(هل في القرآن أعجمي؟)
هذا السؤال هو عنوان كتابِ اليوم، والاسمُ الكامل الذي نقرؤه مدونا على الكتاب هو: “هل في القرآن أعجمي؟ نظرةٌ جديدةٌ إلى موضوعٍ قديم”.
إنه كتابٌ من تأليف الدكتور علي فهمي خشيم أستاذ الفلسفة وتفسير الحضارة بجامعة الفاتح في طرابلس. وقد صدر عن دار الشرق الأوسط سنة سبع وتسعين وتسعمائة وألف للميلاد، ويتألف من 208 صفحات.
إن المُعَرَّبُ والدخيلُ والمولَّد قضايا حازت اهتماما كبيرا في الدراسات اللغوية القديمة والحديثة، وانقسمت الآراء حولها إلى قسمين:
القسم الأول يرفض القول بورودِ لفظٍ غيرِ عربيّ في القرآن، ويقول إن كل ما في القرآن عربي تماما، وإن ما نظن أنه أعجمي هو عربي في أصله وانتقل إلى اللغة الأخرى، وربما فقدنا جذرَه فيما فقدنا من جذور الكلمات القديمة خاصة.
عرض: شروق محمد سلمان
القسم الثاني يقبل ورودَ اللفظ غير العربي في أصله، ولكنه يرى أنه دخل العربيةَ وخضع لقوانينها فعُرِّبَ وصار جزءا من لغة العرب، فيوصَف بأنه عربيٌّ بناءً على وضعه الجديد ولا اعتبار لماضيه الذي تغير عنه، وهذه الألفاظ لا تخرِج القرآن عن عروبته لأنها جزء من العربية.
ويرى المؤلف أن سبب الخلاف يتركز في فهم كلمة (عربي) التي يوصف بها القرآن مقابلا لوصف (أعجمي) فقد فُهمت كلمةُ عربي باعتبارها نسبة إلى أمة العرب ولغتِهم بتحديد قومي لغوي، وما عداه فهو أعجمي.
ولكن كلمة (عربي) معناها: الواضح الجلي غيرُ الغامض، نسبة إلى الجذر (عَرَبَ) أي بدا وظهر، وليس هناك ما يمنع أن يكون المراد في الآيات هو الوضوح، بل إن مما يؤيد ذلك كلمة مبين التي تلي وصف القرآن بأنه عربي في مثل قول الله تعالى:
(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195) (الشعراء)
كما يدل على ذلك وصف القرآن بأنه عربي وأن ذلك سبيل لتعقله كما في قول الخالق عز وجل:
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) أي أنه كلام واضح بيِّن لكي يعقلَه سامعُه.
وما يؤيد هذا أيضا أن كلمة أعجمي تعني الإبهامَ وعدمَ القدرة على البيان، فيكون مقابلا لكلمة (عربي) بمعنى الوضوح والبيان. قال الله تعالى:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل:103)
أصل واحد
لقد جمع بعض العلماء والباحثين ألفاظا قرآنية اعتبروها غيرَ عربية، ورتبوها حسب الأصول التي ظنوا أنها منها، فقالوا إن بعضَها حبشي وبعضَها نبطي، وبعضَها سرياني أو عبري.
ينتقل بنا المؤلف إلى الدراسات الحديثة لنرى أنه قد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن ما يسمى مجموعةَ اللغات السامية (ويفضل الكاتب أن يسميها اللغاتِ العروبية) كانت لغةً واحدة في الأصل، أما التقسيمات من جنوبية وشمالية وشرقية وغربية وسريانية وحبشية ونبطية، فلا تعني أنها منفصلة بلا رابط. فكل هذه اللغات تصدر عن منبع واحد، والمتفق عليه أن اللغة العربية تمثل هذه الساميات خيرَ تمثيل.
وبناء على ما تقدم فإن تلك الألفاظ التي جُمِعَت ووصفت بأنها أعجمية، هي بلا جدال ألفاظٌ عربية أو عروبية.
لقد كان النبط عربا كما كان السريان الآراميون، وكما هو قسمٌ كبير من الأحباش بتأثير الهجرات العربية، فهناك كثير من الألفاظ المشتركة بين هذه اللغات.
ويقول المؤلف: فبتتبع الجذور اللغوية الأولى للألفاظ العربية التي يُدعى أنها أعجمية ومقارنتها بالكشوفات الحديثة للغات العروبية السامية يمكننا العودة بها إلى أصولها الأولى العربية الخالصة.. وهذا واجب يحتاج إلى فريق عمل مزود بالمعرفة الشاملة لمجموعة هذه اللغات أو اللهجات وبصبر كثير حتى يتحقق أنه لا عجمة في كتاب الله العزيز وإنما هو نزل بلسان عربي مبين.
حقائق تاريخية
والمتتبع لهذا الموضوع سوف يتبين مجموعة من الحقائق البينة منها، أن القولَ بعُجمةِ لفظ من ألفاظ العربية عند الأقدمين لم يكن مبنيا على البحث والدرس والعلم بلغاتٍ غير العربية، وإنما كان مبنيا على الظن والتوهم. وعندهم أن كل كلمة لم يُشتَهر فيها استعمال جاهلي دخيلة، وإذا كانت دخيلة فهي عند أحدهم فارسية، وعند آخر عبرانية، أو سريانية، أو حبشية، ولم يهتدوا إلى أن بين العربية والعبرانية والسريانية والحبشية ولغاتٍ أخرى علاقاتٍ تاريخيةً وقراباتٍ لغوية مردُّها الأصولُ (السامية) الأولى التي دل عليها البحث الحديث.
فإذا تعمقنا في مسألة أصول الألفاظ ونشأتها فإن الدراسة المتمعنة تثبت أن (الأعاجم) هم الذين أخذوا عن العربيةِ ألفاظَها وليس العكس. فالفرس مثلا كان وجودُهم بعد وجود العرب البابليين (أكاديين أو آشوريين) بزمن مديد، وما من ريب في أن لغة بابل كانت عربية، أو عروبية أو سامية حسب التعبير المتداول، وهم كانوا أسبق حضارة وأغنى لغة، وأكثر لفظا دالا على المدنية.
لقد كانت الأمة العربية في جزيرة العرب التي كانت مصدر الأفواج البشرية وخزانها الهائل على مر التاريخ والأقطار العربية من الرافدين والشام ومصر وشمالي إفريقيا كانت على مدى التاريخ منذ أقدم عصوره تمثل كتلة بشرية واحدة ذاتَ لغة واحدة وإن تعددت لهجاتها وتطورت دلالة ألفاظها. وحين نزل القرآن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كانت تلك اللغة المشتركة في قمة اكتمالها وذِروةِ نموها فعبرت تعبيرا كاملا ودقيقا عن محتويات الأحكام والعبادات بلغة معجزة وأسلوب لا يجاريه أسلوب قط. ولم تكن بحاجة إلى الاستعارةِ أو الأخذ أو النقل، فقد كانت هي النبع الذي صدرت عنه بقيةُ الألسن واللغات المحيطة بها على مر الزمان، وبذا كان هذا الكمالُ المعجز في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كلمة “إبريق”
في الفصل التالي من الكتاب يتتبع المؤلف أشهر الألفاظ التي قيل إنها أعجمية، ويبين عروبتَها استنادا إلى ما تقدم من البحث عن أصلها في اللغات العروبية.
وقد اخترنا لكم ثلاثَ كلمات هي: إبريق ورقيم وكافور، لنتعرف إلى أسلوب المؤلف في رد الألفاظ إلى العربية.
إبريق: قيل إن الكلمة تعريب للفظ الفارسي (آبريز) بمعنى جرة أو دلو، لكن معناها الحرفي هو: طريق الماء أو صبّ الماء.
ويرى المؤلف أن الكلمة عربية وذلك من وجهين: الأول أن الكلمة مأخوذة من (بَرَقَ) العربية، والبرقُ نفسه فيه مخيلة صب الماء، كما أن العرب تقول: برَقَ الطعامَ يبرقه إذا صب فيه الزيت، والبريقة هي اللبن يصَبّ عليه الماء أو سمن قليل. وتقول العرب: أبرقوا الماء بزيت.. أي: صبوا عليه زيتا قليلا. ولما كان الإناء الذي يصب منه الماء مصنوعا من خزف أو معدن فإن البريق حاصل.. فيكون اشتقاق لفظ الإبريق من (بَرَق) أقربَ من الأصل الفارسي.
والوجه الثاني لعروبة الكلمة هو أن (آبريز) التي يقولون إنها أصل الإبريق هي نفسها عربية، وبيان ذلك أن اللفظ مكون من كلمتين (آب = ماء) و(ريز = صب).
و(آب) هذه نجدها في العربية في مادة (أبَبَ)، وتقلب الهمزة عينا فتصير عباب، وهي كلمة معروفة في العربية. ونجدها في الحبشية (أبابي)، وفي الأكادية (أبوبو) ومعناها ماء غزير، وفي المصرية القديمة (إبت) بمعنى ماء طهور. فهذه الكلمة تكاد تكون في كل اللغات العروبية ولا يجوز حصرها في لغة واحدة، بل إن قِدم اللغات العروبية يعني أنها عربية الأصل ثم انتقلت إلى الفارسية.
أما كلمة (ريز) فإنها متحولة من الخاء (ريخت). ونجد في العربية مادة (رَيَق) ومنها راق الماء بمعنى انصب، ومنها راق الشراب: أي جرى وتضحضح فوق الأرض.
وهكذا يثبت المؤلف عروبة الكلمة بإعادتها إلى جذر لغوي عربي من جهة، وبإثبات عروبة الأصل الذي أخذت منه وزعمت عُجمتُه.
الرقيم والكافور
مع كلمة أخرى من الكلمات التي تُدّعى عجمتها، نتوقف عند كلمة رقيم التي جاءت في سورة الكهف: “أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً” (الكهف:9) فقد قال كثير إنها يونانية، وهي في الواقع من الجذر العربي (رَقَم) الذي يعني الكتابة، ومنه الرقْم والترقيم. والدليل على أصالة هذا الجذر في العربية أن ثنائية (رق): إذا ثلثت أفادت المعنى ذاته تقريبا مثل: رقم، رقن، رقش، رقط، رقع.. وغيرها.
ونتأمل في كلمة قرآنية أخرى هي (كافور) التي قيل إنها فارسية، أما معجم الإنجليزية الاشتقاقي فيقول إنها من العربية ولا يعيدها إلى لغة آرية ولا هندوأوروبية، فهل يتخلى عنها أبناؤها العرب؟
والكافور شجر يُظل خلقا كثيرا، وله خشب أبيض هش خفيف جدا، وفي جوفه نجد طِيب الكافور.
ومن هذا التعريف يمكننا بيسر أن نعرف الأصل العربي للكلمة وهو (كَفَر) بمعنى غطى، فالمعنى الأصلي في تسمية هذا النوع من الطيب هو الغطاء حيث قالوا في تعريفه إنه يظل خلقا كثيرا، وإن الكافور يوجد في جوفه تحت الخشب الأبيض، فهو إذن يؤخذ من جوف الشجر أي أنه مادة مستورة مغلفة مغطاة.
ومادة (كفَر) العربية تؤدي ذلك كله، ونقرأ لكم شيئا من لسان العرب في هذه المادة (أصل الكفر تغطية الشيء، والكافر: ذو الكفر، غير المؤمن أي ذو تغطية لقلبه عن الإيمان. وكل من ستر شيئا فقد كفَره وكفّره. والكفّار الزراع لأنهم يغطون البذر المبذور في تراب الأرض).
وكلمة كافور على وزن فاعول وهو وزن عربي صحيح، ومن أصل عربي، فلا يجوز أن يقول أحد بعجمته.
أما إن قال أحد إن كلمة (كَفَر) العربية ليست عربية بدليل وجودها في الانجليزية في (كفر) cover بالمعنى نفسه، أو قال إن كلمة (كفن) أيضا غيرُ عربية لأنها في الإنجليزية أيضا بلفظ Coffin فهؤلاء يقول لهم المؤلف: انظروا أي اللغات أسبق في الزمان وأرسخُ في المكان ثم انظروا مَن يأخذ عمن؟ السابقُ عن اللاحق أم اللاحق عن السابق؟
عجمة مزعومة
في الفصل الأخير من الكتاب يرد المؤلف على كتاب ألفه (أدّي شير) رئيس أساقفة سغرد الكلداني، وسماه (كتاب الألفاظ الفارسية المعربة) حيث يرد الكلمات العربية إلى أصول فارسية، ويقارن باللغات اللاتينية وبقية اللغات الهندية الأوروبية هادفا إلى انتقاص العربية وادعاء ضعفها وعجزها وحاجتها إلى الاستعارة من اللغات الأخرى الأرقى منها في تصوره، والأغنى والأكثر تقدما فيما يتوهم.
فقد أمعن (أدي شير) في القول بالدخيل والأعجمي في لغة العرب، وأكثر من نسبة الاستعارة لها من اللغات الأخرى وهو ما لا نرتضيه وإن أقررنا بوجود ألفاظ مستعارة أو غير خالصة العروبة. ويمضي في الرد عليه حسب منهجه السابق فيورد الكلمة ويبين أصلها، وينفي عجمتها المزعومة.
تلكم كانت جولتنا في رحاب هذا الكتاب الذي يؤكد عروبة ألفاظ لغتنا التي طردها بعض أبنائها وادعوا نسبتها إلى غير العربية، إن هذه النظرة لا يستغرب أن تكون عند من يرى الآخرين أفضل منه ومن لغته، منتقصا من قدر أمته ومن مكانة لغته التي شرفها الله، أما من يستشعر العزة بلغة القرآن، والفخر بأمة الإسلام فإنه لا يقبل ذلك دون بحث وتمحيص، فإن رأى الحق تبعه وإن كان عليه. اللهم فامنحنا تلك العزة، اللهم أعزنا بالإسلام وبالقرآن، واهدنا سواء الصراط وأعنا على صد ما يراد بديننا وأمتنا.
تعليق