كل أمة ينبغي لها أن تعرف موقعها على هذه الأرض ومكانها في هذا العالم ومنزلتها بين الأمم، كما ينبغي لها أن ترهف الحس لما يدور حولها ويجري في جنباتها، وتصغي السمع إلى دوي الحوادث وصخب الأيام وأنين الليالي وزئير الأسود وعواء الذئاب، وتفتح الأعين لترى الرعود والبروق والفتن والإحن، وتجلو البصيرة لتميز بين الصديق والعدو، والنافع والضار، والسم والعسل، والخير والشر، حتى لا تؤخذ على غرّة، أو تجرّ إلى حتفها بظلفها،
ولله در القائل:
قدِّر لنفسك قبل الخطوِ موضعها فمن علا زلجًا عن غرة زلقا
وحتى لا تنام في أرض الوحوش أو تسهو في عرين الأسود فتكون القاضية:
ومن رعى غنمًا في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسدُ
فالأيام لا تلهو والحوادث لا تنام والشر لا يهدأ، ولله در القائل:
رُبَّ ركبٍ قد أناخوا عندنا يشربون التمر بالماء الزلال
ثم ضحوا عصف الدهر بهم وكذلك الدهر حال بعد حال
وقد نامت أمم، ولهت أخرى، وأغمضت عيونها عن اللهب الذي يحيط بها، فأكلتها سباع الشر، ومحتها جحافل البغي، وتركت ديارها لتنعق فيها الغربان، وتجري فيها الوحوش الضالة، وصارت مثلاً وعبرة.
وقد مر أحد الشعراء على ديار الأندلس فسأل الديار عن الأيام الخوالي والمرابع النضرة والرجال الكرام فقال:
قلت يوماً لدار قوم تفانوا: أين سكانك العزاز علينا؟
فأجابت: هنا أقاموا قليلاً ثم ساروا ولست أعلم أينا
وقال شوقي يصف ما كان من أمر الأندلس الزائلة:
آخر العهد بالجزيرة كانت بعد عرك من الزمان وضرس
فتراها تقول راية جيش باد بالأمس بين أسر وحبس
ومفاتيحها مقاليد ملك باعها الوارث المضيع ببخس
خرج القوم في كتائب صم عن حفاظ كموكب السفن خرس
ركبوا البحر نعشًا وكانت تحت إبائهم هي العرس أمس
ولهذا أمرَنا القرآن الكريم أن نأخذ العبرة من الأيام والحوادث، ونسمع ونصغي ونفتح الأعين ونُعمل العقول حتى تنجلي الحوادث، ويظهر الحق، ويتم التدبير، ويعد لكل شيء عدته، قال تعالى:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46]،
{أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ}[غافر:21]،
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[غافر:82]،
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:137،138].
من لم تُفِده عِبَرُ أيامه كان العمى أولى به من الهدى، من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما راح به الواعظ يومًا أو غدًا، من قاس ما لم يره بما رأى أراه ما يدنو إليه ما نأى، وهكذا يجب أن يفتح المسلم المعاصر قلبه وعينه وحسه ليعرف في أي جو يعيش، وأي وسيلة تنجيه من تربص المتربصين، ومن عصابات الضلال والبهتان، وأي طريق يتحتم عليه أن يسلكه إن أراد لنفسه حياة كريمة، ورغب السير الحقيقي على الأرض بسلامة وقوة وأمان. وقد رأينا القرآن في بدء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم - كرماً من الله وفضلاً - يخبره بما يبيت القوم له، وليكون هذا دستورًا يسير عليه فيما بعد ليحذر المنحرفين والمبطلين، يقول تعالى:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30].
وهكذا يكون شأن المجرمين في كل زمان ومكان، لا يهدأ لهم بال، ولا ترتاح لهم نفس إلا بزوال الحق، وصدق الله:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[الأنعام:123].
وهكذا لا تسلم نفوس الظالمين من الخبث والتآمر والبغي على الحق، وعلى الطهر وعلى رجال الدعوات، وعلى الشعوب الناهضة وعلى أهل الخير والإصلاح، وعلى الرسالات والحضارات السامية العظيمة، ولكن أنى لهم؟ فأين يذهبون عند شموخ الحق، وعند وعي القائمين عليه والمبلغين رسالته وعناية الله معهم؟ وصدق الله:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ . وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}[محمد30،29].
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه:
«ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه»،
وفي الأثر: «ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر».
وهكذا المؤمن لابد أن يكون قوي الملاحظة، شديد الفراسة، واسع المعرفة، يقظ الإحساس، ينظر بنور الله ليعرف من لحن القول ومن سيماهم وأحوال الحاقدين والظالمين ما يأخذ منه حذره، ويعد له أمره، حتى يرد المكر على أهله، والبغي على أصحابه
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ . فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ . فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[النمل:52،51،50].
نسأل الله الهداية والتوفيق.. آمين.
المصدر
موقع قصة الإسلام
تعليق