اشْتِمَالُ الْفَاتِحَةِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ أَتَمَّ اشْتِمَالٍ، وَتَضَمَّنَتْهَا أَكْمَلَ تَضَمُّنٍ.
فَاشْتَمَلَتْ عَلَى التَّعْرِيفِ بِالْمَعْبُودِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ، مَرْجِعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا إِلَيْهَا، وَمَدَارُهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ: اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ، وَبُنِيَتِ السُّورَةُ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، فَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَالْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ، فَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَالثَّنَاءُ وَالْمَجْدُ كَمَالَانِ لِجَدِّهِ.
وَتَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ الْمَعَادِ، وَجَزَاءَ الْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ، حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا، وَتَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْحُكْمِ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَكَوْنَ حُكْمِهِ بِالْعَدْلِ، وَكُلُّ هَذَا تَحْتَ قَوْلِهِ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] .
وَتَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ النُّبُوَّاتِ مِنْ جِهَاتٍ عَدِيدَةٍ:
أَحَدُهَا: كَوْنُهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ عِبَادَهُ سُدًى هَمَلًا لَا يُعَرِّفُهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ فِيهِمَا، فَهَذَا هَضْمٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَنِسْبَةُ الرَّبِّ تَعَالَى إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ.
الثَّانِي: أَخْذُهَا مِنَ اسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْعِبَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ عِبَادَتِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ.
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: مِنِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ تَمْنَعُ إِهْمَالَ عِبَادِهِ، وَعَدَمَ تَعْرِيفِهِمْ مَا يَنَالُونَ بِهِ غَايَةَ كَمَالِهِمْ، فَمَنْ أَعْطَى اسْمَ الرَّحْمَنِ حَقَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، أَعْظَمَ مِنْ تَضَمُّنِهِ إِنْزَالَ الْغَيْثِ، وَإِنْبَاتَ الْكَلَأِ، وَإِخْرَاجَ الْحَبِّ، فَاقْتِضَاءُ الرَّحْمَةِ لِمَا تَحْصُلُ بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ أَعْظَمُ مِنِ اقْتِضَائِهَا لِمَا تَحْصُلُ بِهِ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَشْبَاحِ، لَكِنِ الْمَحْجُوبُونَ إِنَّمَا أَدْرَكُوا مِنْ هَذَا الِاسْمِ حَظَّ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ، وَأَدْرَكَ مِنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ أَمْرًا وَرَاءَ ذَلِكَ.
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ الدِّينِ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يُدِينُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُثِيبُهُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ أحَدًا قَبْلَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَبِهِمُ اسْتُحِقَّ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَبِهِمْ قَامَ سُوقُ يَوْمِ الدِّينِ، وَسِيقَ الْأَبْرَارُ إِلَى النَّعِيمِ، وَالْفُجَّارُ إِلَى الْجَحِيمِ.
الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: مِنْ قَوْلِهِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فَإِنَّ مَا يُعْبَدُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ شُكْرُهُ وَحُبُّهُ وَخَشْيَتُهُ فِطْرِيٌّ وَمَعْقُولٌ لِلْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، لَكِنَّ طَرِيقَ التَّعَبُّدِ وَمَا يُعْبَدُ بِهِ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِرُسُلِهِ وَبَيَانِهِمْ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ، يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ الْعَالَمِ عَنْهُ، كَمَا يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُهُ عَنِ الصَّانِعِ، فَمَنْ أَنْكَرَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْمُرْسِلَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكُفْرَ بِرُسُلِهِ كُفْرًا بِهِ.
الْمَوْضِعُ السَّادِسُ: مِنْ قَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فَالْهِدَايَةُ: هِيَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ وَالْإِلْهَامُ، وَهُوَ بَعْدَ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، فَإِذَا حَصَلَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالَتَّعْرِيفُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ، وَجَعْلُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَتَحْبِيبُهُ إِلَيْهِ، وَتَزْيِينُهُ فِي الْقَلْبِ، وَجَعْلُهُ مُؤْثِرًا لَهُ، رَاضِيًا بِهِ، رَاغِبًا فِيهِ.
وَهُمَا هِدَايَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، لَا يَحْصُلُ الْفَلَاحُ إِلَّا بِهِمَا، وَهُمَا مُتَضَمِّنَتَانِ تَعْرِيفَ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ مِنَ الْحَقِّ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، وَإِلْهَامَنَا لَهُ، وَجَعْلَنَا مُرِيدِينَ لِاتِّبَاعِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ خَلْقُ الْقُدْرَةِ لَنَا عَلَى الْقِيَامِ بِمُوجَبِ الْهُدَى بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْعَزْمِ، ثُمَّ إِدَامَةُ ذَلِكَ لَنَا وَتَثْبِيتُنَا عَلَيْهِ إِلَى الْوَفَاةِ.
وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ اضْطِرَارُ الْعَبْدِ إِلَى سُؤَالِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِذَا كُنَّا مُهْتَدِينَ، فَكَيْفَ نَسْأَلُ الْهِدَايَةَ؟ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ لَنَا مِنَ الْحَقِّ أَضْعَافُ الْمَعْلُومِ، وَمَا لَا نُرِيدُ فِعْلَهُ تَهَاوُنًا وَكَسَلًا مِثْلُ مَا نُرِيدُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ، وَمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا نُرِيدُهُ كَذَلِكَ، وَمَا نَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَلَا نَهْتَدِي لِتَفَاصِيلِهِ فَأَمْرٌ يَفُوتُ الْحَصْرَ، وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْهِدَايَةِ التَّامَّةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ سُؤَالُ الْهِدَايَةِ لَهُ سُؤَالَ التَّثْبِيتِ وَالْوِئَامِ.
وَلِلْهِدَايَةِ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى وَهِيَ آخِرُ مَرَاتِبِهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهَا، فَمَنْ هُدِيَ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، هُدِيَ هُنَاكَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُوَصِّلِ إِلَى جَنَّتِهِ وَدَارِ ثَوَابِهِ، وَعَلَى قَدْرِ ثُبُوتِ قَدَمِ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَكُونُ ثُبُوتُ قَدَمِهِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمَنْصُوبِ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَعَلَى قَدْرِ سَيْرِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّرَاطِ يَكُونُ سَيْرُهُ عَلَى ذَاكَ الصِّرَاطِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرِّكَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى سَعْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَخْدُوشُ الْمُسَلَّمُ، وَمِنْهُمُ الْمُكَرْدَسُ فِي النَّارِ، فَلْيَنْظُرِ الْعَبْدُ سَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ الصِّرَاطِ مِنْ سَيْرِهِ عَلَى هَذَا، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، جَزَاءً وِفَاقًا {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] .
وَلْيَنْظُرِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنْ سَيْرِهِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهَا الْكَلَالِيبُ الَّتِي بِجَنَبَتَيْ ذَاكَ الصِّرَاطِ، تَخْطَفُهُ وَتَعُوقُهُ عَنِ الْمُرُورِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَثُرَتْ هُنَا وَقَوِيَتْ فَكَذَلِكَ هِيَ هُنَاكَ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
فَسُؤَالُ الْهِدَايَةِ مُتَضَمِّنٌ لِحُصُولِ كُلِّ خَيْرٍ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
الْمَوْضِعُ السَّابِعُ: مِنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِ الْمَسْئُولِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَلَا تَكُونُ الطَّرِيقُ صِرَاطًا حَتَّى تَتَضَمَّنَ خَمْسَةَ أُمُورٍ: الِاسْتِقَامَةَ، وَالْإِيصَالَ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَالْقُرْبَ، وَسَعَتَهُ لِلْمَارِّينَ عَلَيْهِ، وَتَعَيُّنَهُ طَرِيقًا لِلْمَقْصُودِ، وَلَا يَخْفَى تَضَمُّنُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ.
فَوَصْفُهُ بِالِاسْتِقَامَةِ يَتَضَمَّنُ قُرْبَهُ، لِأَنَّ الْخَطَّ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ أَقْرَبُ خَطٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ، وَكُلَّمَا تَعَوَّجَ طَالَ وَبَعُدَ، وَاسْتِقَامَتُهُ تَتَضَمَّنُ إِيصَالَهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَنَصْبُهُ لِجَمِيعِ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ سَعَتَهُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَوَصْفُهُ بِمُخَالَفَةِ صِرَاطِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ يَسْتَلْزِمُ تَعَيُّنَهُ طَرِيقًا.
وَالصِّرَاطُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى اللَّهِ، إِذْ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ وَنَصَبَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] وَقَولِهِ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52] وَتَارَةً يُضَافُ إِلَى الْعِبَادِ كَمَا فِي الْفَاتِحَةِ، لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ سُلُوكِهِ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ لَهُمْ، وَهُمُ الْمَارُّونَ عَلَيْهِ.
الْمَوْضِعُ الثَّامِنُ: مِنْ ذِكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْيِيزِهِمْ عَنْ طَائِفَتَيِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ.
فَانْقَسَمَ النَّاسُ بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَقِّ، وَإِمَّا جَاهِلًا بِهِ، وَالْعَالِمُ بِالْحَقِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِمُوجَبِهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْرُجُونَ عَنْهَا الْبَتَّةَ، فَالْعَالِمُ بِالْحَقِّ الْعَامِلُ بِهِ هُوَ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي زَكَّى نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْمُفْلِحُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] وَالْعَالِمُ بِهِ الْمُتَّبِعُ هَوَاهُ هُوَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ، وَالْجَاهِلُ بِالْحَقِّ هُوَ الضَّالُّ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ ضَالٌّ عَنْ هِدَايَةِ الْعَمَلِ، وَالضَّالُّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ لِضَلَالِهِ عَنِ الْعِلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعَمَلِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَالٌّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ تَارِكَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ أَوْلَى بِوَصْفِ الْغَضَبِ وَأَحَقُّ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الْيَهُودُ أَحَقَّ بِهِ، وَهُوَ مُتَغَلِّظٌ فِي حَقِّهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] وَالْجَاهِلُ بِالْحَقِّ أَحَقُّ بِاسْمِ الضَّلَالِ، وَمِنْ هُنَا وُصِفَتِ النَّصَارَى بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] فَالْأُولَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مَعَ الْيَهُودِ، وَالثَّانِيَةُ فِي سِيَاقِهِ مَعَ النَّصَارَى، وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حَبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ» .
فَفِي ذِكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَاتَّبَعَهُ وَالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مَنْ عَرَفَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَالضَّالِّينَ وَهُمْ مَنْ جَهِلَهُ مَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّ انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ هُوَ الْوَاقِعُ الْمَشْهُودُ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ إِنَّمَا أَوْجَبَهَا ثُبُوتُ الرِّسَالَةِ.
وَأَضَافَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِ، وَحَذَفَ فَاعِلَ الْغَضَبِ لِوُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّ النِّعْمَةَ هِيَ الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ، وَالْغَضَبَ مِنْ بَابِ الِانْتِقَامِ وَالْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةَ تَغْلِبُ الْغَضَبَ، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ أَكْمَلَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَسْبَقَهُمَا وَأَقْوَاهُمَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي إِسْنَادِ الْخَيْرَاتِ وَالنِّعَمِ إِلَيْهِ، وَحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي مُقَابَلَتِهِمَا، كَقَوْلِ مُؤْمِنِي الْجِنِّ {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَضِرِ فِي شَأْنِ الْجِدَارِ وَالْيَتِيمَيْنِ {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82] وَقَالَ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وَقَوْلَهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وَقَوْلَهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ثُمَّ قَالَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .
وَفِي تَخْصِيصِهِ لِأَهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِالنِّعْمَةِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ الْمُطْلَقَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْفَلَاحِ الدَّائِمِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ النِّعْمَةِ فَعَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَكُلُّ الْخَلْقِ فِي نِعْمَةٍ، وَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَةِ: هَلْ لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ مِنْ نِعْمَةٍ أَمْ لَا؟ .
فَالنِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمُطْلَقُ النِّعْمَةِ تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] .
وَالنِّعْمَةُ مِنْ جِنْسِ الْإِحْسَانِ، بَلْ هِيَ الْإِحْسَانُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إِحْسَانُهُ عَلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ الْمُطْلَقُ فَلِلَّذِينِ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالنِّعَمِ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] فَأُضِيفَ إِلَيْهِ مَا هُوَ مُنْفَرِدٌ بِهِ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِهِ فَلِكَوْنِهِ طَرِيقًا وَمَجْرًى لِلنِّعْمَةِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى، بَلْ مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ يَغْضَبُونَ لِغَضَبِهِ، فَكَانَ فِي لَفْظَةِ " {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] " بِمُوَافَقَةِ أَوْلِيَائِهِ لَهُ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِنْعَامِ، وَأَنَّ النِّعْمَةَ الْمُطْلَقَةَ مِنْهُ وَحْدَهُ، هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِهَا مَا لَيْسَ فِي لَفْظَةِ " الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ ".
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِي حَذْفِ فَاعِلِ الْغَضَبِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِإِهَانَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، وَتَحْقِيرِهِ وَتَصْغِيرِ شَأْنِهِ مَا لَيْسَ فِي ذِكْرِ فَاعِلِ النِّعْمَةِ مِنْ إِكْرَامِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَالْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِ، وَرَفْعِ قَدْرِهِ مَا لَيْسَ فِي حَذْفِهِ، فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ قَدْ أَكْرَمَهُ مَلِكٌ وَشَرَّفَهُ وَرَفَعَ قَدْرَهُ، فَقُلْتَ: هَذَا الَّذِي أَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مَا تَمَنَّاهُ، كَانَ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ مِنْ قَوْلِكَ: هَذَا الَّذِي أُكْرِمَ وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَشُرِّفَ وَأُعْطِيَ.
وَتَأَمَّلْ سِرًّا بَدِيعًا فِي ذِكْرِ السَّبَبِ وَالْجَزَاءِ لِلطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَخْصَرِهِ، فَإِنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ إِنْعَامَهُ بِالْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهِيَ الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ، وَيَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْإِنْعَامِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهَذَا تَمَامُ النِّعْمَةِ، وَلَفْظُ " {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] " يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ.
وَذِكْرُ غَضَبِهِ عَلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ أيْضًا أَمْرَيْنِ: الْجَزَاءُ بِالْغَضَبِ الَّذِي مُوجَبُهُ غَايَةُ الْعَذَابِ وَالْهَوَانِ، وَالسَّبَبُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ غَضَبَهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ أَرْحَمُ وَأَرْأَفُ مِنْ أَنْ يَغْضَبَ بِلَا جِنَايَةٍ مِنْهُمْ وَلَا ضَلَالٍ، فَكَأَنَّ الْغَضَبَ عَلَيْهِمْ مُسْتَلْزِمٌ لِضَلَالِهِمْ، وَذِكْرُ الضَّالِّينَ مُسْتَلْزِمٌ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ وَعِقَابِهِ لَهُمْ، فَإِنَّ مَنْ ضَلَّ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي هِيَ مُوجَبُ ضَلَالِهِ وَغَضَبِ اللَّهُ عَلَيْهِ.
فَاسْتَلْزَمَ وَصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ لِلسَّبَبِ وَالْجَزَاءِ أَبْيَنَ اسْتِلْزَامٍ، وَاقْتَضَاهُ أَكْمَلَ اقْتِضَاءٍ فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ، مَعَ ذِكْرِ الْفَاعِلِ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَحَذْفِهِ فِي أَهْلِ الْغَضَبِ، وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى السَّبَبِ فِي أَهْلِ الضَّلَالِ.
وَتَأَمَّلِ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْهِدَايَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، فَذِكْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُهْتَدِينَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، يَقْرِنُ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ، فَالثَّانِي كَقَوْلِهِ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وَقَوْلِهِ {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] وَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] وَقَوْلِهِ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فِي قَوْلِهِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] فَهَذَا الْهُدَى وَالسَّعَادَةُ، ثُمَّ قَالَ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124] فَذَكَرَ الضَّلَالَ وَالشَّقَاءَ.
فَالْهُدَى وَالسَّعَادَةُ مُتَلَازِمَانِ، وَالضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ مُتَلَازِمَانِ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ أَتَمَّ اشْتِمَالٍ، وَتَضَمَّنَتْهَا أَكْمَلَ تَضَمُّنٍ.
فَاشْتَمَلَتْ عَلَى التَّعْرِيفِ بِالْمَعْبُودِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ، مَرْجِعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلْيَا إِلَيْهَا، وَمَدَارُهَا عَلَيْهَا، وَهِيَ: اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ، وَبُنِيَتِ السُّورَةُ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، فَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وَالْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ، فَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَالثَّنَاءُ وَالْمَجْدُ كَمَالَانِ لِجَدِّهِ.
وَتَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ الْمَعَادِ، وَجَزَاءَ الْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ، حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا، وَتَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْحُكْمِ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَكَوْنَ حُكْمِهِ بِالْعَدْلِ، وَكُلُّ هَذَا تَحْتَ قَوْلِهِ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] .
وَتَضَمَّنَتْ إِثْبَاتَ النُّبُوَّاتِ مِنْ جِهَاتٍ عَدِيدَةٍ:
أَحَدُهَا: كَوْنُهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ عِبَادَهُ سُدًى هَمَلًا لَا يُعَرِّفُهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ فِيهِمَا، فَهَذَا هَضْمٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَنِسْبَةُ الرَّبِّ تَعَالَى إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ.
الثَّانِي: أَخْذُهَا مِنَ اسْمِ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ، وَلَا سَبِيلَ لِلْعِبَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ عِبَادَتِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ.
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: مِنِ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ تَمْنَعُ إِهْمَالَ عِبَادِهِ، وَعَدَمَ تَعْرِيفِهِمْ مَا يَنَالُونَ بِهِ غَايَةَ كَمَالِهِمْ، فَمَنْ أَعْطَى اسْمَ الرَّحْمَنِ حَقَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، أَعْظَمَ مِنْ تَضَمُّنِهِ إِنْزَالَ الْغَيْثِ، وَإِنْبَاتَ الْكَلَأِ، وَإِخْرَاجَ الْحَبِّ، فَاقْتِضَاءُ الرَّحْمَةِ لِمَا تَحْصُلُ بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ أَعْظَمُ مِنِ اقْتِضَائِهَا لِمَا تَحْصُلُ بِهِ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَشْبَاحِ، لَكِنِ الْمَحْجُوبُونَ إِنَّمَا أَدْرَكُوا مِنْ هَذَا الِاسْمِ حَظَّ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ، وَأَدْرَكَ مِنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ أَمْرًا وَرَاءَ ذَلِكَ.
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ الدِّينِ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يُدِينُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُثِيبُهُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ أحَدًا قَبْلَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، وَبِهِمُ اسْتُحِقَّ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَبِهِمْ قَامَ سُوقُ يَوْمِ الدِّينِ، وَسِيقَ الْأَبْرَارُ إِلَى النَّعِيمِ، وَالْفُجَّارُ إِلَى الْجَحِيمِ.
الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ: مِنْ قَوْلِهِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فَإِنَّ مَا يُعْبَدُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ شُكْرُهُ وَحُبُّهُ وَخَشْيَتُهُ فِطْرِيٌّ وَمَعْقُولٌ لِلْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، لَكِنَّ طَرِيقَ التَّعَبُّدِ وَمَا يُعْبَدُ بِهِ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِرُسُلِهِ وَبَيَانِهِمْ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ، يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ الْعَالَمِ عَنْهُ، كَمَا يَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُهُ عَنِ الصَّانِعِ، فَمَنْ أَنْكَرَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَنْكَرَ الْمُرْسِلَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكُفْرَ بِرُسُلِهِ كُفْرًا بِهِ.
الْمَوْضِعُ السَّادِسُ: مِنْ قَوْلِهِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فَالْهِدَايَةُ: هِيَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ وَالْإِلْهَامُ، وَهُوَ بَعْدَ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، فَإِذَا حَصَلَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالَتَّعْرِيفُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ، وَجَعْلُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَتَحْبِيبُهُ إِلَيْهِ، وَتَزْيِينُهُ فِي الْقَلْبِ، وَجَعْلُهُ مُؤْثِرًا لَهُ، رَاضِيًا بِهِ، رَاغِبًا فِيهِ.
وَهُمَا هِدَايَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، لَا يَحْصُلُ الْفَلَاحُ إِلَّا بِهِمَا، وَهُمَا مُتَضَمِّنَتَانِ تَعْرِيفَ مَا لَمْ نَعْلَمْهُ مِنَ الْحَقِّ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، وَإِلْهَامَنَا لَهُ، وَجَعْلَنَا مُرِيدِينَ لِاتِّبَاعِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ خَلْقُ الْقُدْرَةِ لَنَا عَلَى الْقِيَامِ بِمُوجَبِ الْهُدَى بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْعَزْمِ، ثُمَّ إِدَامَةُ ذَلِكَ لَنَا وَتَثْبِيتُنَا عَلَيْهِ إِلَى الْوَفَاةِ.
وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ اضْطِرَارُ الْعَبْدِ إِلَى سُؤَالِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِذَا كُنَّا مُهْتَدِينَ، فَكَيْفَ نَسْأَلُ الْهِدَايَةَ؟ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ لَنَا مِنَ الْحَقِّ أَضْعَافُ الْمَعْلُومِ، وَمَا لَا نُرِيدُ فِعْلَهُ تَهَاوُنًا وَكَسَلًا مِثْلُ مَا نُرِيدُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ، وَمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا نُرِيدُهُ كَذَلِكَ، وَمَا نَعْرِفُ جُمْلَتَهُ وَلَا نَهْتَدِي لِتَفَاصِيلِهِ فَأَمْرٌ يَفُوتُ الْحَصْرَ، وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْهِدَايَةِ التَّامَّةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورُ كَانَ سُؤَالُ الْهِدَايَةِ لَهُ سُؤَالَ التَّثْبِيتِ وَالْوِئَامِ.
وَلِلْهِدَايَةِ مَرْتَبَةٌ أُخْرَى وَهِيَ آخِرُ مَرَاتِبِهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهَا، فَمَنْ هُدِيَ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، هُدِيَ هُنَاكَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الْمُوَصِّلِ إِلَى جَنَّتِهِ وَدَارِ ثَوَابِهِ، وَعَلَى قَدْرِ ثُبُوتِ قَدَمِ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَكُونُ ثُبُوتُ قَدَمِهِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمَنْصُوبِ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَعَلَى قَدْرِ سَيْرِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّرَاطِ يَكُونُ سَيْرُهُ عَلَى ذَاكَ الصِّرَاطِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالطَّرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرِّكَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى سَعْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَخْدُوشُ الْمُسَلَّمُ، وَمِنْهُمُ الْمُكَرْدَسُ فِي النَّارِ، فَلْيَنْظُرِ الْعَبْدُ سَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ الصِّرَاطِ مِنْ سَيْرِهِ عَلَى هَذَا، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، جَزَاءً وِفَاقًا {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] .
وَلْيَنْظُرِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنْ سَيْرِهِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهَا الْكَلَالِيبُ الَّتِي بِجَنَبَتَيْ ذَاكَ الصِّرَاطِ، تَخْطَفُهُ وَتَعُوقُهُ عَنِ الْمُرُورِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَثُرَتْ هُنَا وَقَوِيَتْ فَكَذَلِكَ هِيَ هُنَاكَ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
فَسُؤَالُ الْهِدَايَةِ مُتَضَمِّنٌ لِحُصُولِ كُلِّ خَيْرٍ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
الْمَوْضِعُ السَّابِعُ: مِنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِ الْمَسْئُولِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَلَا تَكُونُ الطَّرِيقُ صِرَاطًا حَتَّى تَتَضَمَّنَ خَمْسَةَ أُمُورٍ: الِاسْتِقَامَةَ، وَالْإِيصَالَ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَالْقُرْبَ، وَسَعَتَهُ لِلْمَارِّينَ عَلَيْهِ، وَتَعَيُّنَهُ طَرِيقًا لِلْمَقْصُودِ، وَلَا يَخْفَى تَضَمُّنُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ.
فَوَصْفُهُ بِالِاسْتِقَامَةِ يَتَضَمَّنُ قُرْبَهُ، لِأَنَّ الْخَطَّ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ أَقْرَبُ خَطٍّ فَاصِلٍ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ، وَكُلَّمَا تَعَوَّجَ طَالَ وَبَعُدَ، وَاسْتِقَامَتُهُ تَتَضَمَّنُ إِيصَالَهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَنَصْبُهُ لِجَمِيعِ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ سَعَتَهُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَوَصْفُهُ بِمُخَالَفَةِ صِرَاطِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ يَسْتَلْزِمُ تَعَيُّنَهُ طَرِيقًا.
وَالصِّرَاطُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى اللَّهِ، إِذْ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ وَنَصَبَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] وَقَولِهِ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52] وَتَارَةً يُضَافُ إِلَى الْعِبَادِ كَمَا فِي الْفَاتِحَةِ، لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ سُلُوكِهِ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ لَهُمْ، وَهُمُ الْمَارُّونَ عَلَيْهِ.
الْمَوْضِعُ الثَّامِنُ: مِنْ ذِكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْيِيزِهِمْ عَنْ طَائِفَتَيِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ.
فَانْقَسَمَ النَّاسُ بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَقِّ، وَإِمَّا جَاهِلًا بِهِ، وَالْعَالِمُ بِالْحَقِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِمُوجَبِهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْرُجُونَ عَنْهَا الْبَتَّةَ، فَالْعَالِمُ بِالْحَقِّ الْعَامِلُ بِهِ هُوَ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي زَكَّى نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْمُفْلِحُ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] وَالْعَالِمُ بِهِ الْمُتَّبِعُ هَوَاهُ هُوَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ، وَالْجَاهِلُ بِالْحَقِّ هُوَ الضَّالُّ، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ ضَالٌّ عَنْ هِدَايَةِ الْعَمَلِ، وَالضَّالُّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ لِضَلَالِهِ عَنِ الْعِلْمِ الْمُوجِبِ لِلْعَمَلِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَالٌّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ تَارِكَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ أَوْلَى بِوَصْفِ الْغَضَبِ وَأَحَقُّ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الْيَهُودُ أَحَقَّ بِهِ، وَهُوَ مُتَغَلِّظٌ فِي حَقِّهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] وَالْجَاهِلُ بِالْحَقِّ أَحَقُّ بِاسْمِ الضَّلَالِ، وَمِنْ هُنَا وُصِفَتِ النَّصَارَى بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] فَالْأُولَى فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مَعَ الْيَهُودِ، وَالثَّانِيَةُ فِي سِيَاقِهِ مَعَ النَّصَارَى، وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حَبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ» .
فَفِي ذِكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَاتَّبَعَهُ وَالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مَنْ عَرَفَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَالضَّالِّينَ وَهُمْ مَنْ جَهِلَهُ مَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، لِأَنَّ انْقِسَامَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ هُوَ الْوَاقِعُ الْمَشْهُودُ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ إِنَّمَا أَوْجَبَهَا ثُبُوتُ الرِّسَالَةِ.
وَأَضَافَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِ، وَحَذَفَ فَاعِلَ الْغَضَبِ لِوُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّ النِّعْمَةَ هِيَ الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ، وَالْغَضَبَ مِنْ بَابِ الِانْتِقَامِ وَالْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةَ تَغْلِبُ الْغَضَبَ، فَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ أَكْمَلَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَسْبَقَهُمَا وَأَقْوَاهُمَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي إِسْنَادِ الْخَيْرَاتِ وَالنِّعَمِ إِلَيْهِ، وَحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي مُقَابَلَتِهِمَا، كَقَوْلِ مُؤْمِنِي الْجِنِّ {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَضِرِ فِي شَأْنِ الْجِدَارِ وَالْيَتِيمَيْنِ {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82] وَقَالَ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وَقَوْلَهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وَقَوْلَهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ثُمَّ قَالَ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .
وَفِي تَخْصِيصِهِ لِأَهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِالنِّعْمَةِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ الْمُطْلَقَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْفَلَاحِ الدَّائِمِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ النِّعْمَةِ فَعَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَكُلُّ الْخَلْقِ فِي نِعْمَةٍ، وَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَةِ: هَلْ لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ مِنْ نِعْمَةٍ أَمْ لَا؟ .
فَالنِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمُطْلَقُ النِّعْمَةِ تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] .
وَالنِّعْمَةُ مِنْ جِنْسِ الْإِحْسَانِ، بَلْ هِيَ الْإِحْسَانُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إِحْسَانُهُ عَلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ الْمُطْلَقُ فَلِلَّذِينِ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالنِّعَمِ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] فَأُضِيفَ إِلَيْهِ مَا هُوَ مُنْفَرِدٌ بِهِ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِهِ فَلِكَوْنِهِ طَرِيقًا وَمَجْرًى لِلنِّعْمَةِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى، بَلْ مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ يَغْضَبُونَ لِغَضَبِهِ، فَكَانَ فِي لَفْظَةِ " {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] " بِمُوَافَقَةِ أَوْلِيَائِهِ لَهُ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِنْعَامِ، وَأَنَّ النِّعْمَةَ الْمُطْلَقَةَ مِنْهُ وَحْدَهُ، هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِهَا مَا لَيْسَ فِي لَفْظَةِ " الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ ".
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِي حَذْفِ فَاعِلِ الْغَضَبِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِإِهَانَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، وَتَحْقِيرِهِ وَتَصْغِيرِ شَأْنِهِ مَا لَيْسَ فِي ذِكْرِ فَاعِلِ النِّعْمَةِ مِنْ إِكْرَامِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَالْإِشَادَةِ بِذِكْرِهِ، وَرَفْعِ قَدْرِهِ مَا لَيْسَ فِي حَذْفِهِ، فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ قَدْ أَكْرَمَهُ مَلِكٌ وَشَرَّفَهُ وَرَفَعَ قَدْرَهُ، فَقُلْتَ: هَذَا الَّذِي أَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مَا تَمَنَّاهُ، كَانَ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ مِنْ قَوْلِكَ: هَذَا الَّذِي أُكْرِمَ وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَشُرِّفَ وَأُعْطِيَ.
وَتَأَمَّلْ سِرًّا بَدِيعًا فِي ذِكْرِ السَّبَبِ وَالْجَزَاءِ لِلطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَخْصَرِهِ، فَإِنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ إِنْعَامَهُ بِالْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهِيَ الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ، وَيَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْإِنْعَامِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهَذَا تَمَامُ النِّعْمَةِ، وَلَفْظُ " {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] " يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ.
وَذِكْرُ غَضَبِهِ عَلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ أيْضًا أَمْرَيْنِ: الْجَزَاءُ بِالْغَضَبِ الَّذِي مُوجَبُهُ غَايَةُ الْعَذَابِ وَالْهَوَانِ، وَالسَّبَبُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ غَضَبَهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ أَرْحَمُ وَأَرْأَفُ مِنْ أَنْ يَغْضَبَ بِلَا جِنَايَةٍ مِنْهُمْ وَلَا ضَلَالٍ، فَكَأَنَّ الْغَضَبَ عَلَيْهِمْ مُسْتَلْزِمٌ لِضَلَالِهِمْ، وَذِكْرُ الضَّالِّينَ مُسْتَلْزِمٌ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ وَعِقَابِهِ لَهُمْ، فَإِنَّ مَنْ ضَلَّ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي هِيَ مُوجَبُ ضَلَالِهِ وَغَضَبِ اللَّهُ عَلَيْهِ.
فَاسْتَلْزَمَ وَصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ لِلسَّبَبِ وَالْجَزَاءِ أَبْيَنَ اسْتِلْزَامٍ، وَاقْتَضَاهُ أَكْمَلَ اقْتِضَاءٍ فِي غَايَةِ الْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ، مَعَ ذِكْرِ الْفَاعِلِ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَحَذْفِهِ فِي أَهْلِ الْغَضَبِ، وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى السَّبَبِ فِي أَهْلِ الضَّلَالِ.
وَتَأَمَّلِ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْهِدَايَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، فَذِكْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُهْتَدِينَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، يَقْرِنُ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ، فَالثَّانِي كَقَوْلِهِ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وَقَوْلِهِ {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] وَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] وَقَوْلِهِ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فِي قَوْلِهِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] فَهَذَا الْهُدَى وَالسَّعَادَةُ، ثُمَّ قَالَ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124] فَذَكَرَ الضَّلَالَ وَالشَّقَاءَ.
فَالْهُدَى وَالسَّعَادَةُ مُتَلَازِمَانِ، وَالضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ مُتَلَازِمَانِ.
تعليق