقليَّة، وخُلُقًا وبيئة،
والموضوعاتُ التي تتناوَلها السُّور المدنية تختلف عن الموضوعات التي تناولتْها السُّور المكية،
ونفسيَّةُ الرسول - صلوات الله عليه - في المدينة غيرها في مكة.
لهذا كله؛ كان للقرآن المدني أسلوب له خصائصه ومميزاته، عن القرآن المكي الذي له أسلوبه وخصائصه؛ وفي كلٍّ إعجازٌ وسحرُ بيان، وجمال نَظْم، يدل على أنه ليس في طاقة البشر، وإنما هو: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].
فأهل مكة كانوا يومذاك أهل شِرك وعبادة أوثان، وأهل رياسة وسيادة، ديدنُهم العناد، وخُلُقُهم الغطرسة والجَفوة، وعقولهم في الدين مُقفَلة، وطِباعهم في الجدل جافة، جامدين في تقليدهم، واقفين عند كبريائهم وطغيانهم، ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ [البقرة: 170]، ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴾ [ص: 5 - 7].
وكانت موضوعات السور المكية جُلها في أصول الأحكام الاعتقادية؛ من الإلهيات، والوحي، والرسالة، والبعث،
والجزاء، ويلي ذلك فيها أصول التشريع الإجمالية العامة، والآداب والفضائل الأساسية، ويتخلَّل هذا وذاك محاجَّة المشركين
ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول، وإبطال ضلالاتهم، ومُحاربة خرافاتهم.
وكان الرسول - صلوات الله عليه - في مكة حَرَجًا صدرُه، حزينةً نفسُه؛ من طول المعارضة، واستمرار العِناد، وتوالي التكذيب، ولحرصه على نجاة قومه من ضلالهم، وتخليصهم من عبادة أصنامهم؛ ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]، ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [الحجر: 97].
لذا جاء القرآن المكي يُخاطبهم صريحًا واضحًا سهلاً، في أسلوب فطري وجداني؛ ليصل إلى قلوبهم القاسية، وعقولهم المُغلَقة.
فكانت السور المكية تارة تُنذِرهم، فتذكِّرهم بيوم الفصل، وبالصاخة تجيئهم، وبالقارعة تَحُل بهم،
ثم تصِف لهم سقر وزبانيتها؛ ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ [المدثر: 26 - 30].
وتارة تصف الجنة ونعيمها، وحدائقها وأنهارها، وبين هذا وذاك يَجذِب القرآن أنظارَهم إلى ما ألِفوه من مشاهد الطبيعة،
الدالة على قدرة الله وعِظم آلائه، وجليل آياته؛ ليتدبَّروا فيَصِلوا من ذلك إلى ألوهيته، ويدركوا حقيقة وحدانيته.
يسوق القرآن المكي كلَّ ذلك في أسلوب مسجوع قصير، وموسيقا لفظيَّة ساحرة، وجُملٍ متّزِنة مزدوجة،
في صيغٍ مؤكَّدة بالقسم الذي درَجوا عليه في تعابيرهم، وألِفوه في مخاطبتهم؛ ليكون ذلك أبلغَ أثرًا في نفوسهم، وأعمقَ فعلاً في وِجدانهم.
ثم يضرب لهم الأمثال بالأمم الغابرة التي كانت أشدَّ منهم قوةً، فأخذهم الله بذنوبِهم، وأهلكهم بظلمهم، وعصيانِهم خالِقَهم؛ ليوقِظ من وراء ذلك التهديد قلوبَهم، ويُحيي بصارم هذا الوعيد ميت وجداناتهم؛
﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ *
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 100 - 102].
﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾ [القمر: 43].
تعليق