وردت في القرآن الكريم آية، قال عنها عليٌّ رضي الله عنه: ما في القرآن آية أوسع منها وقال عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
هي أرجى آية في القرآن إنها قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } (الزمر:53)
ففي هذه الآية يبين سبحانه أنه يغفر ذنوب عباده جميعها.
وبالمقابل وردت آية أخرى يقول الله فيها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء:48)
وفي هذه الآية يخبر سبحانه أنه يغفر كل ذنب إلا الشرك به وأنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده؟
وقد يبدو شيء من التعارض بين الآيتين الكريمتين فقد ذكرت الآية الأولى أن الله يغفر الذنوب جميعًا
في حين أن الآية الثانية نفت أن يغفر الله ذنب من يشرك به فكيف السبيل لإزالة ما يبدو من تعارض بين الآيتين؟
لقد أجاب المفسرون على هذا التعارض الظاهر بين الآيتين بجوابين:
الأول: أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} نص مطلق قيدته نصوص أخرى تبين أن الله يغفر ذنوب عباده أيًا كانت إذا تاب العبد منها من ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (الفرقان:68-69)
فقد بين سبحانه في هاتين الآيتين أن الذي يدعو مع الله إلهًا آخر يلقى العذاب الأثيم والمضاعف والخلود في النار ثم أخبر سبحانه بعد هاتين الآيتين مباشرة أن العبد إذا تاب من كل الذنوب التي ارتكبها بما فيها الشرك به فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه ويبدله بتلك الذنوب حسنات يقول تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الفرقان:70) فأوضحت هذه الآية أن التوبة مكفرة للذنوب بما فيها الشرك وهو أكبر الذنوب.
وقد وردت كثير من الأحاديث التي تخبر أن مغفرة الذنوب بما فيها الشرك بالله، متعلقة بالتوبة منها والإقلاع عنها فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فأنزل الله قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} وقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} رواه البخاري ومسلم.
وهذا الحديث وما شابهه يخبر أنه سبحانه يغفر جميع ذنوب عباده إذا تابوا منها ويشير كذلك إلى أن على العبد ألا يقنط من رحمة الله مهما بلغت ذنوبه،فإن باب الرحمة والتوبة واسع ومفتوح.
فآية سورة الفرقان وهذا الحديث وما شابههما بيَّنا أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} ليس على إطلاقه وإنما مقيد بالتوبة من الذنوب فإذا تاب العبد منها غفر الله ما كان منه ولو كان شركًا أما إذا لم يتب العبد منها فإن عاقبته تكون ما ذكره سبحانه من الخلود في النار.
والجواب الثاني للجمع بين الآيتين أن قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } نص عام خصصته نصوص أخرى تبين أن مغفرة الذنوب متعلقة بالتوبة منها يوضح هذا اتفاق المسلمين على أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن مستحقًا للمغفرة التي تفضل الله بها على عباده،بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}.
ثم إن الآية التالية لآية الزمر تؤكد هذا المعنى فقد جاء بعد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} قوله سبحانه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} (الزمر:54) فهذه الآية دعت العباد إلى الرجوع إلى الله، والتسليم والاستسلام له في الأمر كله لينالوا رضا الله سبحانه وليأمنوا عذابه.
وهذا الجمع بين الآيتين هو الذي ذهب إليه أغلب المفسرين حيث حملوا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} على من مات وهو مشرك بالله ومعنى الآية عندهم: إن الله لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك من الذنوب. وقد جاء في الحديث أن الله سبحانه يخاطب عباده قائلاً:
(يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بذنوب كثيرة، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأبدلتك مكانها مغفرة) رواه الترمذي.
تعليق