بين يدينا كتاب جدير بالاهتمام،
جاء تحت عنوان "دراسات قرآنية للعلامة أبي الحسن الندوي".
وأصل مادة الكتاب مجموعة من المحاضرات ألقاها العلامة الندوي في أثناء تدريسه لمادة التفسير في ندوة العلماء في الهند، ثم نُشرت تلك المحاضرات على شكل مقالات في العديد من المجلات الإسلامية.
وقد قام الأستاذ سيد عبد الماجد الغوري بجمع تلك المقالات في هذا الكتاب، الذي نحاول تسليط الضوء على خطوطه العامة وفصوله.
تحدث جامع مادة الكتاب بداية عن ملامح من حياة العلامة الندوي
من حيث: اسمه ونسبه وميلاده ونشأته، وجهوده العلمية ونشاطاته الدعوية، وأهم مؤلفاته، ورحلاته، وعضويته للعديد من الجامعات والمجامع.
ثم تحدث تالياً عن إسهامات الندوي في دراسات إعجاز القرآن، ونوَّه بأن الندوي من الذين اشتغلوا بدراسات القرآن الكريم، وأنه كان من أنبغ وأكبر تلاميذ مدرسة القرآن الإيمانية والعلمية والدعوية. وذكر من جملة جهوده بهذا الصدد (التأملات) التي كتبها حول سورة الكهف.
الفصل الأول من هذا الكتاب جاء تحت عنوان: مقالات وبحوث حول القرآن الكريم؛ وقد تضمن ثمانية مقالات، جاءت على النحو التالي:
المقال الأول: بعنوان (الإعجاز القرآني)، تحدث فيه الشيخ عن مجالات الإعجاز القرآني؛ فبيَّن أن القرآن ليس معجزاً في ألفاظه وتراكيبه، وفصاحته اللغوية فحسب، بل إنه معجز في ألفاظه ومفرداته ومركباته ومعانيه وعلومه وغيبياته وحقائقه الأبدية...كما بيَّن فيه أن معجزة القرآن الأولى هي دين الإسلام نفسه؛ من جهة أن الإسلام قدم صحيفة هداية أخيرة للعالم أجمع. أما المعجزة الثانية للقرآن فهي علومه ومعارفه، وأن العلوم الجديدة والكشوف الحديثة تصدق القرآن.
المقال الثاني: بعنوان (شروط الاستفادة من القرآن)، ذكر فيه الصفات التي تعين على فهم القرآن الكريم، ومنها: أن تنشأ في قارئه رغبة صادقة مخلصة لفهمه، والاستماع والاتباع، والخوف، والإيمان بالغيب، والتدبر، والمجاهدة. وذكر لكل صفة من هذه الصفات دليلها من القرآن.
المقال الثالث: بعنوان (موانع الاستفادة من القرآن)، وذكر من تلك الموانع: (الكبر، المجادلة بغير دليل، إنكار الآخرة وعبادة المادة).
المقال الرابع: بعنوان (القرآن يتحدث عن نفسه)، وقد بين في هذا المقال أن القرآن قطعي غير مشكوك في ثبوته، وأنه محكم ومفصل، وأنه فرقان، وأنه مصدر للكتب السماوية السابقة، وأنه يهدي إلى سبل السلام.
المقال الخامس: جاء بعنوان (القرآن الحميد والصحف السماوية في ميزان العلم والتاريخ)، بيَّن في هذا المقال أن الصحف السماوية السابقة على القرآن الكريم كانت هدفاً دائماً للتحريف والتعديل والتغير، وعرضة للضياع والتفرق والاندثار؛ وأقام الأدلة التاريخية على ذلك؛ ثم بيَّن أن القرآن الكريم نقل إلينا بالصدور والسطور نقلاً متواتراً، ونقل أقوال عدد من المستشرقين في صحة ثبوت القرآن الكريم.
المقال السادس: بعنوان (تنبيه القرآن الكريم على تحريفات الصحف السابقة، والفروق الدقيقة بين عقائد الديانات السابقة والفرق الدينية)، عرض فيه الشيخ الندوي ثلاثة أمثلة قرآنية على التحريفات التي وقعت في الصحف السابقة، ثم خلص الشيخ إلى أن الأمور الدقيقة التي ذكرها القرآن عن عقائد اليهود والنصارى، ليس في وسع أي إنسان من البشر الوقوف عليها، ما يدل على أن ما جاء في القرآن الكريم كلام رب العالمين.
المقال السابع: كان بعنوان (بين نظرتين: النظرة القرآنية والنبوية للأمة الإسلامية، ونظرة المسلمين إلى أنفسهم)، بخصوص النظرة الأولى ذكر الشيخ العديد من الآيات التي تدل على خيرية هذه الأمة، ودورها في هذا الحياة؛ أما بخصوص النظرة الثانية، فحاصلها أن المسلمين ينظرون إلى أنفسهم نظرة استضعاف واستصغار، وبالتالي فهو يحثهم على النهوض بواجبهم الإنساني، ويطلب منهم أن يكونوا في موقع المؤثر، وليس في موقع المتأثر. وخلص الشيخ بهذا الخصوص إلى أن "الوضع الديني والخلقي والاجتماعي والسياسي المزري الذي يعيشه العالم اليوم، بل الانهيار الإنساني، والاحتضار المعنوي الذي يعانيه مجتمعنا المعاصر كله تفسير لقوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (الأنفال:73).
المقال الثامن: جاء بعنوان (مطالبة القرآن الانقياد التام والاستسلام الكامل)، ومادة هذا المقال محورها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ . فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:208-209)، وفيه خاطب المسلمين بقوله: يجب أن ترتسم هذه الآية الكريمة على ألواح قلوبكم.
الفصل الثاني من الكتاب جاء تحت عنوان: (نظرات وتأملات في سور القرآن الكريم وآياته) تضمن نحو خمسة وعشرين مقالاً، نذكر منها:
مقال بعنوان: (سورة الفاتحة جمالها، وجامعيتها وتأثيرها في الحياة)، وضح في هذا المقال أن سورة الفاتحة قطعة رائعة من القطع القرآنية البيانية؛ وبيَّن في هذا السياق أن كلمات (المغضوب عليهم، الضالين) تكفي وحدها دلالة على كون القرآن الكريم وحياً إلهيًّا
مقال بعنوان: (نظرات في سورة يوسف)، جاء فيه أن هذه السورة اشتملت على فصول كثيرة من المحنة والبلاء، وبين أن يوسف عليه السلام اتسم بأربع خصال سيطرت على حياته كلها: النزاهة، والاستقامة، وعزة النفس، وعلو الهمة؛ واعتبر أن هذه الخصال الأربع ميراث النبوة، وطبيعة الأنبياء، وأفضل ما يتجمل به الدعاة إلى الله...وهي سلاح الدعوة الماضي، وكنـزها الذي لا ينفد، ومددها الذي لا ينقطع في كل عصر ومصر. وخلص إلى أن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أشبه السير بسيرة يوسف عليه السلام.
مقال بعنوان: (سورة الإسراء وما تضمه من إعلانات تاريخية صارخة)، بسورة الإسراء -بحسب الشيخ الندوي- يُبتدئ عهد جديد في تاريخ الأديان، وفي مصير الأمم؛ حيث تضمنت هذه السورة إعلاناً بانقضاء قيادة بني إسرائيل الدينية والخلقية، وإعلاناً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين، وإعلاناً بتحديد شخصية النبي صلى الله عليه وسلم. وخلص الشيخ إلى أن البعثة المحمدية كانت فاتحة هذا العهد الجديد في تاريخ أمة العرب وفي تاريخ العالم. وحث المسلمين على احتضان هذه الدعوة، والتفاني في سبيلها والإخلاص لها والجهاد في سبيلها من جديد.
مقال بعنوان: (تأملات في سورة الكهف)، وقد تضمن هذا المقال حديثاً مسهباً عن سورة الكهف بقصصها الأربع؛ فبين صلة هذه السورة بفتن العهد الأخير، حيث قرر أن هذه السورة خاضعة لموضوع واحد، ومفتاحها شخصية الدجال. ونبه إلى أن في هذه السورة روحاً تعارض التدجيل وزعماءه، ومنهج تفكيرهم، وخطة حياتهم في وضوح وقوة.
وفيما يتعلق بهذه السورة أيضاً تحدث الشيخ عن دور المسيحية واليهودية في توجيه المدنية ومصير الإنسانية، ورأى أن لهذه السورة اتصالاً وثيقاً بالمسيحية واليهودية، وخلص إلى أن هذه السورة أحاطت بعقيدة الآخرة، وعقيدة الإيمان بالغيب، وعقيدة الإيمان بفاطر هذا الكون، وقدرته المطلقة على كل شيء.
ثم أفرد الشيخ حديثاً مستقلاً لكل قصة من قصص هذه السورة الأربع، وقارن بين ما جاء في القرآن بخصوص هذه القصص، وما جاء بخصوصها في الكتب المتقدمة.
مقال بعنوان: (مظهر الإنسانية الحساسة الضعيفة والنبوة الكريمة القوية)، توقف الشيخ في هذا المقال عند قصة النبي زكريا عليه السلام والسيدة مريم، واستخلص من هذه القصة العديد من الدلالات العميقة، والمعاني اللطيفة.
مقال بعنوان: (مجتمع في فرد وأمة في نفس واحدة)، تحدث فيه عن الآيات الأُوَل من سورة المؤمنون.
كما تضمن الكتاب مقالات حول عدد من قصار السور؛ كسورة الضحى، وسورة الانشراح، وسورة التين، وسورة العاديات، درس كل تلك السور بنَفَس العالم الرباني، وقرر فيها من المعاني والإيضاحات بما يعز وجود مثله في كتب التفاسير المشهورة.
و اشتمل الكتاب على مقالات حول آيات قرآنية معينة؛ فكتب حول آيات الصوم مقالاً، بعنوان: (تشريع الصوم وأسراره). وكتب مقالاً بعنوان: (تشريع الحج والصوم، وبعض حِكَمهما وأحكامهما). وحول قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا} (البقرة:259)، كتب مقالاً بعنوان: (إمكان الانبعاث الديني بعد خمول طويل واضطهاد كبير). وحول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3)، كتب مقالاً بعنوان: (أهمية الإعلان بإكمال الدين ومقتضياته العقلية والمدنية). وحول قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ۖ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل:66)، كتب مقالاً بعنوان: (قصور كبار عقلاء الغرب وفضلائه في علوم الآخرة ومعرفة الله تعالى والحقائق الدينية). وغير ذلك من المقالات التي أمدته معايشته الطويلة لكتاب الله سبحانه إلى الغوص في معانيها ودلالاتها.
وعلى الجملة، فإن المقالات القرآنية التي تضمنها هذا الكتاب حملت إلينا كثيراً من اللفتات والمعاني والإيضاحات القرآنية، التي يستطيع من خلالها المحققون والدارسون للقرآن الكريم أن يستفيدوا منها؛ إذ هي عون لهم على فهم العديد من آيات القرآن الكريم وسوره. ونحسب أن قيمة هذا الكتاب تأتي من هذه الناحية التي أجملنا القول فيها.
الكتاب صدرت طبعته الأولى عن دار ابن كثير، 1423هـ-2002م، ويقع فيما يزيد عن ثلاثمائة صفحة.
تعليق