بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:-
أساليب القرآن في الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله
للشيخ/ محمود شلتوت
رسَم الإسلام طريق الحياة القويمة للمجتمع المثالي الفاضل؛ إذ أقامه على مبدأ الضمان الاجتماعي الذي به تحيا الأمة ويَقوى المجتمع.
وفي سبيل ذلك المبدأ، أسعل من نفوس المالكين - أرباب الأموال - خلالَ الشُّح والإسراف والترف، وكان للقرآن بعد ذلك من أساليب الترغيب في البذل والترهيب من البخل، وإهمال حق الفقير والمجتمع - ما يملأ قلب المؤمن بمبدأ التضحية، وأنها سبيل الله في بناء المجتمع، بناءً يَكفل للإنسانية سعادة الأولى والآخرة.
وأن أول ما يُطالعنا من تلك الأساليب في القرآن الكريم، هو أننا لا نكاد نجد فيه ذكرًا للإيمان بالله، إلا مقرونًا بالإنفاق في سبيله، وإطعام البائس الفقير؛ فسورة البقرة تبدأ ببيان أوصاف المُتَّقين الذين ينتفعون بالقرآن وهدْيه ويكون منها: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " [البقرة: 3].
ثم تعرَّض لأصول البر الذي يطلبه الله من العباد، ويكون منها بعد الإيمان؛ " وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ " [البقرة: 177].
ويجعل ذلك من دلائل الصدق في الإيمان والتقوى.
وسورة الأنفال تذكر مقومات الإيمان، ويكون منها بعد وجَل القلوب من ذِكر الله، وزيادة الإيمان بآياته؛ " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " [الأنفال: 3]، وتقول: " أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " [الأنفال: 4].
ونرى سورتي النساء والحجرات تَذكران الإيمان، ولا تذكران معه سوى الإنفاق في سبيل الله؛ " وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ " [النساء: 39]، " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " [الحجرات: 15].
هذا أسلوب يضع الإنفاق في سبيل الله في مستوى الإيمان.
وإذا قلَّبنا صفحات القرآن، لم نجده أطلق عنوان العَقبة التي تحول بين الإنسان وسعادته على شيء، سوى إطعام الفقير والمسكين، كما أنه لم يجعل عدم التحريض على شيء من تكاليفه علامة على التكذيب بيوم البعث والجزاء،
وعلامة على عدم الصدق في الصلاة وإقامتها، سوى إطعام المسكين؛ " فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ " [البلد: 11 - 18].
" أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ " [الماعون: 1 - 7].
وهذا أسلوب يضع الإنفاق في سبيل الله، وإطعام الفقير المحتاج - موضع العَقبة والحاجز الذي لا بدَّ من اقتحامه؛ ليصل الإنسانُ إلى سعادته، إن لم يكن بنفسه، فبحضِّ القادرين عليه وإرشادهم إليه، وقد قصَّ الله علينا بعد ذلك أن المجرمين سيسجلون على أنفسهم في الجواب حين يُسألون يوم الدين: " مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ " [المدثر: 42]؟!
سيسجلون مع التكذيب بيوم الدين والخوض في الباطل - إهمال حقِّ الفقير والمسكين؛ " لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ " [المدثر: 43 - 46].
هذه بعض أساليب القرآن في مكانة الإنفاق في سبيل الله، وفي الترهيب من البُخل بحق الفقير والمسكين.
أما أساليب الترغيب في الإنفاق
فحسبنا أن نقرأ فيها الآيات الواردة في سورة البقرة: " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً " [البقرة: 245]، " مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " [البقرة: 261]
"الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " [البقرة: 262]، " وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " [البقرة: 265].
فهذه مكانة الإنفاق في سبيل الله، وهذه عِدَة الله الصادقة لمن يجود بماله في سبيله، وهما كما ترى مكانة وعِدَة لم يَحظَ بهما شيء من التكاليف الإلهية سوى الإنفاق؛ فالصلاة على مكانتها في الدين،
وعلى أنها الركن الذي يلي الإيمان - لا تقع عند الله موقعها إلا إذا دفَعت بصاحبها إلى القيام بحق الفقير والمسكين، وكذلك الصوم والحج، لا نجد لهما في ترغيب القرآن وترهيبه مثل ما وجَدناه للإنفاق في سبيل الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا تنسونا من صالح دعائكم
تعليق