إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

شبهات حول القرءان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [حصري] شبهات حول القرءان




    دأب أصحاب الباطل قديمًا وحديثًا على إثارة الشبهات حول الإسلام عمومًا، وحول القرآن على وجه الخصوص؛ لأنه الأصل الأول للتشريع، والمرتكز الأساس لدين الإسلام، وبالتالي فإن التشكيك فيه تشكيك في الشريعة، وهدم لأصل الملة.

    ومن الشبه التي أثيرت حول القرآن، شبهة تقول: إن الرسول قد أسقط عمدًا، أو نسي آيات من القرآن؛ وبالتالي فإن القرآن الذي يتداوله المسلمون اليوم، ليس كل القرآن الذي أوحاه الله لرسوله عن طريق جبريل.

    وقد اتكأ أصحاب هذه الشبهة، في تأييد شبهتم على آية من القرآن، وحديث من السنة؛ أما الآية فهي قوله تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا: {
    سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ ﴿٦ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } (الأعلى:6-7)؛ وأما الحديث فقول الرسول -وكان قد سمع قارئاً، يقرأ من الليل في المسجد-: (يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية، أسقطتها من سورة كذا وكذا)، متفق عليه.

    وقد فهم أصحاب هذه الشبهة من الآية والحديث، أن الرسول قد أسقط بعض الآيات من القرآن عمداً، أو على الأقل نسيها؛ الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد، بأن القرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم ناقص غير تام -وَفْق فهمهم-؛ بدليل الآية والحديث!!

    ولا شك، أن القراءة المغرضة للنصوص، والفهم السقيم لها، هما اللذان دفعا للقول بهذه الشبهة؛ أما القراءة المنصفة للنصوص، والفهم الصحيح لها، فلهما شأن آخر؛ إذ غايتهما طلب الحقيقة، ووجهتهما الوقوف مع الحق حيثما كان. وعلى هذا الأساس نجري الحديث حول الآية والحديث، لنقف على صواب القول فيهما.

    أما الآية الكريمة، فالحديث عنها يستدعي الحديث عن جانبين؛ الأول: يتعلق بقوله تعالى: {
    فَلَا تَنسَىٰ}، والجانب الثاني يتعلق بقوله تعالى: { إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ ۚ}.

    والحديث عن الجانب الأول من الآية، محصور في (لا)، الداخلة على فعل النسيان؛ فقد أراد أصحاب هذه الشبهة أن تكون (لا) هذه ناهية، وبالتالي يكون معنى الآية نهي للرسول أن ينسى شيئًا من القرآن، وما دامت الآية واردة في سياق النهي، فمدلول هذا النهي، أن النسيان أمر وارد على الرسول، وما دام الأمر كذلك، فليس من المستبعد، أن يكون الرسول قد نسي شيئًا من القرآن الموحى إليه، وبالتالي، وجود نقص في القرآن!

    والذي يردُّ هذا الفهم للآية أمران:

    أولهما: أن الذي ذهب إليه جمهور أهل التفسير -وهم المرجع في هذا الشأن-، أن (لا) في الآية ليست هي (لا) الناهية، وإنما هي (لا) النافية، وشتان ما بينهما؛ فالأولى تفيد النهي، والثانية تفيد النفي؛ والآية على هذا، لا تنهى الرسول عن نسيان شيء من القرآن؛ وإنما على العكس من ذلك، تخبر وتعد الرسول، بأن الله سيقرئه قراءة لا ينساها أبداً.

    ثانيًا: أن (لا) في الآية لو كانت ناهية، لكان الواجب والمتعين حينئذ حذف حرف العلة من آخر الفعل بعدها، ولكان المقتضى أن تكتب هكذا (فلا تنسَ)، لكنه في الرسم القرآني جاء حرف العلة مثبتًا، فكان في ذلك دلالة على أن (لا) في الآية ليست هي (لا) الناهية، وإنما هي (لا) النافية.

    وإذا جارينا القول بأن (لا) في الآية هي (لا) الناهية، فإن معنى الآية يبقى مستقيماً، ولا يفهم من الآية، ما فهمه أصحاب هذه الشبهة؛ إذ يكون نهي الله لرسوله بعدم النسيان، إنما يراد منه المواظبة على الأسباب المانعة من النسيان، وهي الدراسة والقراءة.

    أما الحديث عن الجانب الثاني من الآية، فمحصور في قوله تعالى: {
    إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ ۚ}، فالاستثناء في الآية استثناء صوري لا حقيقي، بمعنى أن الاستثناء في الآية لا يراد منه حقيقة الاستثناء، والذي هو استثناء شيء من شيء، وإنما هو استثناء من حيث الشكل، كقول الرجل لصاحبه: أنت شريكي فيما أملك، إلا ما شاء الله؛ فهو لا يقصد استثناء شيء؛ والذي يرشد إلى أن الاستثناء في الآية صوري لا حقيقي أمران:

    أحدهما: ما جاء في سبب نزول الآية، وهو أن النبي كان يُتعب نفسه بكثرة قراءة القرآن، حتى وقت نزول الوحي؛ مخافة أن ينساه ويفلت منه، فاقتضت رحمة الله برسوله أن يطمئنه من هذه الناحية، فنـزلت هذه الآية، كما نزلت آية: {
    لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } (القيامة:16-17).

    ثانيهما: أن قوله تعالى: {
    إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ} علق وقوع النسيان على مشيئة الله، وتلك المشيئة لم تقع، وبالتالي فإن النسيان لم يقع من الرسول؛ والدليل على أن المشيئة لم تقع، قوله تعالى: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }، فقد دلت هذه الآية على أن الله، تكفل بحفظ القرآن في الصدور، وجمعه في السطور، ومؤدى الآية وفحواها يتنافى مع وقوع النسيان من الرسول؛ فدل ذلك على أن مشيئة الله في أن ينسي النبي شيئًا من القرآن، لم تقع.

    فإن قيل: إذا كان الاستثناء في الآية ليس على الحقيقة، فما معنى مجيئه إذن؟ فالجواب: أن الغاية من ورود الاستثناء في الآية على النحو المذكور، أن يعلم المخاطبون بالقرآن، أن عدم نسيان الرسول الذي وعد الله به نبيه، إنما هو محض فضل من الله وإحسان، ولو شاء سبحانه أن ينسيه شيئًا منه لأنساه؛ ومثل هذا الاستثناء، ما جاء في قوله تعالى في حق أهل الجنة: {
    وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } (هود:108)، فالاستثناء في هذه الآية أيضًا ليس على حقيقته، وإنما جيء به لبيان فضل الله على أهل الجنة، وأن دخولهم الجنة، إنما كان بفضل منه ورحمة، وأنه لو شاء سبحانه لما أدخلهم الجنة.

    ثم على فرض القول: إن الاستثناء في الآية حقيقي -وهو مذهب بعض المفسرين-، فإن الاستثناء ينبغي أن يفهم هنا على أحد أمرين؛ أحدهما: أن يُقصد منه نسخ تلاوة بعض الآيات، فإن نسخها يستدعي نسيانها؛ حيث إن بعض الآيات القرآنية قد نزلت على الرسول، وقرأها على الناس، ووعاها الصحابة، ثم نُسخت تلاوتها، وبالتالي فإن النسخ قد يستدعي النسيان لها، لعدم القراءة بها؛ ثانيهما: أن يقصد منه النسيان الطارئ والمؤقت بعد تبليغه للناس، ثم يقيض الله له من يذكره بها، كما جاء في الحديث موضع الشبهة.

    أما استدلالهم بالحديث على إسقاط النبي شيئًا من القرآن، فمردود من ثلاثة أوجه:

    أولها: أن قول الرسول في الحديث: (أسقطتهن)، ليس المراد منه الإسقاط المتعمد، كما فهم ذلك أصحاب هذه الشبهة، بل المراد منه النسيان؛ والذي يرشد إلى أن المراد منه ما ذكرنا، ما جاء في رواية ثانية للحديث، وهي قول الرسول: (أُنسيتها)، متفق عليه؛ فهذه الرواية توضح وتصرح أن المقصود من الإسقاط هو النسيان، وليس الإسقاط المتعمد.

    ثانيها: أن نسيان الرسول الوارد في الحديث، ليس نسيان ضياع وفقدان، وليس كذلك إسقاطًا لشيء من القرآن؛ يرشد لهذا، أن ما نسيه الرسول من آيات قرآنية، كان قد حفظها، وبلغها لأصحابه، وبينها لهم، فحفظوها ووعوها وكتبوها وبلغوها؛ فعلى فرض نسيان الرسول لها، فإن في حفظ الصحابة لها، وتلقيهم إياها، وتدوينهم لها في مصاحفهم، ما يدل على أن القرآن بمجموعه قد حفظه الله، بما هيأه له من أسباب الحفظ.

    ثالثها: أن النسيان الوارد في الحديث، ليس نسيانًا دائمًا لشيء يتعلق بأمور التبليغ، وما يتبع ذلك من أحكام وتكاليف شرعية، وإنما هو نسيان طارئ، كالذي يعرض لكل البشر، لكن سرعان ما يزول هذا النسيان الطارئ، ويعود الإنسان إلى تذكر ما كان قد غاب عن ذاكرته؛ فالحديث -برواياته المتعددة- لا يفيد أن الآيات التي قرأها الرجل أمام الرسول، كانت قد محيت من ذاكرة الرسول، ولم يعد يذكرها، ولم يبلغها للناس قبل ذلك؛ بل غاية ما يفيده الحديث، أن تلك الآيات كانت غائبة عن ذاكرته في ذلك الوقت، وأنه لم يكن يتذكرها في تلك اللحظة التي كان يقرأ فيها ذلك الرجل، لكن بعد أن قرأها تذكرها الرسول؛ ومن المعلوم لكل ذي عقل سليم، أن غيبة الشيء عن الذاكرة، والغفلة عنه، لا يعني محوه منها؛ والدليل على هذا واقع الناس؛ فإن الإنسان بطبعه قد يغيب عنه النص أحيانًا، إذا اشتغل الذهن بغيره، وهو يدرك -في الوقت نفسه- أن النص مخزون في ذاكرته، يستحضره إذا ما احتاج إليه، أو ذُكِّر به، وسوف يتذكره ويسترجعه للذاكرة عند الحاجة، فهذا أمر معروف من طبيعة البشر، ومعهود من كل إنسان، وما كان من نسيان الرسول فهو من هذا الباب. مع فارق مهم هنا، نبه عليه أهل العلم والتحقيق، وهو أن النسيان؛ إما أن يكون في الأمور التي تدخل في باب التبليغ والوحي، وإما أن يكون في الأمور التي لا تدخل في باب التبليغ والوحي؛ فأما نسيان ما هو من باب التبليغ والوحي، فلا يقع نسيانها من الرسول قبل تبليغها؛ لأن ذلك مما يتنافى مع مهمة البلاغ التي بُعث الرسول لأجلها، والتي أمره الله بها؛ وقد يقع منه النسيان بعد تبليغها، لكن لا يستمر منه ذلك النسيان، إذ سرعان ما يعود إلى ذاكرته، ما كان قد نسيه؛ وأما نسيان ما لا يدخل في باب التبليغ والوحي، فهذا الرسول والناس فيه سواء.

    وبالإضافة لما تقدم من أدلة تفصيلية، تنقض ما تعلق به أصحاب الشبه بخصوص الآية والحديث، يمكن نقض هذه الشبهة بدليلين إجماليين:

    أحدهما: أنه لا يُعقل من الرسول -وهو المؤتمن على نقل رسالة الإسلام للعالمين- أن يبدل شيئًا في القرآن بزيادة أو نقص من تلقاء نفسه، ولو فعل ذلك لكان خائنًا أعظم الخيانة؛ إذ لا يليق بمن تكون الخيانة وصفًا له، أن يكون رسولاً، يحمل رسالة سماوية للناس كافة.

    ثانيهما: لو أن الرسول كان قد أسقط شيئًا من القرآن، لكان أولى ما يسقطه، الآيات التي تتعرض لشخصه، بما يشبه المؤاخذة والنقد؛ كقول الله: {
    وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب:73)، وقوله أيضًا: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ} (عبس:1)، وما تبع هذه الآية من آيات؛ فهذا وأمثاله كان أولى بالإسقاط والإغفال منه، لو كان الرسول يقوم بشيء مما ينسبه إليه المتقولون.

    وخلاصة الرد على هذه الشبهة أن يقال: إن الآية الكريمة تنفي أن يحصل نسيان من الرسول؛ وهي وعد من الله أكيد، بأن الرسول يقرئه الله فلا ينسى، على وجه التأييد والتأبيد. وإن النسيان الوارد في الحديث لا يعني الإسقاط، كما لا يعني نسيان التبليغ، وإنما هو نسيان غفلة، وغيبة، وعدم تذكر من بعد حفظ، ومن بعد وعي، ومن بعد تبليغ. وهذه صفات بشرية، والرسول بشر، يقع منه النسيان، ويمكن أن يغفل عما حفظ من القرآن؛ لكن هذه الغفلة، وذلك النسيان لا يستمر منه، وإنما سرعان ما يعود ذلك لذاكرته؛ ولا يصح -بحال- أن يوصف النسيان الذي قد يكون من الرسول بأنه إسقاط، أو محو لما ثبت في القرآن، فإن هذا مما يأباه كل عقل سليم، يفقه حقيقة القرآن، ويعلم حقيقة مَن نزل عليه القرآن.


    المصدر منقول
    إسلام ويب

    يتابع بإذن الله

    التعديل الأخير تم بواسطة مهاجر إلى الله ورسوله; الساعة 30-09-2017, 08:08 PM. سبب آخر: تصغير حجم الخط نفع الله بكم
    يا الله
    علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة


  • #2
    رد: شبهات حول القرءان


    التعبير بصيغة المضارع بدل الماضي

    ورد في القرآن الكريم في سياق الحديث عن خلق عيسى عليه السلام، قوله تعالى: {
    إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران:59)، والتعبير بأسلوب: {كُن فَيَكُونُ} ورد في أكثر من موضع في القرآن الكريم في سياقات مختلفة.

    وقد استشكل بعض الناس مجيء الإخبار بصيغة الحاضر {
    فَيَكُونُ} على ما وقع في الماضي، وقالوا: إن مقتضى الكلام أن يقال: (فإنما يقول له كن فكان)؛ لأن الإخبار عن أمر قد وقع وانتهى، لا يصح أن يكون بلفظ المضارع، وإنما بلفظ الماضي.

    وقد أجاب المفسرون على مجيء هذه الآية على هذا الأسلوب، فقالوا:

    إن الآية جاءت بصيغة الحاضر بدلاً من صيغة الماضي، جرياً على عادة العرب في الاستعمال؛ حيث يستعملون صيغة المضارع تعبيراً عن الماضي؛ لاستحضار صورة الحدث، وكأنه يقع الآن. قال ابن هشام في "مغني اللبيب": "إنهم يعبرون عن الماضي، كما يعبرون عن الشيء الحاضر؛ قصداً لإحضاره في الذهن، حتى كأنه مُشاهد حالة الإخبار".

    وعلى هذا الأسلوب جاءت كثير من الآيات القرآنية، غير الآية التي بين أيدينا، من ذلك قوله تعالى: {
    وَاللَّـهُ الَّذِي أَرْ*سَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ} (فاطر:9) فلم يقل سبحانه: (فأثارت) بصيغة الماضي، وإنما قال: {فَتُثِيرُ } بصيغة الحاضر؛ لاستحضار تلك الصورة البديعة، الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب، وكأنها تحدث الآن، حيث تبدو أولاً قطعاً متناثرة، ثم تأتلف وتتداخل فيما بينها، إلى أن تصير ركاماً، ويتشكل منها الماء.

    ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام وفرعون: {
    وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص:5) مع قوله أيضاً: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (القصص:6) فإن (المنَّ) على موسى بالنصر والتأييد قد تم وانتهى، وأصبح من التاريخ والماضي، ولكن جاء الخطاب القرآني بصيغة المضارع { نَّمُنَّ } ليستحضر القارئ صورة النصر والتأييد، وكأن مجريات الأحداث تجري بين ناظريه. وقل مثل ذلك في عاقبة فرعون، حيث جاء التعبير القرآن بصيغة المضارع {وَنُرِيَ}؛ لاستحضار صورة الهزيمة، والعاقبة الوخيمة التي آل إليها أمر فرعون ومن معه.

    ومن الأمثلة الشعرية على هذا الأسلوب، قول الشاعر تأبط شراً، وكان قد دخل في صراع مع ضبع من الضباع، يقول في وصف هذا الصراع:

    بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان

    فأضربها بلا دَهَشٍ فخرت صريعًا لليدين وللجران


    فالشاعر قد ضرب الضبع في الماضي، وضَرْبها قد مضى وانتهى، لكن لما قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على حقيقتها، للتعجب من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة، عبر عن ذلك بصيغة المضارع، فقال: (فأضربها) ولم يعبر بصيغة الماضي: (فضربتها)؛ والذي دعاه للعدول عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع، استحضار تلك الصورة العجيبة، من إقدامه وثباته، حتى كأنهم يبصرونه في تلك الحالة.

    وعلى هذا الأسلوب أيضاً جاء قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

    يُغشون حتى ما تَهِرُّ كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل

    فقد عبر الشاعر عن المعنى الذي يريد إيصاله بصيغة المضارع (تَهِرُّ)، مع أنه يخبر عن أمر قد مضى وانتهى، وما ذلك إلا لبعث الماضي في صورة الحاضر، وتصويره كأنه يحدث الآن.

    وهذا الأسلوب الشائع في لغة العرب، والذي جاء القرآن الكريم على وفقه، إنما يُعمل به إذا عُرف المعنى، ولم يكن هناك التباس وغموض.

    على أن مجيء الآية على هذا الأسلوب وراؤه أمر بلاغي؛ وذلك أن التعبير بصيغة الماضي يفيد الانقطاع والانتهاء، وهذا غير مراد في الآية، حيث جاءت لتبين الكيفية التي خلق الله فيها آدم؛ لأنه لو قيل: (كن فكان) لصدق هذا التعبير على وجود آدم لحظة واحدة من الزمن، ولو كان قد مات لحظة خلقه.

    أما التعبير بصيغة المضارع: {
    كُن فَيَكُونُ } فيفيد الدوام والاستمرار؛ وهذا يدل على أن آدم وجد، واستمر وجوده حتى أنجب ذكوراً وإناثاً؛ لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال، وتستمر في الاستقبال.

    التعديل الأخير تم بواسطة مهاجر إلى الله ورسوله; الساعة 30-09-2017, 08:15 PM. سبب آخر: تصغير حجم الخط نفع الله بكم
    يا الله
    علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

    تعليق


    • #3
      رد: شبهات حول القرءان

      شبهة حول قوله تعالى: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}


      جاء في سورة البقرة في سياق الحديث عن إبراهيم عليه السلام، وقصة بنائه للبيت الحرام، قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (البقرة:124). وقد أورد بعض الناس إشكالاً نحويًا في الآية، وذلك أن قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } جاء فيه الفاعل {الظَّالِمِينَ } منصوباً، وكان المتبادر أن يقال: (لا ينال عهدي الظالمون)! فما هو توجيه الآية الكريمة؟

      هذه الآية قرأها معظم القراء بنصب {
      الظَّالِمِينَ } بالياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، وجمع المذكر السالم ينصب بالياء. وقرأ بعض القراء في قراءة غير متواترة بالرفع (الظالمون) بالواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، وجمع المذكر السالم يرفع بالواو، ويكون { عَهْدِي} على هذه القراءة مفعول به مقدم على الفاعل اهتمامًا به.

      والآية على القراءة الثانية لا إشكال فيها. وهي كذلك على القراءة الأولى؛ فقوله تعالى: {
      لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} جملة مؤلفة من فعل وفاعل ومفعول به؛ أما الفعل فقوله تعالى: {يَنَالُ }، والفعل (نال) كما يقول النحويون، يتعدى لمفعول واحد لا غير، وهو في الآية {الظَّالِمِينَ }، فتعين أن يكون الفاعل هو (العهد) في قوله سبحانه: { عَهْدِي}، وهذا الفاعل مرفوع بضمة مقدرة على ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة لياء المتكلم؛ أما قوله سبحانه: {الظَّالِمِينَ } فهو مفعول به منصوب بالياء؛ لأنه جمع مذكر سالم.

      وإعراب الآية على هذا النحو، هو محل اتفاق بين أهل العلم، بل إن أهل العلم ذكروا هنا أمرًا مهمًا، وهو أن الفعل (نال) يجوز أن يكون فاعله مفعولاً، ويجوز أن يكون مفعوله فاعلاً، على التبادل بينهما؛ فأنت تقول: نال الطالبُ الجائزةَ، ويجوز لك أن تقول: نالت الجائزةُ الطالبَ؛ لأن ما نالك فقد نلته أنت.

      ومعنى الآية على هذه القراءة: لا ينال عهدُ الله بالإمامة ظالماً، أي: ليس لظالم أن يتولى إمامة المسلمين.

      ومجيء الآية على هذا التركيب يفيد معنى مهماً، وهو أن الظالمين ولو اتخذوا الأسباب التي توصلهم إلى نيل العهد، فإن عهد الله وميثاقه يأبى بنفسه أن يذهب لظالم، أو يكون له؛ لأن الأخذ بعهد الله شرف، وهذا الشرف لا ينال الظالمين.

      والآية الكريمة وإن كانت واردة بصيغة الإخبار لا بصيغة الأمر، حيث إنها تخبر أن عهد الله لا يناله ظالم، إلا أن المقصود بهذا الإخبار الأمر، هو أمر الله عباده، أن لا يولوا أمور الدين والدنيا ظالماً. والذي يُرجح أن يكون المقصود بالآية الأمر لا الإخبار، أن أخباره تعالى لا يجوز أن تقع على خلاف ما أخبر سبحانه، وقد علمنا يقيناً، أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرًا من الظالمين.


      التعديل الأخير تم بواسطة مهاجر إلى الله ورسوله; الساعة 30-09-2017, 08:21 PM. سبب آخر: تصغير حجم الخط نفع الله بكم
      يا الله
      علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

      تعليق


      • #4
        رد: شبهات حول القرءان

        وقفة لغوية مع قوله تعالى: { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ}

        في فاتحة سورة التحريم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم معاتباً إياه، بسبب تحريمه على نفسه ما أحله الله له، ومما أنزله عليه في ذلك، قوله تعالى: {
        إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّـهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ} (التحريم:4).

        والآية الكريمة قد يبدو فيها إشكال من جانب اللغة؛ وذلك أن الخطاب في الآية جاء بصيغة التثنية، في قوله: {
        تَتُوبَا} في حين أن المضاف إلى المخاطب قد جاء بصيغة الجمع، وهو قوله تعالى: { قُلُوبُكُمَا ۖ}؛ وقد يبدو للوهلة الأولى، أن الأصح أن يقال: (قلباكما) بصيغة التثنية؛ لأنه يعود على المخاطب وهو مثنى. فكيف أضيف الجمع (القلوب) إلى المثنى ؟ هذا هو وجه الإشكال كما يبدو للبعض.

        وحل ما يبدو من إشكال في هذه الصيغة، إنما يكون بالرجوع إلى لسان العرب، وقواعد اللغة.

        والقاعدة عند أهل العربية في هذا الباب: أن كل جزأين أضيفا إلى صاحبيهما، وكانا مفردين من صاحبيهما -بمعنى أنه لا يوجد لهما ثان من جنسهما، كالقلب، والظهر، والبطن- جاز فيهما ثلاثة أوجه: الأحسن الجمع -وعليه جاءت الآية- ويليه الإفراد، ويليه التثنية، فأنت تقول: (قطعت رؤوس الكبشين) على الجمع، وهو الأفصح والأصوب لغة؛ ولك أن تقول: (قطعت رأس الكبشين) على الإفراد؛ ولك أن تقول أيضًا: (قطعت رأسي الكبشين) على التثنية.

        وهذه القاعدة إنما تنتظم في الأشياء المتصلة، والتي هي جزء من كلٍّ؛ كالرأس من الجسد، والقلب من الإنسان، ونحوهما؛ أما ما كان منفصلاً، ولم يكن جزءاً من كل، فلا تستقيم فيه هذه القاعدة؛ فلا يصح لك أن تقول: رأيت أفراسهما؛ ولا أن تقول: ضربت غلمانهما؛ بل الصواب أن تقول هنا: رأيت فرسيهما؛ وضربت غلاميهما؛ لأن كلاً من الفرس والغلام شيء مستقل بنفسه، وليس جزءاً من كل.

        وبحسب هذه القواعد، أجاب المفسرون على ما يبدو من إشكال في هذا اللفظ، فقالوا: كل شيء يوجد من خلق الإنسان؛ كالرأس، والظهر، والقلب...إذا أضيف إلى اثنين جُمع، فأنت تقول: قبَّلتُ رؤوسهما، وأشبعت بطونهما، وأوجعت ظهورهما؛ فـ (الرأس) و(البطن) و(الظهر) لما أضيفت إلى ضمير التثنية (هما)، جاء المضاف بصيغة الجمع، (الرؤوس، البطون، الظهور)، فقالوا: رؤوسهما، وبطونهما، وظهورهما؛ وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: {
        إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّـهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ}؛ قالوا: وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك، أن يعبروا بلفظ الجمع مضافًا إلى ضمير المثنى؛ لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام، فهما يتبادلان.

        ومما ذكروه من تعليلات في هذا الباب: أن الإتيان بصيغة الجمع دون صيغة التثنية، إنما كان تجنبًا لاجتماع تثنيتين في كلمة واحدة؛ ففي الأمثلة السابقة، يصح أن تقول: قبَّلتُ رأسيهما، وأشبعت بطنيهما، وأوجعت ظهريهما؛ لكن في هذا الاستعمال ثقل في اللفظ، فعدلوا عنه إلى صيغة الجمع، تخلصًا من ثِقَل التلفظ بصيغة التثنية. وهذا أمر معهود في لغة العرب، حيث يعدلون عن استعمال صحيح إلى استعمال أصح منه؛ طلبًا للخفة، وتحريًا لسهولة اللفظ.

        وبما أن القرآن قد نزل بلغة العرب، وعلى وفق لسانها في التعبير والبيان؛ فقد جاء لفظ الآية الكريمة {
        قُلُوبُكُمَا} جرياً على الأفصح من كلامهم، حيث وضع الجمع موضع المثنى، استثقالاً لمجيء تثنتين في كلمة واحدة، كما لو قيل: (قلباكما).

        ومما جاء في السنة النبوية على هذا الأسلوب، قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين رأياه يمشي مع صفية زوجته رضي الله عنها، ولم يكونا يعلمان أنها زوجته: (وإني خشيت أن يُقذف في قلوبكما) متفق عليه، فلم يقل لهما: (قلباكما) بصيغة التثنية، وإنما جاء به على صيغة الجمع، فقال: (قلوبكما).

        وعلى هذا الأسلوب أيضاً، جاء في الشعر قول خطام المجاشعي:

        ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين

        فقد جمع الشاعر في هذا البيت بين مثال التثنية، في قوله: (ظهراهما)؛ وبين مثال الجمع، في قوله: (ظهور الترسين).

        إذن، فاللفظ في الآية سليم مستقيم لا إشكال فيه؛ وفصيح صحيح جار على وفق لسان العرب؛ وإنما الإشكال في عدم فهم كلام العرب، وعدم معرفة أساليبهم في البيان والتبيين.

        التعديل الأخير تم بواسطة مهاجر إلى الله ورسوله; الساعة 30-09-2017, 08:22 PM. سبب آخر: تصغير حجم الخط نفع الله بكم
        يا الله
        علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

        تعليق


        • #5
          رد: شبهات حول القرءان
          شبه
          حول تواتر نقل الصحابة للقرآن

          من الشبه التي يثيرها أصحاب الشبهات زعمهم أن رواية القرآن لم يتوافر في نقلها شروط الرواية المتواترة، إذ إن الصحابة الذين نقلوا القرآن عن الرسول -حسب زعمهم- لم يبلغ عددهم خمسة أو ستة أنفار على أكثر تقدير. وقد دعموا شبهتم هذه ببعض الروايات التي تحصر حفظة القرآن في عهد الرسول بعدد معين، من ذلك ما ثبت في صحيح الحديث، عن أنس بن مالك، قال: (جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار: أُبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) رواه البخاري ومسلم. وروى ابن سعد في "طبقاته" عن الشعبي، قال: (جمع القرآن على عهد رسول الله ستة نفر: أُبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وسعد، وأبو زيد). وفي رواية عند الطبراني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: (جمع القرآن في زمان النبي خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأُبيُّ بن كعب، وأبو أيوب، وأبو الدرداء).

          كما استدلوا على شبهتهم هذه بحادثة بئر معونة، وما جرى فيها من قتل سبعين رجلاً من قرَّاء الصحابة.

          بهذه الروايات ونحوها، استدل أصحاب هذه الشبهة على أن نقل القرآن لم يتوافر فيه شروط النقل المتواتر، ورتبوا على هذا القول، أن روايات القرآن فيها اختلاف وتباين، وفي بعضها نقص، وفي بعضها الآخر زيادة، إلى آخر ما خلصوا إليه في هذه الشبهة.

          وتهافت هذه الشبهة، والرد على القائلين بها، يتبين وفق الآتي:

          - أولاً: أن القرآن كان يتنـزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بالتدرج، وكان يُقرئه صحابته على مهل وتؤدة، كي يحفظوه ويعوه؛ ويُدل لهذا ما صح عن الصحابة أنفسهم، أنهم كانوا يحفظون العشر آيات، فلا يتعدونها وينتقلون إلى غيرها حتى يحفظوها ويعملوا بما فيها؛ فالصحابة بمجموعهم كانوا يحفظون ما ينزل من القرآن، إما تلقًيا مباشرًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما تلقًيا عن بعضهم البعض؛ ويدل لهذا ما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشْغَل، فإذا قدِم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن) رواه أحمد. وهذا الأمر شواهده أكثر من أن تحصى، يعلمها كل من قرأ في كتب الحديث، وطالع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرة صحابته رضي الله عنهم.

          - ثانياً: أن الصحابة جعلوا القرآن في المقام الأول من عنايتهم واهتمامهم، فكانوا يتنافسون في تلاوته وحفظه وفهمه، وكان ذلك دأبهم من ليل أو نهار؛ وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار)
          رواه البخاري ومسلم.

          بل إن الصحابة كانوا يتفاخرون ويتسابقون إلى حفظ القرآن؛ يشهد لهذا ما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه) رواه مسلم؛ وهذه أم هشام بنت حارثة بن النعمان، تقول: (وما أخذت {ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس) رواه مسلم. ومع حرص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الشديد على تلقي القرآن منه وحفظه، فقد كان يشجعهم ويحثهم على تعلُّمه وتعليمه، فكان يقول: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري.

          فتسابق الصحابة إلى تلقي القرآن، ومسارعتهم إلى حفظه والعمل به أمر مستفيض عنهم، لا ينكره إلا مكابر أو معاند.

          - ثالثاً: أن من الثابت تاريخيًّا أن اعتماد الصحابة في حفظ القرآن إنما كان على التلقي والسماع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحفظونه في صدورهم، ومن ثَمَّ كان من خصائص أمة الإسلام حفظ الصدور، فكان جُل الصحابة وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة، وغيرهم من كبار الصحابة، كزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، ومعاذ بن جبل، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، وطلحة، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم كثير من المهاجرين والأنصار، كل هؤلاء كانوا يحفظون القرآن، أو على الأقل يحفظون أكثره؛ ولا شك أن بعضًا من هؤلاء الصحابة كان أكثر قراءة وأعلى من بعض، وعلى هذا يُحمل ما جاء من الروايات التي ذكرت بعض الصحابة دون بعض؛ إذ لا يفهم من تلك الروايات أن من لم يُذكر من الصحابة لم يكن يحفظ القرآن أو شيئًا منه؛ فإن هذا لا يصدقه واقع الصحابة رضي الله عنهم.

          - رابعاً: إذا تبين ما تقدم، فإن الروايات التي حصرت حفظ القرآن وتلقيه بعدد محدد من الصحابة، ليس الحصر مرادًا منها ولا متعينًا فيها؛ وإذا كان الأمر كذلك تعين حملها وفهمها على مقاصد أُخر؛ فإما أن يُقصد منها أنه لم يجمع جميع القرآن عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويأخذه من فيه تلقياً غير ذلك العدد المذكور، والباقي -وهم الأكثر- لم يتلقوه كاملاً عن الرسول؛ وإما أن يُقصد منها أنه لم يجمعه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وينتصب لتلقينه لغيره من الصحابة بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ذلك العدد المذكور، دون أن يعني ذلك أن غير هؤلاء من الصحابة لم يكونوا يحفظون القرآن أو بعضًا منه؛ أو قد يُقصد بذلك الحصر من اشتهر من الصحابة بحفظ القرآن والتصدي لإقرائه أكثر من غيره. أو قد يُقصد بذلك الحصر أنه لم يَجمع القرآن مكتوباً لنفسه إلا هؤلاء المذكورون. فإذا كانت جميع هذه التأويلات يستقيم على ضوئها فهم تلك الروايات وحملها عليها، فلا يسع أحد أن يستدل بها على أن عدد الصحابة الذين نقلوا القرآن كان قليلاً.

          - خامساً: والذي يؤيد هذه التأويلات، أن تلك الروايات جاءت بصيغ مختلفة بعض الشيء؛ ففي بعضها جاء حصر عدد الحفظة بأربعة، وبعضها حصرها بخمسة أو أكثر، كما أن بعضها ذَكَر من بين الحفظة أبا الدرداء، وبعضها ذكر زيد بن ثابت؛ وإذا كان الأمر كذلك لم يلزم منه أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك؛ لأنه يحتمل أن راوي تلك الروايات لم يصل إلى علمه أن سواهم جمعه، فكان مبلغ علمه ما ذكره من الحفظة؛ أو ربما لم يكن حاضرًا في ذهنه حين روايته سوى الذين ذكرهم؛ إذ الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة، وتفرقهم في البلاد أمر يحيل ذلك.

          - سادساً: قد ثبت حفظ جماعات من الصحابة للقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، نذكر منهم عثمان رضي الله عنه؛ فقد ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" عن محمد بن سيرين، قال: قالت امرأة عثمان يوم الدار: (اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيى بالقرآن في ركعة)، ومعلوم أن الإحياء بالقرآن في الصلاة لا يكون إلا لمن كان حافظًا لكتاب الله. وكان أبو عبيدة رضي الله عنه -كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء- معدوداً فيمن جمع القرآن العظيم. وروى الذهبي أيضاً عن أبي المهلب، قال: كان تميم الداري يختم القرآن في سبع -أي في سبع أيام-. وذكر ابن حجر في "الإصابة" عند ترجمته للصحابي عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: هو أحد من جمع القرآن، قال: ورأيت مصحفه بمصر.

          ونقل ابن حجر أيضاً في "الإصابة" عن ابن إسحاق، صاحب المغازي، قال: كان مجمع بن جارية بن العطاف حدثاً، قد جمع القرآن.

          وروى أبو نعيم في "حلية الأولياء" قال: "جمع أبو موسى القراء، فقال: لا تُدخلوا علي إلا من جمع القرآن، قال: فدخلنا عليه زهاء ثلاثمائة، فوعظنا، وقال: أنتم قراء أهل البلد، فلا يطولن عليكم الأمد، فتقسوا قلوبكم". وقد تظاهرت الروايات بأن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم أجمعين، قد جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويكفينا في هذا السياق، قوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر يصلي بالناس) رواه البخاري ومسلم، مع قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) رواه مسلم. فهذه الروايات تدل -بما لا يدع مجالاً للشك- على أن الصحابة الذين جمعوا القرآن، لم يكن عددهم قليلاً، بل كان كثيراً؛ وتدل أيضًا على أن الروايات التي جاءت بذكر بعض الصحابة دون غيرهم من الذين حفظوا القرآن -والتي عوَّل عليها أصحاب هذه الشبهة- لا يراد منها الحصر بذلك العدد المذكور فقط.

          - سابعاً: وعلاوة على ما تقدم، نقول: قد ثبت في "صحيح البخاري"، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود -فبدأ به- وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب)، فهذا الحديث قد ذكر اثنين آخرين من الصحابة، الذين لم يرد لهم ذكر في الروايات التي اعتمد عليها أصحاب الشبهة في شبهتم؛ وأيضًا فقد روى الذهبي في "سير أعلام النبلاء"

          عن ابن سيرين، قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبيٌّ، وعثمان، وزيد، وتميم الداري، فذكر اثنين من الصحابة الذين حفظوا القرآن، ولم يرد لهم ذكر في الروايات التي استند إليها أصحاب هذه الشبهة، وفي هذا دليل آخر على أن الروايات الواردة بهذا الخصوص، لا يراد منها الحصر بالعدد المذكور.

          - ثامناً: قد ثبت في الصحيح أنه قُتل يوم بئر معونة سبعون ممن جمع القرآن من الصحابة، وروي أيضاً أنه قتل في وقعة اليمامة نحو هذا العدد؛ فإذا كان عدد الذين قتلوا من جامعي القرآن يومئذ بهذا الكم، فكيف الظن بمن لم يُقتل ممن حضرها، ومن لم يحضرها، وبقي بالمدينة أو بمكة أو غيرهما؟ وبه يظهر أن واقعة بئر معونة ونحوها من الوقائع، تشهد على خلاف ما يريد أصحاب هذه الشبهة أن يستدلوا به.

          - تاسعاً: ثم يقال أيضًا للذين نفوا التواتر في نقل الصحابة للقرآن: إن تواتر القرآن يختلف عن تواتر الحديث؛ فعند علماء الحديث، من أقسام المتواتر ما يسمى: تواتر الطبقة، ومثَّلوا له بتواتر القرآن، فقد تلقاه جيل عن جيل، فهو لا يحتاج إلى إسناد؛ هذا من جانب، ومن جانب آخر، ليس من شرط التواتر في نقل القرآن أن ينقله كله جمع عن جمع، بل يكفي أن ينقل كل جزء منه عدد يحصل بهم التواتر، وهذا حاصل بلا شك؛ إذ نقله جيل الصحابة إلى من بعدهم، وهكذا إلى أن وصل إلينا على هذه الصفة من النقل، وهو سيبقى كذلك، ينقله جيل عن جيل إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

          - عاشراً: ثم على فَرَض عدم التسليم بكل ما تقدم، فحسبنا أن نقول: إن مجموع الروايات التي ذَكرت مَن جمع القرآن من الصحابة، والتي أتينا على ذكرها في مقالنا هذا -سواء ما احتج به الخصم على مدعاه، أم ما ذكرناه دليلاً لنا- نقول: إن مجموع هذه الروايات تشتمل على خمسة عشر صحابيًّا، وهم: أبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، وأبو الدرداء، وسعد، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وعثمان بن عفان، وتميم الداري، وأبو عبيدة، وعقبة بن عامر، ومجمع بن جارية؛ وهذا العدد -على فَرَض عدم وجود غيرهم- كافٍ لإثبات صفة التواتر في نقل القرآن، ولا عبرة بعد هذا بنفي من نفى صفة التواتر عن الصحابة في نقل القرآن.

          وعلى ضوء ما ذكرناه، يتبين أن الروايات التي استند إليها أصحاب هذه الشبهة لا تدل على أن القرآن لم يحفظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنه لم يجمعه غير أولئك المذكورين من الصحابة، بل الواقع يشهد بخلاف ذلك كما تبين في تضاعيف هذا المقال، وبالتالي يظهر بجلاء بطلان هذه الشبهة وتهافتها من أساسها، ويتبين أيضاً أن نقل القرآن قد توافر فيه شروط النقل المتواتر، ولا يُلتفت إلى كل قول يقول بخلاف ذلك، وصدق الله إذ يقول: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9).


          المصدر

          إسلام ويب
          التعديل الأخير تم بواسطة مهاجر إلى الله ورسوله; الساعة 30-09-2017, 08:25 PM. سبب آخر: تصغير حجم الخط نفع الله بكم
          يا الله
          علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

          تعليق


          • #6
            رد: شبهات حول القرءان


            عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
            جزاكم الله خيرًا أختنا وتقبل منكم

            "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
            وتولني فيمن توليت"

            "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

            تعليق


            • #7
              رد: شبهات حول القرءان

              المشاركة الأصلية بواسطة بذور الزهور مشاهدة المشاركة

              عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
              جزاكم الله خيرًا أختنا وتقبل منكم
              خيرا جزاكم ونفع بكم
              يا الله
              علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

              تعليق


              • #8
                رد: شبهات حول القرءان

                جزاكم الله خيراا

                تعليق


                • #9
                  رد: شبهات حول القرءان

                  عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
                  جزاكم الله خيرًا ،، نفع بكم


                  تعليق


                  • #10
                    عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
                    جزاكم الله خيراً ونفع بكم
                    وبارك فيكم

                    تعليق

                    يعمل...
                    X